Translate

مشاري راشد {سورة الطلاق}

الجمعة، 8 مارس 2024

أهوال القبور للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله


أهوال القبور
للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام العالم العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الصالح شهاب الدين أحمد بن رجب رحمه الله تعالى :
الحمد لله الذي أسكن عباده هذه الدار , وجعلها لهم منزلة سفر من الأسفار , وجعل الدار الآخرة هي دار القرار ، وجعل بين الدنيا والآخرة برزخاً يدلّ على فناء الدنيا باعتبار ، وهو في الحقيقة إما روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار ، ويرفق بعباده الأبرار في جميع الأقطار وسبق رحمته بعباده غضبه ، وهو الرحيم الغفار ، أحمده على نعمه الغزار ، وأشكره ، وفضله على من شكر مدرار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المختار ، الرسول المبعوث بالتيسير والإنذار ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله و صحبه صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والأبكار .
أما بعد : فإن الله سبحانه وتعالى خلق بني آدم للبقاء لا للفناء ، وإنما ينقلهم بعد خلقهم من دار إلى دار ، كما قال ذلك طائفة من السلف الأخيار ، منهم بلال بن سعد ، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما ، فأسكنهما في هذه الدار ، ليبلوهم أيُّهم أحسن عملاً ، ثم ينقلهم إلى دار البرزخ فيحبسهم هنالك إلى أن يجمعهم يوم القيامة ويجزي كل عاملٍ جزاء عمله مفصّلاً هذا مع أنهم في دار البرزخ بأعمالهم مدانون مكافؤن ، فمكرَّمون بإحسانهم وبإساءتهم مهانون ، قال الله سبحانه وتعالى : { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } قال مجاهد : البرزخ الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا ، وعنه قال : هو ما بين الموت إلى البعث ، قال الحسن : هي هذه القبور التي بينكم وبين الآخرة ، وعنه قال أبو هريرة : هي هذه القبور التي تركضون عليها لايسمعون الصوت , وقال عطاء الخرساني : البرزخ مدة ما بين الدنيا والآخرة , وصلى أبو أمامة على جنازة فلما وضعت في لحدها , قال أبوأمامة : هذا برزخ إلى يوم يبعثون .
وقيل للشَّعبي مات فلان قال : ليس هو في الدنيا ولا في الآخرة هو في برزخ ، وسمع رجلا يقول : مات فلان أصبح من أهل الآخرة . قال : لا تقل من أهل الآخرة ! ولكن قل من أهل القبور .
وقد سألني بعض الإخوان الصالحين أن أجمع لهم ما ورد من أخبار البرزخ وأحوال الموتى الذاهبين ، فإن في سماع ذلك للقلوب عظة ، وهو يحدث لأهل الغفلة الانتباه واليقظة ، فاستخرت الله تعالى في جمع ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة وأخبار سلف الأمة ، وما ورد في الاتعاظ بالقبور وكلام الحكماء من منظوم ومنثور ، كل ذلك على وجه الاختصار ، لأن استيعاب ذلك يوجب الملل للإطالة والإكثار .
والله المسؤول أن يجعلنا ممن يبادر الفوت ، ويراقب الموت ويتأهب للرحلة قبل الممات ، وينتفع بما سمع من العظات بمنَّه وكرمه .
وقد قسمته ثلاثة عشر باباً ، والله المسؤول أن يجعله عملاً خالصاً صواباً :
الباب الأول : في ذكر حال الميِّت عند نزوله قبره وسؤال الملائكة له وما يفسح له في قبره أو يضيق عليه وما يرى من منزله في الجنة أو في النار .
الباب الثاني : في ذكر كلام القبر عند نزوله إليه .
الباب الثالث : في اجتماع الموتى إلى الميت عند موته وسؤالهم إياه .
الباب الرابع : في اجتماع أعمال الميت إليه من خير أو شر ومدافعتها عنه وكلامها له وما ورد من تحسر الموتى على انقطاع أعمالهم ومن أكرم منهم ببقاء عمله عليه .
الباب الخامس : في عرض منازل أهل القبور عليهم من الجنَّة أو النار بكرةً وعشياً .
الباب السادس : في ذكر عذاب القبر ونعيمه .
الباب السابع : في ما ورد من تلاقي أرواح الموتى في البرزخ وتزاورهم .
الباب الثامن : في ما ورد من سماع الموتى كلام الأحياء ومعرفتهم بمن يسلم عليهم ويزورهم ومعرفتهم بحالهم بعد الموت وبحال أقاربهم في الدنيا .
الباب التاسع : في ذكر محل أرواح الموتى في البرزخ .
الباب العاشر : في ذكر القبور وظلمتها على أهلها وتنويرها عليهم بدعاء الأحياء وما ورد من حاجة الموتى إلى دعاء الأحياء وانتظارهم لذلك .
الباب الثالث عشر : في ذكر كلمات منتخبة من كلام السلف الصالح في الاتعاظ بالقبور ، وما ورد عنهم في ذلك من منظوم ومنثور .
وسميته كتاب : " أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور " .
والله المسؤول أن يجعله خالصاً لوجهه مقرباً إليه نافعاً في الدنيا و الآخرة لجامعه ومن وقف عليه ؛ إنه أكرم المسؤولين وأعظم المأمولين .
الباب الأول
في ذكر حال الميت عند نزوله قبره وسؤال الملائكة له وما يفسح له في قبره أو يضيق عليه وما يرى من منزله في الجنة أو النار
1- 
قال الله تعالى :{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } وخرجا في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } نزلت في عذاب القبر ، زاد مسلم : "يقال له : من ربك ؟ فيقول ربي الله ونبيي محمد ، فذلك قوله سبحانه وتعالى :{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } .
2- 
وفي رواية للبخاري قال : إذا أُقعد [ العبد ] المؤمن في قبره أتى ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله :{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت [ في الحياة الدنيا و في الآخرة ] } .
3- 
وخرج الطبراني من حديث البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقال للكافر : من ربك ؟ فيقول : لا أدري ، فهو تلك الساعة أصم أعمى أبكم ، فيضرب بمرزبة لو ضرب بها جبل صار تراباً فيسمعها كل شيء غير الثقلين " ، قال : وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } .
4- 
وخرج أبو داود من حديث المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : " إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولَّوا مدبرين حين يقال له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ ، " وفي رواية له قال : ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله فيقولان ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولان له : وما يدريك ، فيقول قرأت كتاب الله ، فآمنت به وصدقت ، " وفي رواية له " فذلك قوله عز وجل { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } الآية . قال : فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة ، وافتحوا له باباً الى الجنة وألبسوه من الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره " قال : وذكر الكافر قال " وتعاد روحه إلى جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له: ما دينك فيقول : هاه هاه لا أدري ، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار قال : فيأتيه من حرِّها وسمومها ، " قال "ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه " .
وفي رواية له " ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً " قال: فيضربه ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين ، فيصير تراباً " قال " ثم تعاد فيه الروح " .
5- 
وخرجه النسائي وابن ماجة مختصراً ، وخرجه الإمام أحمد بسياق مطول والحاكم وقال على شرط الشيخين . وفي رواية للإمام أحمد " ثم يقيض له أعمى أبكم أصم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان تراباً فيضربه ضربة فيصير تراباً ثم يعيده الله كما كان . فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين " .
قال البراء بن عازب : " ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار " كذا خرجه من رواية يونس بن خباب عن المنهال بن عمرو .
6- 
وخرجه ابن مندة من هذا الوجه أيضاً وزاد في حديثه " لو اجتمع عليها الثقلان ليقلبوها لم يستطيعوا فيضربه بها ضربة يصير تراباً ، وتعاد فيه الروح فيضربه بين عينيه ضربة فيسمعها من على الأرض ليس الثقلين فينادي مناد : أن افرشوا له لو حين من نار وافتحوا له باباً إلى النار " .
7 –
وخرجه أيضاً من طريق عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال فيه في حق المؤمن " فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما و (( يفحصان )) الأرض بأشعارهما فيجلسانه " .
وذكر في الكافر مثل ذلك وزاد فيه " أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف " وقال " فيضربانه بمزربة من حديد لو اجتمع عليها ما بين الخافقين لم تقدر تقل " .
8 – 
وخرجا في الصحيحين من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة قال : فيراهما جميعاً " قال وذكر لنا أنه يفسح له في قبره مد بصره ثم رجع إلى حديث أنس قال " وأما المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضرب فيصيح صيحة يسمها من يليه غير الثقلين " .
9 – 
وخرجه أبو داود بزيادات أخر منها " إن المؤمن يقال له ما كنت تعبد فإن الله هداه ، قال كنت أعبد الله فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول هو عبد الله ورسوله ، فما يسأل عن شيء غيرها وزاد فيه أيضاً " فيقول دعوني حتى [ أذهب ] فأبشر أهلي فيقال له أسكن " .
وذكر في الكافر " إنه يسأل عما كان يعبد ثم عن هذا الرجل " .
10- 
وخرجا في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم كسفت الشمس " ولقد أوحي إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال يؤتى أحدكم ، فيقال له : ما علمك بهذا الرجل ، فأما المؤمن أو الموقن فيقول : محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى ، فأجبنا وآمنا واتبعنا ، فيقال له : نم صالحاً ، فقد علمنا إن كنت لمؤمناً ، وأما المنافق والمرتاب فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " .
11 – 
وخرجه الإمام أحمد ولفظه : "ولقد أوحي إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم ويسأل الرجل ما كنت تقول : وما كنت تعبد ؟ فإن قال : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ويصنعون شيئاً فصنعته . قيل له أجل على شك عشت وعليه مت هذا مقعدك من النار ، وإن قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداًرسول الله ، قيل له : على اليقين عشت وعليه مت هذا مقعدك من الجنة " .
12 – 
وخرج الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما : المنكر ، والآخر النكير ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول ما كان يقول : هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين ذراعاً ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال له : نم ، فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ، وإن كان منافقاً قال : سمعت الناس يقولون شيئاً ، فقلت مثله لا أدري ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ، فيقال للأرض التئمي عليه ، فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه ، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه " .
13- 
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة أيضاً عن النبي - الله عليه وسلم - قال : [ إن الميت يصير إلى القبر ] ويجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشغوف ، ثم يقال له : فيم كنت ، فيقول : كنت في الإسلام فيقال له : ما هذا الرجل ؟ فيقول محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءنا بالبينات ممن عند الله فصدقناه فيقال له : هل رأيت الله ؟ فيقول : ما ينبغي لأحد أن يرى الله فيفرج له فرجة قبل النار . فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال له : انظر إلى ما وقاك الله ، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له : هذا مقعدك [ ويقال له ] على اليقين كنت وعليه مت ، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى ، ويجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مشغوفاً فيقال له : فيم كنت ؟ فيقول : لا أدري ، فيقال له : ما هذا الرجل ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون قولاً فقلته فيفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له : انظر إلى ما صرف الله عنك ، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال له هذا مقعدك ، على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله [ تعالى ] " .
14 – 
وخرج الطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : شهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة فلما فرغ من دفنها وانصرف الناس قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - " إنه الآن يسمع خفق نعالهم ، أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس ، وأنيابهما مثل صياصي البقر ، وأصواتهما مثل الرعد ، فيجلسانه فيسألانه ما كان يعبد . ومن كان نبيه ، فإن كان ممن يعبد الله قال : كنت أعبد الله ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا فذلك قول الله تعالى { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الآية فيقال له : على اليقين حييت وعليه مت وعليه تبعث ، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويوسع له في حفرته ، وإن كان من أهل الشك قال : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته . فيقال له : على الشك حييت وعليه مت وعليه تبعث ، ثم يفتح له باب إلى النار ويسلط عليه عقارب وتنانين لو نفخ أحدهم في الدنيا ما أنبتت شيئاً تنهشه وتؤمر الارض فتنظم حتى تختلف أضلاعه " .
15 – 
وخرج الإمام أحمد من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قال إن هذه الأمه تبتلى في قبورها فإذا دخل المؤمن قبرة وتولى عنه أصحابه جاءه ملك شديد الإنتهار فيقول له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول المؤمن : إنه عبد الله ورسوله فيقول له الملك : انظر إلى مقعدك من النار ، قد أنجاك الله منه وأبدلك بمقعدك الذي ترى من الجنة فيراهما كليهما فيقول المؤمن : دعوني أبشِّر أهلي ؟ فيقال له : اسكن ، وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أصحابه وأهله فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ قال : لا أدري ، أقول ما يقول الناس . فيقال : لا دريت هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة أبدلك الله به مقعدك من النار .
16- 
قال جابر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يبعث كل عبد على ما مات عليه ، المؤمن على إيمانه ، والمنافق على نفاقه .
17 – 
وأخرج ابن ماجه من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخل الميت القبر مثلت الشمس عند غروبها فيجلس يمسح عينيه ويقول دعوني أصلي " .
18 – 
وخرج الإمام أحمد أيضاً من حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون ، فإذا كان الرجل الصالح أجلس في قبره غير فزع ولا مشعوف ثم يقال له : فيم كنت ؟ فيقول : في الإسلام ، فيقال : ما هذا الرجل الذي كان فيكم ؟ فيقول : محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى من عند الله فصدقناه ، فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال له انظر إلى ما وقاك الله منه ، ثم يفرج له فرجه قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها ، فيقال : هذا مقعدك منها ويقال له : على اليقين كنت ، وعليه مت ، وعليه تبعث إن شاء الله ، وإن كان الرجل السوء أجلس في قبره فزعاً مشغوفاً فيقال له فيم كنت ؟ فيقول : لا أدري فيقال : ما هذا الرجل الذي كان فيكم ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون قولاً فقلت كما قالوا ، فيفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها ، فيقال له : أنظر إلى ما صرف الله عنك ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً ، ويقال له هذا مقعدك منها ، على الشك كنت ، وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يعذب " .
19- 
وخرج الإمام أحمد أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري قال : شهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازةً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ، فإذا دفن الإنسان وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك في يده مطراق فأقعده ، قال : ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقول [ له ] صدقت . ثم يفتح له باباً إلى النار فيقول هذا كان منزلك لو كفرت بربك ، فأما إذا آمنت بربك فهذا منزلك فيفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض إليه فيقول له : اسكن ويفسح له في قبره ، وإن كان كافراً أو منافقاً فيقول له : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً فيقول : لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باباً إلى الجنة فيقول له : هذا منزلك لو آمنت بربك ، فأما إذا كفرت به فإن الله [ عز وجل ] أبدلك [ به ] هذا ويفتح له باب إلى النار ثم يقمعه قمعة بالمطراق يسمعها خلق الله [ عز وجل ] كلهم غير الثقلين " . فقال بعض القوم : يا رسول الله ما أحد يقوم عليه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .
20- 
وخرج أبو بكر الخلال في كتاب السنة من حديث عمر بن الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كيف أنت يا عمر إذا كنت من الارض في أربعة أذرع في ذراعين فرأيت منكراً ونكيراً ، قلت : يا رسول الله وما منكر ونكير ، قال فتانا القبر يبحثان الأرض بأنيابهما ، ويطآن في أشعارهما ، أصواتهما كالرعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، ومعهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقدروا رفعها هي أيسر عليهما من عصاي هذه " قال : قلت : يا رسول الله وأنا على حالي هذه ؟ قال : " نعم " . فقلت : إذا أكفيكهما . وفي رواية أيضاً " فامتحناك فإن التويت ضرباك ضربة صرت رماداً " وفي إسناده ضعف .
21- 
وخرجه الأسماعيلي من وجه آخر فيه ضعف أيضاً عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه وزاد فيه " يأتيان الرجل في صورة قبيحة يطآن على شعورهما ، ويحفران الأرض بأنيابهما " وزاد فيه " يقولان له : من ربك ؟ فإن كان مسلماً يقول : ربي الله , وإن كان فاجراً فيقول : لا أدري ، فيضربانه ضربه لو كان جبلاً صار تراباً فيصيح صيحةً ما يبقى شيء إلا سمعها إلا الثقلين الجن والإنس . فذلك قوله سبحانه وتعالى { ويلعنهم اللاعنون } .
22- 
وقد رويَ حديث عمر هذا من وجوه أخرى مرسلة وخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر فتاني القبر فقال عمر : أترد إلينا عقولنا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كهيئتكم اليوم " فقال عمر : بفيه الحجر .
23- 
وخرج أبو داوود عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال : كان النبي - صلى الله عليه - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فأنه الآن يُسأل " .
24- 
وفي حديث يونس عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر سؤال المؤمن في قبره وإن الملك ينتهره قال : وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذكر قوله تعالى { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } الآية , أخرجه الإمام أحمد .
25- 
وكذا رواه جرير عن الأعمش عن المنهال وفي حديثه " إن المؤمن يقول ذلك ثلاث مرات ثم ينتهرانه انتهارة شديدة وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن " .
26- 
ورواه أبو عوانه عن الأعمش وفي حديثه " ويأتيه ملكان شديدا الانتهار " . وذكر في حق الكافر والمؤمن , وقد روي عن مجاهد أن الموتى كانوا يفتنون في قبورهم سبعاً فكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام .
27- 
وعن عبيد بن عمير قال : المؤمن يفتن سبعاً والمنافق أربعين صباحاً .
28- 
وقال الإمام أحمد أخبرنا يزيد بن هارون عن المسعودي عن العلاء بن الشخير حدثنا بعض حفدة أبي موسى الأشعري أن أبا موسى الأشعري أوصاهم قال : إذا حفرتم فأعمقوا قعره أما أني والله لأقول لكم ذلك وأني لأعلم إن كنت من أهل طاعة الله ليفسحن لي في قبري ولينور لي فيه . ثم ليفتحن لي باب مساكني في الجنة فما أنا بمساكني من داري هذه بأعلم من مساكني منها ، ثم ليأتيني من روحها وريحتها وريحانها . ولئن كنت من أهل المنزلة الأخرى ليضيقن علي قبري ، وليهدمنَّ على الأرض ، وليفتحن الله إلى باب مساكني من النار ، فما أنا بمساكني من داري هذه بأعلم من مساكني منها ، ثم ليأتيني من شرها ، وشرورها ودخانها .
29- 
وروى المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه قال : قال عبد الله – يعني ابن مسعود – إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له ، من ربك ، ما دينك ، من نبيك ؟ قال : فيثبته الله تعالى فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام و نبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - فيوسع له في قبره ويفرج له فيه ، ثم قرأ عبد الله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الآية .
30- 
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا أحمد بن بحير حدثنا بعض أصحابنا قال : مات أخ لي فرأيته في النوم فقلت له : ما حالك حين وضعت في قبرك ؟ قال : أتاني آت بشهاب من نار ، فلولا أن داعياً دعا لي لرأيت أنه سيضربني .
فصل
وقد أطلع الله من شاء من عباده على كثير ممَّا ورد في هذه الأحاديث حتى سمعوه وشاهدوه عياناً ، ونحن نذكر بعض ما بلغنا من ذلك :
31- 
روى شبابة بن سوار حدثنا المغيرة بن مسلم عن حصين عن عبد الله بن عبيد الأنصاري قال : كنت ممن دفن ثابت بن قيس بن شماس ، وكان أصيب يوم اليمامة ، فلما أدخلناه القبر سمعناه يقول : محمد رسول الله أبو بكر الصديق ، عمر الشهيد ، عثمان الرحيم ، فنظرنا فإذا هو ميت .
خرجه أبو عبد الله بن مجلز عن محمد بن عبد الله الأصم عن شبابة بن سوار بن محمد .
32- 
وخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت عن خلف البزار عن خالد الطحان عن حصين به ولفظه : إن رجلاً من قتلى مسيلمة تكلم فقال : محمد رسول الله ، أبو بكر الصديق ، عثمان اللين الرحيم .
33-
وخرجه ابن الدنيا من طريق يزيد بن طريف ، قال مات أخي فلما ألحدوه وانصرف الناس وضعت رأسي على قبره فسمعت صوتاً ضعيفاً أعرف أنه صوت أخي وهو يقول الله فقال له الآخر فما دينك ؟ قال : الإسلام .
34- 
ومن طريق العلاء بن عبد الكريم قال : مات رجل ، وكان له أخ ضعيف البصر قال أخوه : فدفنّاه ، فلما انصرف الناس وضعت رأسي على القبر فإذا أنا بصوت من داخل القبر يقول : من ربك ، ومن نبيك ؟ فسمعت صوت أخي وهو يقول : الله ، قال الآخر : فما دينك ؟ قال : الإسلام .
35- 
وخرجه في كتاب القبور بلفظ آخر وهو : قال : فإذا أنا بصوت داخل القبر يقول : من ربك ومن نبيك ؟ فسمعت أخي وعرفته وعرفت صوته قال : الله ربي ، ومحمد نبيي ثم ارتفع شبه سهم من داخل القبر إلى أذني فاقشعر جلدي وانصرفت .
36- 
وقال أبو الحسن بن البراء العبدي في كتاب الروضة : حدثني الفضل بن سهل الأعرج قال أحمد بن نصر : حدثني رجل رفعه إلى الضحاك قال :توفي أخ لي فدفن قبل أن ألحق جنازته فأتيت قبره فاستمعت عليه فإذا هو يقول : ربي الله والإسلام ديني .
37- 
وروينا من طريق مزداد بن جميل قال : قال أبوه المغيرة ما رأيت مثل المعافي بن عمران بعدما دفن فسمعه وهو يلقن في قبره وهو يقول : لا إله إلا الله ، فيقول المعافي : لا إله إلا الله وهو يلقّن في قبره .
38 
وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب القبور من حديث يزيد بن حوشب قال : كنت جالساً عند يوسف بن عمرو ، وإلى جانبه رجل كأن شق وجهه صفحة من حديد : فقال : حدث يزيد بما رأيت قال : كنت شاباً قد أتيت هذه الفواحش فلما وقع الطاعون ، قلت أخرج إلى ثغر من هذه الثغور ، ثم رأيت أن أحفر القبور فإني لليلة بين المغرب والعشاء قد حفرت قبراً وأنا متكىء على تراب آخر ، إذ أقبل بجنازة رجل حتى دفن في ذلك القبر ، وسوينا عليه التراب ، فأقبل طائران أبيضان من المغرب مثل البعيرين حتى سقط أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ثم آثاراه ثم تدلى أحدهما في القبر ، والآخر على شفيره قال : فجئت فجلست على شفير القبر ، وكنت رجلاً لا يملأ جوفي شيء ، قال : فضرب بيده غلى حقوه ، فسمعته يقول : ألست الزائر أصهارك في ثوبين ممصرين تسحبهما كبراً تمشي الخيلاء ، فقال أضعف من ذلك ، فضربه ضربة إمتلأ القبر حتى فاض ماء أو دهناً ، قال ثم عاد فعاد عليه مثل القول الأول حتى ضربه ثلاث ضربات ، كل ذلك يقول له ويذكر أن القبر يفيض ماء ، أو دهناً ، قال ثم رفع رأسه فنظر إلي فقال : انظر أين هو جالس أبلسه الله ، قال ثم ضرب جانب وجهي فسقطت ، فمكثت ليلتي حتى أصبحت . قال : ثم أخذت أنظر إلى القبر على حاله وأذكر جلوسي وذكر نحو هذا أو شبهه ، وكذلك شواهد اتساع اللحد وانفراجه .
39- 
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين بإسناده عن أبي غالب صاحب أبي أمامه أن فتى بالشام حضره الموت فقال لعمه : أرأيت لو أن الله دفعني إلى والدتي ما كانت صانعة بي ؟ قال : إذاً والله تدخلك الجنة . فقال : والله لله أرحم بي من والدتي فقبض الفتى ، فجزع عليه عبد الملك بن مروان قال : فدخلت القبر مع عمه فخطوا له خطاً فلم يلحدوه ، قال فقلنا بالبن فسوينا عليه فسقطت لبنه ، فوثب عمه فتأخر قلت :ماشأنك قال : ملىء قبره نورا ، وفسح له مد بصره .
40- 
وبإسناده عن محمد بن ابان عن حميد قال : كان لي ابن أخت فذكر شبها بهذه الحكاية إلا أنَّه قال: فاطلعت في اللحد ، فإذا هو مد بصري ، قلت لصاحبي رأيت ما رأيت ؟ قال : نعم فليهنك ذلك قال فظننت أنه بالكلمة التي قالها .
41- 
وروي في كتاب ذكر الموت بإسناده عن أبي بكر بن أبي مريم عن الأشياخ قال : كان شيخ من بني الحضرمي بالبصرة وكان شيخا صالحا، وكان له ابن أخ يصحب الفتيان الفساق فكان يعظه ، فمات الفتى ، فلما أنزله عمه في قبره فسوى عليه اللبن شك في بعض أمره ، فنزع بعض اللبن فنظر فإذا قبره أوسع من جبانة البصرة ، وإذا هو في وسط منها ، فرد عليه اللبن وسأل امرأته عن عمله فقالت : كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله يقول : وأنا اشهد بما شهدت به ، وأكفيها من تولى عنها .
42- 
وقال أبو الحسن بن البراء حدثني عبد الرحمن بن أحمد الجعفي ، حدثني علي بن محمد حدثنا يزيد بن نوح النخعي قرابة لشريك بن عبد الله قال : صليت في الكوفة على ميت ثم دخلت قبره حتى أصلحت عليه اللبن ، فبينا أنا أصلح عليه اللبن وقعت لبنة في القبر فإذا أنا بالكعبة والطواف قد مثلا لي في القبر ، فسويت عليه اللبن وصعدت .
43- 
قال ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت : حدثنا زكريا بن يحيى حدثنا كثير بن يحيى بن كثير البصري ، حدثنا أبي حدثنا أبو مسعود الجريري ، حدثني شيخ في مسجد الأشياخ قال : كان يحدثنا عن أبي هريرة قال : بين نحن حول مريض لنا إذ هدأ وسكن حتى ما يتحرك منه عرق فسجيناه وأغمضناه . فأرسلنا إلى ثيابه وسدره وسريره . فلما ذهبنا لنحمله لنغسله تحرك فقلنا : سبحان الله ما كنا نراك إلاَّ قد مت ! قالفإني قد مت وذهب بي إلى قبري فإذا إنسان حسن الوجه طيب الريح قد وضعني في لحدي فطواه بالقراطيس إذ جاءت إنسانه سوداء منتنة الريح فقالت : هذا صاحب كذا وكذا أشياء ، والله أستحي منها ، كأنما أقلعت عنها ساعتي تيك قلت : أنشدتك الله أترد عني هذه ، قالت: انطلق نخاصمك ، فانطلقت إلى دار فيحاء وسعة فيها مسطبة كأنها فضة ، وفي ناحية منها مسجد ورجل قائم يصلي فقرأ سورة النحل فتردد في مكان منها ، ففتحت عليه فانفتل فقال : السورة معك ؟ قلت : نعم قال : أما أنها سرة النعم ورفع وسادة قريبة منه فأخرج منها صحيفة ، فنظر فيها فبدرته السوداء فقالت : فعل كذا وفعل كذا وفعل كذا ، قال : وجعل الحسن الوجه يقول : وفعل كذا وفعل كذا ، وفعل كذا ، يذكر محاسني فقال الرجل عبد ظالم لنفسه ولكن الله تجاوز عنه لم يجئ أجل هذا بعد ، أجل هذا يوم الإثنين قال : فقال : انظروا فأن أنا متُّ يوم الإِثنين ، فأرجو لي ما رأيت وإن لم أمت يوم الاثنين فإنما هو هذيان الوجع ، قال: فلما كان يوم الأثنين صح حتى بعد العصر، ثم أتاه أجله فمات .
44-
وفي الحديث : فلما خرجنا من عند الرجل قلت للرجل الحسن الوجه : ما أنت ؟ قال: أنا عملك الصالح ، قلتفما الإِنسانة السوداء المنتنة الريح ؟ قال ذلك عملك الخبيث ، أو كلام يشبه هذا .
45- 
وفي كتاب ابن أبى الدنيا خرج لأبى القاسم إسحاق بن إبراهيم بن سنين الختلي ، سمعت عبد الله بن محمد العنسي يقول : حدثني عمرو بن مسلم عن رجل حفار للقبور قال : حفرت قبرين وكنت في الثالث فاشتد علي الحر فألقيت كسائي على ما حفرت وأستظليت فيه ، فبينا أنا كذلك إذ رأيت شخصين على فرسين أشهبين فوقفا على القبر الأول فقال أحدهما لصاحبه : أكتب قال : ما أكتب : قال فرسخ في فرسخ ، ثم تحولا إلى الآخر فقال : أكتب قال : ما أكتب ؟ قال مدّ البصر ، ثم تحولا إلى الآخر الذي أنا فيه فقال : أكتب قال : وما اكتب قال فتر في فتر فقعدت أنظر الجنائز فجيء برجل معه نفر يسير فوقفوا على القبر الأول ، قلت ما هذا الرجل ؟ قالوا : إنسان قراد يعني سقاء ذو عيال ، ولم يكن له شيء فجمعنا له فقلت : ردوا الدراهم على عياله ، ودفنته معهم ثم أتي بجنازة ليس معها إلا من يحملها ، فسألوه عن القبر الذي قال : مد البصر، قلت : من ذا الرجل ؟ فقالوا : إنسان غريب مات على مزبلة لم يكن معه شيء فلم آخذ منهم شيئاً ، فصلى معهم وقعدت أنتظر الثالث ، فلم أزل أنتظر إلى العشاء ، فأتي بجنازة امرأة لبعض القواد فسألتهم الثمن فضربوا برأسي ودفنوها فيه.
الباب الثاني
في كلام القبر عند نزوله إليه
46- 
خرج الترمذي من حديث عبد الله بن الوليد الوصافي عن عطيه عن أبى سعيد قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاّه فرأى أناسا كأنهم يكثرون ، أو يضحكون فقال : " أما إنكم لو أكثرتم من ذكر هادم اللذات لأشغلكم عما أرى الموت فأكثروا ذكر هادم اللذات ، فإنه لم يأت يوم على القبر إلا يتكلم فيه فيقول : أنا بيت الغربة ، أنا بيت الوحدة ، أنا بيت التراب ، أنا بيت الدود فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر ، مرحباً وأهلاً : إن كنت لأحب من يمشي على ظهري ، فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك ، فيتسع له مد بصره ، ويفتح له باب إلى الجنة ، وإذا دفن العبد الكافر أو الفاجر قال القبر : لا أهلاً ولا مرحباً ، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهره فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك قال : فيلتئم عليه القبر حتى تلتقي وتختلف أضلاعه " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه وأدخلها بعضها في بعض قال : " ويقيض له سبعين تنيناً لو أن واحداً منهم نفخ على الأرض ما أنبتت شيئاً ، ما بقيت الدنيا فتنهشه وتخدشه حتى يفضي به إلى الحساب . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " ، وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، قلت : الوصافي شيخ كوفي صالح أشغلته العبادة عن حف الحديث حتى وقعت المنكرات في حديثه . وفي آخر حديثه هذا رويت عن أبي سعيد من وجه آخر موقوفة ومرفوعة وسنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى ، وباقي حديثه لا يعرف عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن روي معناه من وجه آخر .
47-
روى بقية بن الوليد عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي عن عبد الرحمن بن عائد عن أبي الحجاج الثمالي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول القبر للميت حين يوضع فيه : ويحك يا ابن آدم من غرك بي ألم تعلم أني بيت الفتنة ، وبيت الظلمة ، وبيت الوحدة ، وبيت الدود ، ما غرك بي إذ كنت تمر بي مراراً قال : فإن كان مصلحاً أجاب عنه مجيب القبر ، فيقول : أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال فيقول القبر إني إذا تحول عليه خضراً ويعود جسده نوراًً ، وتصعد روحه إلى الله تعالى " خرجه ابن الدنيا وأبو أحمد الحاكم في كتاب الكنى .
48- 
قال : أبو الحجاج الثمالي ، واسمه عبد الله بن عبيد ، ويقال عبد الله بن عبداري له صحبة ، وقد روى هذا الكلام معاوية بن صالح أخبرني مخبر عن عمرو بن عائد الأزدي عن غضيف بن الحارث الكندي سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ( إن العبد إذا وضع في قبره فذكره بنحوه ) خرجه أبو الحسن بن البراء عن علي بن المديني ، عن زيد بن الحباب عن معاوية ، وكذا رواه يحيى بن جابر الطائي عن ابن عائذ الأزدي وهذا الموقف أصح .
49- 
وروى محمد بن أيوب الرملي عن أبيه عن الأوزاعي عن ابن المنكدر عن جابر رفعه قال : ( إن للقبر لساناً ينطق به يقول : يا ابن آدم كيف نسيتني ، ألم تعلم أني بيت الوحشة، وبيت الغربة ، وبيت الدود ، وبيت الضيق إلا ما وسع الله عز وجل ) أيوب بن سويد فيه ضعف ، وابنه محمد متروك .
50- 
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه الحنبلي في كتاب الشافي في الفقه حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الشيرازي ، حدثنا محمد بن حماد قال : قرىء على عبد الرزاق وأنا حاضر عن الثوري عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فوجد القبر لم يلحد ، فجلس وجلسنا حوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا وضع الميت في قبره ثم سوى عليه كلمته الأرض ، فتقول : أما علمت أني بيت الوحشة ،والغربة ، والدود فماذا أعددت لي " غريب جداً وحديث البراء بن عازب معروف وقد سبق بعضه ولا نعرف هذا اللفظ فيه من غير هذا الوجه ، والشيرازي غير معروف .
51- 
وخرج ابن منده من طريق عروة بن مروان الرقي حدثنا محمد بن سلمة عن حفيص عن مجاهد عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله وفيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا وضع الميت في لحده تقول له الأرض : إن كنت لحبيباً إلي وأنت على ظهري ، فكيف إذا صرت اليوم إلي سأريك ما أصنع بك ، فسيفسح له في قبره مد البصر " .
52- 
وخرج ابن الدنيا من طريق داود بن فائد قال : صعدت مع عبد الله بن عبيد بن عمير في جنازة فقال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميت يقعد وهو يسمع خطا مشيعيه فلا يكلمه شيء أول من حفرته فتقول : ويحك أي بني آدم ، أليس قد حذرتني وضيقي وهو لي ودودي فما أعددت لي؟ " .
53- 
ومن طريق عبد أبي بكر المكي حدثني أبي حدثني عبيد بن عمير قال : " ليس من ميت يموت إلا نادته حفرته التي يدفن فيها : أنا بيت الظلمة ،والوحدة والإنفراد ، فإن كنت في حياتك مطيعاً كنت اليوم عليك رحمة، وإن كنت لربك عاصياً، فأنا اليوم عليك نقمة، أنا البيت الذي من دخلني مطيعاً خرج مسروراً ، ومن دخلني عاصياً ، ومن دخلني عاصياً خرج مني مثبوراً " .
54- 
وروى هناد بن السري عن حسين الجعفي ، عن مالك بن مغول ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : " يجعل الله القبر لساناً ينطق به فيقول : ابن آدم كيف نسيتني أما علمت أني بيت الأكلة وبيت الدود ، وبيت الوحدة ، وبيت الوحشة " .
55- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عمر بن ذر قال : إذا دخل الميت حفرته نادته الأرض أمطيع أم عاص ، فإن كان صالحاً ناداها مناديه ناحية القبر عودي عليه خضراء كوني عليه رحمة ، فنعم العبد كان لله عز وجل ، ونعم المورد إليك قال : فتقول الأرض الآن استحق الكرامة ، وبإسناده عن محمد بن السماك الواعظ قال : بلغنا أن الرجل إذا وضع في قبره فعذب أو أصابه بعض ما يكره ناداه جيرانه من الموتى أيها المخلف في الدنيا بعد إخوانه وجيرانه أما كان لك فينا معتبراً ، أما كان لك في تقدمك إيانا فكرة ، أما رأيت انقطاع أعمالنا عنا في المهلة ، فهلا استدركت ما فات إخوانك قال : فتناديه بقاع القبر ، أيها المغتر بظاهر الدنيا هل اعتبرت بمن غيب عنك من أهلك في بطن الأرض ممن غرته الدنيا قبلك ثم سبق له أجله إلى القبور وأنت تراه محمولاً تهادى به أحبته إلى المنزل الذي لا بد منه .
الباب الثالث
في اجتماع الموتى إلى الميت وسؤالهم إياه
56- 
خرج النسائي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر خروج الروح وقال في روح المؤمن : فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشدّ فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليهم فيسألونه ما فعله فلان ؟ فيقولون : دعوه حتى يستريح فإنه [ كان ] في غم الدنيا فإذا قال أما أتاكم ؟ قالوا : ذهب به إلى أمه الهاوية .
57- 
روى معاوية بن يحيى وفيه ضعف عن عبد الرحمن بن سلمة أن أبا رهم السمعي حدثه أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها أهل الرحمة من عند الله كما يتلقى البشير في الدنيا فيقول : انظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد فيسألونه ما فعل فلان ، وما فعلت فلانة وهل تزوجت فلانة ؟ فإذا سألوه عن رجل مات قبله قال : مات قبلي ، قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية " .
خرجه ابن أبي الدنيا وغيره وخرجه ابن المبارك عن ثور بن يزيد عن أبي رهم عن أبي أيوب الانصاري موقوفاً ، وكذا رواه محمد بن سميع عن ثور ، ورواه سلام الطويل وهو ضعيف جداً عن خالد بن معدان ورواية ابن المبارك أصح .
58- 
روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن جعفر عن سعيد هو ابن جبير قال : إذا مات الميت استقبله أهله كما يستقبل الغائب ، وباسناده عن صالح المري قال : بلغني أن الأرواح تتلاقى عند الموت فتقول أرواح الموتى للروح التي تخرج إليهم : كيف كان مأواك وفي أي السدين كنت في طيب أم خبيث ؟ قال ثم بكى حتى غلبه البكاء .
59- 
وبإسناده عن ثابت البناني قال : بلغنا أن الميت إذا مات احتوشته أهله وأقاربه الذين تقدموا من الموتى قال ولهو أفرح بهم وهم أفرح به من المسافر إذا قدم على أهله .
60- 
ومن طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال : أهل القبور يتوكفون الأخبار فإذا أتاهم الميت قالوا ما فعل فلان ؟ فيقول صالح ما فعل فلان ؟ فيقول : ألم يأتكم أوما قدم عليكم فيقولون : إنا لله وإنا إليه راجعون سلك به غير سبيلنا .
61- 
وعن عبيد بن عمير أيضاً قال : إذا مات الميت تلقته الأرواح يستخبرونه كما كان يستخبر الراكب : ما فعل فلان ؟ فإذا قال : توفي ولم يأتهم قالوا ذهب به إلى أمه الهاويه وعنه قال: وإني آيس من لقاء من مات من أهلي إلا لقاني قدمت كمداً .
62- 
وعن السري بن إسماعيل قال سمعت الشعبي ذكر ابنه فقال رحمه الله تعالى يقال إن كان اللقاء لقريب ثم حدثنا أن الميت إذا وضع في لحده أتاه أهله وولده فسألوه عمن خلف بعده وكيف فلان وما فعل فلان .
63- 
وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات العبد تلقى روحه أرواح المؤمنين فيقولون له ما فعل فلان ما فعل فلان ؟ فإذا قال : مات قبلي ، قالوا : إذهب به إلى أمه الهاوية بئست الأم وبئست الهاوية ".
64- 
وخرج اللالكائي من طريق مؤمل عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : إذا قبض روح المؤمن عرج به إلى السماء ، فتلقاه أرواح المؤمنين فيسألونه : مافعل فلان ؟ فيقول خيراً فيقولون : اللهم هديته لذلك فثبته لذلك . ثم يقولون ما فعل فلان : فيقول : ألم يأتكم ؟ فيقولون : لا والله ولا مر بنا ، سلك به إلى أمه الهاوية ، فبئست الأم وبئست المربية .
65- 
وخرج ابن أبي الدنيا من طريق يونس عن الحسن قال : إذا حضر المؤمن حضره خمسة ملائكة فيقبضون روحه ، فيعرجون به إلى السماء الدنيا فتلقاهم أرواح المؤمنين الماضية فيريدون أن يستخبروه فتقول الملائكة : أرفقوا به فإنه خرج من كرب عظيم ، فيسأله الرجل عن أخيه ، وعن صاحبه ، فيقول : كما عهدت ، حتى يستخبروه عن الرجل الذي مات قبله فيقول أما أتاكم ؟ فيقولون أو قد مات ؟ فيقول : أي والله ، فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون . ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية .
66-
وروى أبو نعيم بإسناده عن وهب بن منبه قال : إذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم .
67- 
روى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن منصور بن أبي منصور سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إذا مات المؤمن مر به على المؤمنين وهم أندية فيسألونه عن بعض أصحابهم ، فإن قال مات ، قالوا : استقبل . وإن كان كافراً قالوا هوى به إلى الأرض السافلة ، فيسألونه عن الرجل فإن قال قد مات قالوا عليَّ به ، خرجه ابن أبي الدنيا .
الباب الرابع
في اجتماع أعمال الميت عليه من خير وشر ومدافعتها عنه ، وكلامها له ، وما ورد من تحسر الموتى على انقطاع أعمالهم ، ومن أكرم منهم تبقى أعماله عليه
68- 
روى ابن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده إنه ليسمع خفق نعالكم حين تولون عنه ، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه ، والزكاة عن يمينه والصوم عن شماله ، وفعل الخيرات والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه ، فيؤتى من قبل رأسه ، فتقول الصلاة ليس من قبلي مدخل ، فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة ليس من قبلي مدخل ، ثم يؤتى عن شماله فيقول الصوم ليس قبلي مدخل ، ثم يؤتى من قبل رجليه ، فيقول : فعل الخيرات والإحسان إلى الناس ليس قبلي مدخل ، فيقال له : اجلس ، فيجلس وقد مثلت الشمس للغروب فيقولون له : ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : أشهد أنه رسول الله ، جاءنا بالبينات من عند ربنا فصدقناه واتبعناه ، فيقال له : صدقت ، وعلى هذا حييت ، وعلى هذا مت ، وعليه تبعث إن شاء الله ، فسيفسح له في قبره مد بصره فذلك قوله سبحانه : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } الآية . فيقال : افتحوا له باباً إلى النار فيقال : هذا منزلك لو عصيت الله فيزداد غبطة وسروراً ، ويقال : افتحوا له باباً إلى الجنة فيفتح له فيقال هذا منزلك وما أعد الله لك فيزداد غبطة وسروراً ، فيعاد الجسد إلى ما بدىء منه وتجعل روحه نسم طير معلق في شجر الجنة ، وأما الكافر فيؤتى في قبره من قبل رأسه ، فلا يعني شيئاً فيجلس خائفاً مرعوباً فيقال له : ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم وما تشهد به ؟ فلا يهتدى لاسمه فيقال : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت كما قالوا ، فيقال له : صدقت على هذا حييت وعليه متَّ وعليه تبعث إن شاء الله ، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ، فذلك قوله تعالى { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً } فيقال : افتحوا له باباً إلى الجنة فيفتح له باب إلى الجنة فيقال : هذا منزلك وما أعد الله لك لو كنت أطعته فيزداد حسرة وثبوراً ، ثم يقال : افتحوا له باباً إلى النار فيفتح له باباً إليها فيقال له : هذا منزلك ، وما أعد الله لك فيزداد حسرة وثبوراً " .
69- 
قال أبو عمرو الضرير : قلت لحماد بن سلمة : كان هذا من أهل القبلة ؟ قال : نعم ، قال أبو عمرو : كأنه شهد بهذه الشهادة على غير يقين يرجع إلى قلبه كأن يسمع الناس يقولون شيئاً فيقول ، خرجه الطبراني .
70- 
وخرجه الخلال في كتاب السنة وزاد فيه بعد قوله : " وقد مثلت الشمس قد دنت للغروب فيقال: هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه ؟ فيقول : دعوني حتى أصلي فيقولون : إنك ستفعل أخبرنا عما نسألك عنه " ، وذكر الحديث وخرجهابن حبان في صحيحه من طريق معتمر عن محمد بن عمرو به ، ورواه جماعة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة موقوفاً ، وقد روي من حديث أبي حازم عن أبي هريرة نحوه أيضاً مع الاختلاف في رفعه وقطعه .
71- 
وخرجه ابن منده من طريق محمد بن جحادة عن طلحة بن مصرف عن أبي حازم عن أبي هريرة قال إذا وضع المؤمن في قبره أتاه شيطان من قبل رأسه فيحول بينه وبين سجوده ثم يأتيه من قبل يديه فيحول بينه وبين صومه ، ثم يأتيه من قبل رجليه فيحول بينه وبين قيامه عليهما في الصلاة ، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة ، فيقول : ربي بلغني منزلي فيقول : إن لك إخوة وأخوات لم يلحقوا فنم قرير العين لا تفزع بعدها.
72- 
وخرجه أيضاً من طريق محمد بن الصامت عن أبي عيينة عن طلحة بن مصرف ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة يرفعه : " يؤتى الرجل من قبل رأسه في قبره ، فإذا أتى دفعه تلاوة القرآن ، فإذا أتى من قبل يديه دفعته الصدقة فإذا أتى من قبل رجليه دفعه مشيه إلى المساجد " ، فذكر نحوه كذا في هذه الرواية السابقة ، إن الذي يأتيه في قبره شيطان .
73- 
وفي حديث الأعمش عن المنهال عن زاذان قال : قلت للبراء أملك هو أم شيطان ؟ قال : فغضب غضباً شديداً ، ثم قال : كنا نحن أشد هيبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نسأله أملك هو أم شيطان إنما نحدثكم ما سمعنا .
74- 
وخرج الإمام أحمد من حديث محمد بن المنكدر قال : كانت أسماء تحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أدخل الإنسان في قبره فإن كان مؤمناً حف به عمله الصيام والصلاة قال فيأتيه الملك من نحو الصلاة فيرده ومن نحو الصيام فيرده فيناديه اجلس ، فيجلس فيقول ماذا تقول في هذا الرجل ؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال من ؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم قال : فيقال وما يدريك أدركته ؟ قال يقول إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول على ذلك عشت ، وعليه مت ، وعليه تبعث ، قال : إن كان فاجراً أو كافراً قال جاءه الملك ليس بينه وبينه شيء يرده فأجلسه قال : يقول اجلس ماذا تقول في هذا الرجل قال : أي رجل ، قال : محمد قال : يقول : والله ما أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ، قال : فيقول له الملك على ذلك عشت ، وعليه مت ، وعليه تبعث ، قال : ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط بمزربة جمرة مثل غرب البعير تضربه ما شاء الله صمّاء لا تسمع صوته فترحمه " ، قلت : قوله : ويسلط عليه دابة إلى آخره ، قد روي من وجه آخر عن ابن المنكدر أنه بلغه ذلك فلعله مدرج في الحديث .
75- 
وفي حديث زاذان عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق ذكر بعضه قال في المؤمن : " ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول : رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ".
وقال في حق الكافر : " ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوءك ، فهذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر فيقول : أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة " ، خرجه الإمام أحمد وغيره .
76- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي بكر بن عياش عن المقبري عن عائشة رضي الله عنها قالت : إذا خرج سرير المؤمن نادى أنشدكم الله لما أسرعتم بي ، فإذا أدخل قبره لحقه عمله فتجيء الصلاة فتكون عن يمينه ، ويجيء الصوم فيكون عن يساره ، ويجيء عمله بالمعروف فيكون عند رجليه ، فتقول الصلاة ليس لكم قبلي مدخل ، كان يصلي فيأتون من قبل رأسه ، فيقول الصوم إنه كان يصوم ويعطش ، فلا يجدون موضعاً فيأتون رجليه فتخاصم عنه أعماله فلا يجدون مسلكاً .
77- 
وبإسناده ثابت البناني قال : إذا وضع الميت في قبره احتوشته أعماله الصالحة وجاء ملك العذاب فتقول له بعض أعماله إليك عنه ، فلو لم يكن إلا أنا لما وصلت إليه .
78- 
وعنه أيضاً قال إذا مات العبد الصالح فوضع في قبره أتي بفراش من الجنة ، وقيل له : نم هنيئاً لك قرة العين ، فرضي الله عنك ، قال ويفسح له في قبره مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة ، فينظر إلى حسنها ويجد ريحها وتحتوشه أعماله الصالحة : الصيام ، والصلاة ، والبر ، فتقول له : أنصبناك واظمأناك وأسهرناك فنحن اليوم بحيث تحب ، نحن أنساؤك حتى تصير إلى منزلك من الجنة .
79- 
وبإسناده عن كعب قال : إذا وضع العبد الصالح في قبره احتوشته أعماله الصالحة الصلاة والصيام والحج والجهاد والصدقة ، قال : وتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه فتقول الصلاة : إليكم عنه فقد أطال القيام لله عليهما قال : فيأتون من قبل رأسه فيقول الصيام : لا سبيل لكم عليه فقد أطال ظمأه لله تعالى في الدنيا ، قال فيأتون من قبل جسده فيقول الجهاد والحج : إليكم عنه فقد أنصب نفسه ، وأتعب بدنه ، وحج وجاهد لله عز وجل لا سبيل لكم عليه ، قال : فيأتون من قبل يديه فتقول الصدقة : كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى وقعت في يد الله عز وجل ابتغاء وجهه فلا سبيل لكم عليه ، فيقال : هنيئاً طيباً حياً وميتاً ، قال : ويأتيه ملائكة الرحمة فتفرشه فراشاً من الجنة ودثاراً من الجنة و دثاراً من الجنة ويفسح له في قبره مد البصر ، ويؤتى بقنديل من الجنة فيستضيء بنوره إلى يوم يبعثه الله من قبره .
80- 
وبإسناده عن يزيد الرقاشي قال : بلغني أن الميت إذا وضع في قبره احتوشته أعماله فأنطقها الله تعالى فقالت أيها العبد المنفرد في حفرته انقطع عنك الأخلاء والأهلون فلا أنيس لك اليوم غيرنا قال : ثم يبكي ويقول : طوبى لمن كان أنيسه صالحا طوبى لمن كان أنيسه صالحا , والويل لمن كان أنيسه وبالا .
81- 
وبإسناده عن يزيد الرقاشي أيضا انه كان يقول في كلامه : أيها المنفرد في حفرته المخلى في قبره بوحدته المستأنس في بطن الأرض بأعماله ليت شعري بأي أعمالك استبشرت , وبأي إخوانك اغتبطت , ثم يبكي حتى يبلَّ عمامته ويقول : استبشر والله بأعماله الصالحة واغتبط بإخوانه المتعاونين على طاعة الله .
82- 
وبإسناده عن الوليد بن عمرو بن الصباح قال : بلغني أن أول شيء يجده الميت حوله عند رجليه فيقول : ما أنت ؟ فيقول : أنا عملك . وقد ورد في شفاعة القرآن لقارئه ودفعه عنه عذاب القبر خصوصاً سورة تبارك الذي بيده الملك .
83- 
وخرج النسائي في عمل اليوم والليلة بإسناده عن ابن مسعود قال : من قرأ تبارك الذي بيده الملك كل ليلة منعه الله بها من عذاب القبر وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسميها : المانعة .
84- 
وخرجه خلف في فضائل القرآن ولفظه عن ابن مسعود أنه ذكر تبارك فقال : هي المانعة تمنع من عذاب القبر ، توفى رجل فأتى من قبل رجليه فتقول رجلاه لا سبيل لكم على ما قِبلي إنه كان يقرأ سورة الملك ، ويؤتى من قبل بطنه فيقول بطنه : لا سبيل لكم على ما قبلي إنه كان يقرأ سورة الملك .
85- 
وأخرج أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن بإسناده عن ابن مسعود قال : إن الميت إذا مات أوقدت له نيران حوله ، فتأكل النار ما يليها إن لم يكن له عمل يحول بينه وبينها وإن رجلاً مات ولم يكن يقرأ من القرآن إلا سورة ثلاثين آية ، فتأتيه من قبل رأسه فقالت إنه كان يقرأ بي فتأتيه من قبل رجليه فقالت : إنه يقوم بي فتأتيه من قبل جوفه ، فقالت : إنه كان وعائي ، قال فأنجته ، قال زر : فنظرت أنا ومسروق في المصحف فلم نجد سورة ثلاثين آية إلا تبارك .
86- 
وروى عبد بن حميد في مسنده عن إبراهيم بن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : إقرأ تبارك الذي بيده الملك ، احفظها وعلمها أهلك ،وولدك ، وصبيان بيتك ، وجيرانك فإنها : المنجية والمجادلة تجادل وتخاصم عند الله لقارئها ؛ وتطلب أن ينجيه من عذاب النار إذا كانت في جوفه ، وينجي الله بها صاحبها من عذاب القبر .
87- 
وروى سوار بن مصعب وهو ضعيف جداً عن أبي إسحاق عن البراء يرفعه : " من قرأ : ألم السجدة وتبارك الذي بيده الملك قبل النوم ، نجا من عذاب القبر ، ووقى فتأنى القبر ".
وسنذكر حديث عبادة في نزول القرآن مع الميت في قبره فيما بعد إن شاء الله تعالى .
88- 
وروى هشام بن عمار حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن جابر عن أبيه عن عطاء بن يسار قال : إذا وضع الميت في لحده فأول شيء يأتيه عمله فيضرب فخذه الشمال فيقول : أنا عملك فيقول : فأين أهلي وولدي وعشيرتي ما خولني الله تعالى فيقول : تركت أهلك، وولدك ، وعشيرتك وما خولك الله وراء ظهرك ، فلم يدخل قبرك معك غيري ، فيقول : يا ليتني آثرتك على أهلي ، وولدي وعشيرتي ، وما خولني الله تعالى إذا لم يدخل معي غيرك .
89- 
قال أحمد بن أبي الحواري حدثنا يحيى بن مليح عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى { فلأنفسهم يمهدون } قال : في القبر ، قال أحمد : فحدثت به يحيى بن معين .
قال : طوبى لمن كان له عمل صالح يكون وطاءه في قبره ، ويشهد لهذا كله ما في .
90- 
الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يتبع الميت ثلاثة ، فيرجع اثنان ويبقى واحد ، يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله و عمله ".
91- 
وخرجه البزار والطبراني بسياق مطول من حديث أنس أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مامن عبد إلا له ثلاثة أخلاء فأما خليل فيقول له : ما أنفقت فلك ، وما أمسكت فليس لك ، فذلك ماله . وأما خليل فيقول : أنا معك فإذا أتيت باب الملك رجعت وتركتك فذلك أهله وحشمه ، وأما خليل فيقول : أنا معك حيث دخلت وحيث خرجت فذلك عمله ، فيقول : إن كنت لأهون الثلاثة علي " ، وخرج البزار والحاكم من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه ، وقد اختلف في رفعه، ووقفه ، وقد روى هذا من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بسياق مبسوط وأن عبد الله بن كرز قال في هذا المعنى شعراً وأنشده للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن إسناده ضعيف جداً ، وخرج البزار هذا المعنى أيضاً من حديث أبي هريرة وسمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وخرجه الطبراني أيضاً من حديث سمرة أيضاً .
92- 
وروى إبراهيم بن بشار عن إبراهيم بن آدم أنه كان ينشد شعراً :
ما أحدكم أكرم من مفرد أعماله في قبره تؤنسه
منعم الجسم وفي روضة زينه الله فهي مجلسـه
وأما العارفون بالله ، المحبون له ، المنقطعون إليه في الدنيا ، والمستأنسون به دون خلقه فإن الله بكرمه وفضله لا يخذلهم في قبورهم ، بل يتولاهم ويؤنس وحشتهم فـ { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ، وقد جاء في بعض ألفاظ حديث يوم المزيد : أنهم يقولون لربهم في ذلك اليوم أنت الذي أنست منا الوحشة في القبور .
93-
وكتب محمد بن يوسف الأصبهاني العابد إلى أخيه : إني محذرك متحولك من دار مملكتك إلى دار إقامتك وجزاء أعمالك فتصير في قرار باطن الأرض بعد ظاهرها ، فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك وينتهرانك ، فإن يكن الله معك فلا بأس عليك ، ولا وحشة ولا فاقة ، وإن يكن غير ذلك فأعذني الله وإياك من سوء مصرع وضيق مضجع ، وروى ابن أبي عاصم في المنام فسئل عن حاله فقال : يؤنسني الله عز وجل ، وأما من كان في الدنيا مشغولاً عن الله عز وجل وكان يخاف غيره فإنه يعذب في القبر بذلك .
94- 
قال أحمد بن أبي الحواري : حدثنا إبراهيم بن الفضل عن إبراهيم أبي المليح الرقي قال : إذا أدخل ابن آدم قبره لم يبق شيء كان يخافه في الدنيا دون الله عز وجل إلا تمثل له في اللحد لأنه في الدنيا يخافه دون الله تعالى .
95- 
وروى عبد الرحمن بن زيد بن أبي أسلم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الله على أهل لا إله إلا الله في قبورهم ولا يوم نشورهم وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤسهم يقولون : { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } ".
فصل
96- 
خرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : إلا من علم نافع ، أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له ".
97- 
ومن حديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍّ نزل به قبل أن يأتيه ، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا " .
98- 
وروى عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة أن ابن أخي عابس الغفاري قال له : قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاتمنوا الموت فإنه يقطع العمل ، ولا يرد الرجل فيستعتب " .
99- 
وخرج الترمذي من حديث يحيى بن عبد الله عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من أحد يموت إلا ندم " قالوا وما ندامته يا رسول الله ؟ قال : " إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئا ندم أن لايكون نزع " ، يحيى هذا ضعفوه .
99- 
وروى ابن أبي الدنيا عن أبي هشام الرفاعي حدثنا حفص بن غياث عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبر دفن حديثا فقال : لركعتان خفيفتان مما تحقرون أو تنفلون يراهما هذا في عمله أحب اليه من بقية دنياكم " غريب جدا .
100- 
وروى أبو نعيم في الحلية من طريق عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس أنه كان يمر على المقابر بدمشق بتهجير يوم الجمعة فسمع قائلا يقول : هذا يونس ابن حلبس قد هجر يحجون ويستمرون كل شهر ، ويصلون كل يوم خمس مرات أنتم تعملون ولا تعلمون ونحن نعلم ولا نعمل ، قالت : فلتفت يونس فسلم ، فلم يردوا عليه ، قال سبحان الله أسمع كلامكم ، وأسلم عليكم ، فلا تردون ، قالوا سمعنا كلامك وكلها حسنه وقد حيل بيننا وبين الحسنات والسيئات .
101- 
وروى ابن ابي الدنيا باسناده عن سليمان التيمي عن ابي عثمان النهدي أن رجلا خرج في جنازة فانتهى إلى قبر قال : فصليت ركعتين ثم اتكأت عليه فربما سمعت أبا عثمان يقول : فوالله ان قلبي ليقظان إذ سمعت صوتا من القبر : إليك ولا تؤذني ، فإنكم قوم تعملون ولا تعلموا ، وإنا قوم نعلم ولا نعمل لأن يكون لي مثل ركعتيك أحب الي من كذا وكذا .
102- 
وبإسناده عن أبي قلابة قال : أقبلت من الشام إلى البصرة فنزلت الخندق فتطهرت , وصليت ركعتين بالليل , ثم وضعت رأسي على قبر فنمت ثم انتبهت , فإذا صاحب القبر يشتكيني يقول : لقد آذيتني منذ الليلة ، ثم قال : إنكم لا تعلمون ونحن نعلم ولا نقدر على العمل إن الركعتين اللتين ركعتهما خير من الدنيا وما فيها ، ثم قال جزى الله أهل الدنيا خيراً ، إقرأهم منا السلام فإنه يدخل علينا من دعائهم نور مثل الجبال .
103- 
وبإسناده عن زيد بن وهب قال : حدثني رجل قال : رأيت أخاً لي فيما يرى النائم فقلت : فلان عشت الحمد لله رب العالمين قال : قلتها لأن أقدر أقولها أحب إلي من الدنيا وما فيها ، ثم قال : ألم تر حيث يدفنون فلاناً ، فإن فلاناً قام فصلى ركعتين ، لأن أكون أقدر أن أصليها أحب إلي من الدنيا وما فيها .
104- 
وبإسناده عن مطرف بن عبد الله الجرشي قال : شهدت جنازة واعتزلت ناحية قريباً من قبر فصليت ركعتين كأني خففتهما لم أرض إتقانهما ، ونعست فرأيت صاحب القبر يكلمني فقال : ركعت ركعتين لم ترض إتقانهما ، قلت : قد كان ذلك قال تعملون ولا تعملون ونحن نعلم ولا نستطيع أن نعمل لأن أكون ركعت مثل ركعتيك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها .
105- 
وبإسناده عن مفضل بن يونس قال : كان ربيع بن راشد يخرج إلى الجبان فيقيم سائر نهاره ثم يرجع مكتئباً فيقول : كنت في المقابر نظرت إلى قوم منعوا ما نحن فيه ثم يبكي .
106- 
وبإسناده عن الحسن قال : دخلت أنا وصفوان المقابر فقنع رأسه ثم لم يزل يذكر الله تعالى حتى خرجنا من المقابر فقلت له في ذلك فقال إني قد ذكرتهم ، وما حضر عليهم من ذلك ونحن المهلة في فأحببت أن أقدم لذلك شيئاً من عمل قال الحسن : أحب والله أن يكون لي في كل خير نصيب .
107- 
وبإسناده عن الفضل الرقاشي أنه كان يقول في كلامه إذا ذكر أهل القبور : يا لها من وجوه حيل بينها وبين السجود لله عز وجل لو يجدون إلى العمل مخلصاً بعد المعرفة بحسن الثواب لكانوا إلى ذلك سراعاً . ثم يبكي ويقول : يا إخوتاه فأنتم اليوم قد خلي بينكم وبين ما عليه ترجون إليه فكاك رقابكم ألا فبادروا الموت وانقطع أعمالكم فإن أحدكم لا يدري متى يحترمه ليلاً أو نهاراً .
108- 
وبإسناده عن صفوان بن سليم أنه كان في جنازة في نفر من العباد فلما صلي عليها قال صفوان : أما هذا قد انقطعت عنه أعماله واحتاج إلى دعاء من خلف بعده فأبكى القوم جميعاً وقال أبو وهب محمد بن مزاحم قال : قام رجل إلى ابن المبارك في جنازة فسأله عن شيء فقال له : يا هذا سبِّح فإن صاحب السرير منع من التسبيح .
109- 
كان عمرو بن عيينة يخرج بالليل إلى المقابر ويقول : يا أهل القبور طويت الصحف ورفعت الأعمال ثم يصلي حتى يصبح ثم يرجع إلى أهله ، ورؤي بعض الموتى في المنام فقال : ما عندكم أكثر من الغفلة وما عندنا أكثر من الحسرة .
110- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن زيد بن نعامة قال : هلكت جارية في الطاعون فلقيها أبوها بعد موتها في المنام فقال لها : يا بنية أخبريني عن الآخرة فقالت يا أبت قدمنا على أمر عظيم نعلم ولا نعمل وتعملون ولا تعلمون والله لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في عمل أحب إلي من الدنيا وما فيها . ومر بعض السلف بالمقابر فقال : أصيح هؤلاء زاهدين فيما نحن فيه راغبون . وكان داود الطائي مع جنازة فقال في كلامه : اعلم أن أهل الدنيا جميعاً من أهل القبور إنما يفرحون بما يقدمون ويندمون على ما يخلفون ، فما عليه أهل القبور ندموا عليه ، أهل الدنيا يقتتلون وفيه يتنافسون وعليه عند القضاة يتخاصمون .
فصل
بعض أهل البرزخ يكرمه الله بأعماله الصالحة عليه في البرزخ ، وإن لم يحصل له ثواب ، تلك الأعمال لانقطاع عمله بالموت ، لكن إنما يبقى عمله عليه ليتنعم بذكر الله وطاعته ، كما يتنعم بذلك الملائكة وأهل الجنة في الجنة وإن لم يكن لهم ثواب على ذلك لأن نفس الذكر والطاعة أعظم نعيماً عند أهلها من نعيم جميع أهل الدنيا ولذاتها ، فما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله وطاعته.
وخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال : ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبره ولا يحسب أنه قبر إنسان - يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا إنسان يقرأ سورة الملك - تبارك - حتى ختمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هي المانعة هي المنجية : تنجيه من عذاب القبر " .
113- 
خرج أبو عبد الله بن منده بإسناد ضعيف من حديث طلحة بن عبيد الله قال : أردت مالي بالغابة فأدركني الليل فآويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن عمرو بن حرام فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها ، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : " ذلك عبد الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت وعلقها وسط الجنة فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم إلى مكانها التي كانت " .
114- 
روى أبو نعيم بإسناده عن محمد بن عبد الله الأنصاري حدثني إبراهيم ابن الصمة المهلبي قال : حدثني الذين كانوا يمرون بالحص بالأسحار قالو ا : كنا إذا مررنا بجنبات ثابت البناني سمعنا قراءة القرآن .
115- 
وبإسناده عن يسار بن حبيش عن أبيه قال : أنا والذي لا إله إلا هو أدخلت ثابت البناني في لحده ومعي حميد ورجل غيره فلما سوينا عليه اللبن سقطت لبنة فإذا به يصلي في قبره فقلت للذي معي : ألاتراه ؟ قال : اسكت فلما سوينا عليه وفرغنا أتينا ابنته فقلنا لها : ما كان عمل ثابت ؟ قالت : وما رأيتم ؟ فأخبرناها فقالت : كان يقوم الليل خمسين سنة فإذا كان السحر قال في دعائه : اللهم إن كنت أعطيت أحداً الصلاة في قبره فأعطينيها ، فما كان الله ليرد ذلك الدعاء .
116- 
وقال أبو بكر الخلال : وأخبرني أحمد بن محمد بن بشر حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا حماد الحفار قال : دخلت المقابر يوم الجمعة فما انتهيت إلى قبر إلا سمعت فيه قراءة القرآن .
117- 
وروى أبو الحسن في كتاب الروضة عن عبد الله به محمد عن منصور حدثني إبراهيم الحفار قال : حفرت قبراً فبدت لبنة فشممت رائحة المسك حين انفتحت اللبنة فإذا شيخ جالس في قبره يقرأ القرآن .
118- 
وروى هبة الله الطبراني اللاكائي الحافظ في كتاب " شرح السنة " بإسناده عن يحيى بن معين قال : قال لي حفار مقابر : أعجب ما رأيت من هذه المقابر أني سمعت في قبر أنيناً كأنين المريض وسمعت من قبره المؤذن وهو يجيبه من القبر .
119- 
وروى الحافظ أبو بكر الخطيب بإسناده عن عيسى بن محمد الطوماري قال : رأيت أبا بكر بن مجاهد المقرئ في النوم كأنه يقرأ وكأني أقول : متّ وتقرأ فكأنه يقول لي : كنت أدعو الله في دبر كل صلاة وعند ختم القرآن أن يجعلني ممن يقرأ في قبره .
120- 
وحدثني المحدث أبو الحجاج يوسف السرمري حدثنا شيخنا أبو الحسن علي بن الحسين السامري خطيب سامرا وكان رجلا صالحا وأراني موضعا من قبور سامرا فقال : هذا الموضع لا يزال يسمع منه قراءة سورة تبارك .
121- 
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب ذكر الموت بإسناده فيه نظر عن الحسن أنه سئل عن الرجل يموت ولم يتعلم القرآن يبلغ درجة أهل القرآن فبكى الحسن قال : هيهات هيهات وأنى له بذلك ، ثم قال : بلغني أن المؤمن إذا مات ولم يأخذ من القرآن أمر حفظته أن يعلموه القرآن في قبره حتى يبعث الله يوم القيامة مع أهله .
122- 
وبإسناده عن يزيد الرقاشي قال : بلغني أن المؤمن إذا مات وقد بقي عليه شيء من القرآن لم يتعلمه بعث إليه ملائكة يحفظونه ما بقي عليه منه .
123- 
قال : وحدثنا صالح بن عبدالله الترمذي حدثنا الظـبي بن الأشعث سمعت عطية بن زيد العوفي يقول : بلغني أن العبد إذا لقي الله ولم يتعلم كتابة علمه في قبرة حتى يثبته الله عليه .
124- 
وخرجه أبو القاسم الأزهري في كتاب فضائل القرآن من رواية عبد الكريم ابن الهيثم . حدثنا الحسن بن عبد الله بن حرب حدثنا الظبي بن الأشعث بن سالم ، حدثني عطية عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ القرآن ولم يستظهره أتاه ملك فزجره في قبره فلقي الله وقد استظهره " ، وهذا المرفوع لا يصح .
125- 
وخرج الخلال في كتاب السنة من طريق إبراهيم بن الحكم بن أبان وفيه ضعف عن أبيه عن عكرمة قال : قال ابن عباس المؤمن يعطي مصحف في قبره يقرأ فيه ، وخرجه ابن البراء في الروضة من طريق حفص بن عمرو العدوي وفيه ضعف أيضا عن الحكم بن أبان .
وروى الحافظ أبو العلى الهمداني في النوم بعد موته وهو في مدينة جدرانها وحيطانها كلها كتب فسئل عن ذلك فقال سألت الله أن يشغلني بالعلم كما كنت أشتغل به فأنا أشتغل بعلم في قبري أو كما قال ، وروؤي الحافظ عبد القادر الرهاوي في النوم بعد موته وهو يسمع الحديث فقال : أنا لا أزال أسمع الحديث إلى يوم القيامة أوكما قال .
الباب الخامس
في عرض منازل أهل القبور عليهم من الجنة أو النار بكرة وعشيا
قال الله تعالى : { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } .
126- 
قال قتادة في هذه الآية يقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخا وصغاراً ونقيصة . وقال ابن سيرين : كان أبو هريرة يأتينا بعد صلاة العصر فيقول : عرجت ملائكة ، وهبطت ملائكته ، وعرض آل فرعون على النار فلا يسمعه أحد إلا يتعوذ بالله من النار .
127- 
وقال شعبة عن معلي بن عطاء سمعت ميمون بن ميسرة يقول : كان أبو هريرة إذا أصبح ينادي : أصبحنا والحمد لله وعرض آل فرعون على النار فلا يسمعه أحد إلا يتعوذ بالله من النار ورواه هيثم عن معلي عن ميمون قال كان لأبي هريرة صيحتان كل يوم أول النهار يقول : ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار وإذا كان العشي يقول : ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استجار بالله من النار .
128- 
ويروى من حديث الليث عن أبي قيس عن هذيل عن ابن مسعود قال : أرواح آل فرعون في أجواف طير سود فيعرضون على النار كل يوم مرتين فيقال لهم هذه منازلكم فذلك قوله تعالى { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } ورواه غيره عن أبي قيس عن هذيل من قوله .
129- 
لكن خرج الإسماعيلي اللالكائي من طريق ابن عيينة عن مسروق عن أبي قيس عن هذيل عن ابن مسعود أيضا ، قال ابن أبي الدنيا حدثنا حماد بن محمد الفزاوي قال بلغني عن الأوزاعي أنه سأله رجل بعسقلان عن الساحل فقال : يا أبا عمر وأنا نرى طيرا سوداً تخرج من البحر فإذا كان العشي عاد مثلها بيضا . قال وفطنتم لذلك قالوا : نعم . قال فتلك طير في حواصلها آل فرعون ، فتلفحها النار فيسود ريشها ثم يلقى ذلك الريش ثم تعود إلى أوكارها فتلفحها النار ، فذلك دأبها حتى تقوم الساعة فيقال: { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } .
130- 
وفي الصحيحين من حديث أبي عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، حتى يبعثه الله يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة ".
131- 
ورواه الفضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه " ما من عبد يموت إلا عرض عليه مقعده إن كان من أهل الجنة وإن كان من أهل النار ".
الباب السادس
في ذكر عذاب القبر ونعيمه
قال الله تعالى { فلولا إذا بلغت الحلقوم . وأنتم حينئذ تنظرون . ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون . فلولا إن كنتم غير مدينين . ترجعونها إن كنتم صادقين . فأما إن كان من المقربين . فروْح وريحان وجنة نعيم . وأما إن كان من أصحاب اليمين . فسلام لك من أصحاب اليمين . وأما إن كان من المكذبين الضالين . فنزل من حميم . وتصلية جحيم . إن هذا لهو حق اليقين } .
132- 
قال آدم بن أبي إياس حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات { فلولا إذا بلغت الحلقوم . وأنتم حينئذ تنظرون } إلى قوله { فروح وريحان وجنة نعيم } إلى قوله { فنزل من حميم . وتصلية جحيم } قال : " إذا كان عند الموت قيل له هذا ، فإن كان من أصحاب اليمين أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن كان من أصحاب الشمال كره لقاء الله فكره الله لقاءه " .
133- 
وخرج الإمام أحمد من طريق همام عن عطاء بن السائب سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو يتبع جنازة يقول حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " فأكب القوم يبكون قال : " ما يبكيكم ؟ قالوا إنا نكره الموت قال : ليس ذلك ولكنه إذا حضر { فأما إن كان من المقربين . فروح وريحان وجنة نعيم } فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله والله للقائه أحب { وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم . وتصلية جحيم } ، وفي قراءة ابن مسعود { ثم تصلية جحيم } فإذا بشر كره لقاء الله والله للقائه أكره .
134- 
خرج ابن البراء في كتاب الروضة من حديث عمرو بن شمر وهو ضعيف جداً عن جابر الجعفي عن تميم بن حذلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من ميت يموت إلا وهو يعجف غاسله ويناشد حامله إن بشر بروح وريحان وجنة نعيم أن يعجله وإن يشر بنزل من حميم وتصلية جحيم أن يحبسه .
135- 
وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب لقاء الله أحب الله لقائه ومن كره لقاء الله كره الله لقائه " فقالت عائشة أو بعض أزواجه : إنا نكره الموت قال : " ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله فأحب الله لقائه ، وإن الكافر إذا حُضر بُشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله فكره الله لقائه " وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة .
136- 
وعن زاذان عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن نفس المؤمن يقال لها أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى مغفرة من الله ورضوان فتسيل كما تسيل القطرة من السقاء وإن نفس الكافر يقال لها أخرجي إلى غضب من الله وسخطه فتتفرق في جسده وتأبى أن تخرج فيجذبونها فينقطع معها العروق والعصب ، وفي رواية عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فتفرق روحه في جسده كراهة أن تخرج لما ترى وتعاين فيستخرجها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول " .
وقد دل القرآن على عذاب القبر في مواضع كقوله تعالى { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءاياته تستكبرون } .
138- 
وخرج الترمذي بإسناده عن علي قال : ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت { ألهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر } .
139- 
وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى { فإن له معيشة ضنكاً } قال " عذاب القبر " وقد روي موقوفاً وروي عن أبي هريرة مرفوعاً، وروي من وجه آخر من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً وموقوفاً وسيأتي إن شاء الله .
140- 
وقال آدم بن أبي إياس حدثنا المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه عن ابن مسعود قال : إذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له من ربك وما دنيك فيقول لا أدري فيضيق عليه قبره ثم قرأ ابن مسعود { فإن له معيشة ضنكاً } قال : المعيشة الضنك عذاب القبر .
141- 
وروى شريك عن ابن إسحاق عن البراء في قوله { وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } قال عذاب القبر ، وكذا روى عن ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } إنه عذاب القبر وكذا قال قتادة والربيع بن أنس في قوله عز وجل { سنعذبهم مرتين } أحدهما في الدنيا والأخرى هي عذاب القبر .
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر والتعوذ منه ، وفي الصحيحين عن مسرق عن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر قال " نعم عذاب القبر حق " قالت عائشة : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر .
142- 
وفيهما عن عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني رأيتكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال " قالت عائشة فكنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يتعوذ من عذاب القبر .
143- 
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن " اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات " .
144- 
وفيه أيضاً عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع : من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال " .
145- 
وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط بني النجار على بغلة له ونحن معه إذ حادت به ، فكادت تلقيه ، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال " من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ " فقال رجل أنا : قال متى مات هؤلاء ؟ قال : ماتوا في الإشراك فقال : " إن هذه الأمه تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه " ثم أقبل علينا بوجهه فقال : " تعوذوا بالله من عذاب النار" قالوا : نعوذ بالله من عذاب النار قال : " تعوذوا بالله من عذاب القبر " قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر قال : " تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن " قالوا : نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن . قال : " تعوذوا بالله من فتنة الدجال " قالوا : نعوذ بالله من فتنة الدجال .
146- 
وفي صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله ان يسمعكم من عذاب القبر " .
147- 
وفي الصحيحين من حديث أبي أيوب الانصاري قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس فسمع صوتاً فقال : " يهود تعذب في قبورها " .
148- 
وخرج الغمام أحمد وأبو داود من حديث البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنا على رؤوسنا الطير ومعه عود ينكت به الأرض ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال : " استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثاً وذكر الحديث بطوله .
149- 
وخرج الغمام أحمد من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم نخلاً لبني النجار فسمع أصوات رجال من بني النجار ماتوا في الجاهلية يعذبون في قبورهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً ، فأمر أصحابه أن يتعوذوا بالله من عذاب القبر .
150- 
وخرجه أيضاً من حديث أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في حائط من حوائط بني النجار فيه قبور منهم قد ماتوا في الجاهلية فسمعهم يعذبون فخرج وهو يقول : " استعيذوا بالله من عذاب القبر " قلت : يا رسول الله إنهم ليعذبون في قبورهم قال " نعم عذاباً يسمعه البهائم " .
151- 
وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال : " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستبرىء من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة " ثم أخذ جريدة رطبة فشقها باثنتين ثم غرز على كل قبر منهما واحدة ، قالوا لم فعلت هذا يا رسول الله قال : " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " .
152- 
وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة خرجه ابن ماجه من حديث أبي بكرة وفي حديثه " وأما الآخر فيعذب في الغيبة " .
153- 
وخرجه الخلال وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض رواياته " وأما الآخر فكان يهمز الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة " وخرجه الطبراني من حديث عائشة وأنس بن مالك وابن عمر .
154- 
وخرجه أبو يعلى الموصلي وغيره من حديث جابر وفي حديثه " أما أحدهما فكان يغتاب الناس " .
155- 
وخرجه الأثرم من حديث أبي أمامة وفي حديثه قالوا : يا نبي الله وحتى متى يعذبان قال : " غيب لايعلمه إلا الله ولولا تمريج قلوبكم وتزييدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع " .
وروي من وجوه أخر .
156- 
وخرج النسائي من حديث عائشة قالت : دخلت امراة من اليهود فقالت : إن عذاب القبر من البول قلت : كذبت ، قالت : إنه ليقرظ من الجلد والثوب قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاته وقد ارتفعت أصواتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هذا ؟ فأخبرته بما قالت فقال : " صدقت " .
157- 
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن حسنة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم البول قطعوا ما أصابه البول فنهاهم فعذب في قبره " .
158- 
وخرج الغمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أكثر عذاب القبر من البول " وروي موقوفاً عن أبي هريرة .
159- 
وخرج البزار والحاكم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن عامة عذاب القبر من البول فتنزهوا منه " .
150- 
وخرج البزار والدار قطني من حديث أنس عن النبي قال : " اتقوا التبول فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر " .
161- 
وخرج ابن عدي من حديث أنس أن النبي مر برجل يعذب في قبره من النميمة ورجل يعذب في قبره من الغيبة ورجل يعذب في قبره من البول " .
162- 
وخرج أيضاً بإسناده فيه ضعف عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فتنة القبر من ثلاث : من الغيبة ، والنميمة ، والبول " .
163- 
ولكن روى عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة قال : كان يقال : عذاب القبر من ثلاثة أثلاث ثلث من الغيبة ، وثلث من النميمة ، وثلث من البول ، خرجه الخلال وهذا أصح .
164- 
وخرج الأثرم والخلال من حديث ميمونة مولاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها " يا ميمونة إن من أشد عذاب القبر من الغيبة والبول " ، وقد ذكر بعضهم السر في تخصيص البول والنميمة بعذاب القبر وهو أن القبر أول منازل الآخرة وفيه أنموذج ما يقع في يوم القيامة من العقاب والثواب ، و المعاصي التي يعاقب عليها يوم القيامة نوعان : حق لله وحق لعباده وأول ما يقضي فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ، ومن حقوق العباد الدماء .
وأما البرزخ فقضى فيه في مقدمات في هذين الحقين ووسائلهما . فمقدمة الصلاة : الطهارة من الحدث والخبث ، ومقدمة الدماء النميمة والوقيعة في الأعراض وهما أيسر أنواع الاذى فيبدأ في البرزخ بالمحاسبة والعقاب عليهما .
165- 
وروى عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحق عن أبي ميسرة عن شرحبيل قال : مات رجل فلما أخل في قبره أتته الملائكة فقالوا : إنا جالدوك مائة جلدة من عذاب الله قال فذكر صلاته وصيامه واجتهاده قال : فخففوا عنه حتى انتهى إلى عشرة ثم سألهم فخففوا عنه عتى انتهى إلى واحدة فجلدوه جلدة اضطرم قبره ناراً ، وغشى عليه فلما أفاق قال : فيم جلدتموني هذه الجلدة ؟ قالوا : إنك بلت يوماً ، وصليت ولم تتوضأ ، وسمعت رجلاً يستغيث مظلوماً فلم تغثه .
166- 
ورواه أبو سنان عن أبي إسحق عن أبي ميسرة بنحوه ، ورويناه من طريق حفص بن سليمان القارء وهو ضعيف جداً عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم . فعذاب القبر حصل هاهنا بشيئين : أحدهما ترك طهارة الغدث ، والثاني ترك نصرة المظلوم مع القدرة عليه ، كما أنه في الأحاديث المتقدمة حصل بترك طهارة الخبث والظلم بالقول وهي متقاربة في المعنى.
167- 
وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إني رأيت الليلة عجباً " فذكر الحديث بطوله وفيه " رأيت رجلاً من أمتي بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوءه فاستنقذه منه " أخرجه الطبراني وغيره ، ففي هذا الحديث أن الطهارة من الحدث تنجي من عذاب القبر ، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينجي من عذاب القبر كما تقدم ذكره في الباب الثاني لأن فيه غاية النفع للناس في دينهم ، وكذلك الجهاد والرباط فإن المجاهد والمرابط في سبيل الله كل منهما بذل نفسه وسمح بنفسه لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر وليذب عن إخوانه المؤمنين عدوهم .
168- 
وفي الترمذي عن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " للشهيد عند الله ست خصال ، يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الاكبر " وذكر بقية الحديث.
169- 
وخرج الحاكم وغيره من حديث أبي أيوب عن النبي _صلى الله عليه وسلم قال : " من لقي في سبيل الله فصبر حتى يقتل أو يغلب لم يفتن في قبره أبداً " .
169 - 
وفي صحيح مسلم عن سلمان عن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات أجرى عليه عمله الذي كان يعمله وأرى عليه رزقه وأمن الفتَّان " . وخرجه غيره وقال فيه "وقى عذاب القبر"وخرج الترمذي وأبوداود من حديث فضالة بن عبيد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – معناه أيضاً. وروي من وجوه أخرى .
170- 
وخرج النسائي من حديث راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم _ أن رجلاً قال : يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد قال : كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة " .
171- 
وروى مجالد عن محمد بن المنتشر عن ربعي عن حذيفة قال : إن في القبر حساباً، وفي القيامة حساباً, فمن حوسب يوم القيامة عذب .
172- 
وروى ابن عجلان عن عوف بن عبد الله قال : يقال : إن العبد إذا أدخل قبره سئل عن صلاته أول شيء يسأل عنه فإن جازت له صلاته نظر فيم سوى ذلك من عمله، وإن لم تجز له لم ينظر في شيء من عمله بعد .
فصل
وقد ورد في عذاب القبر أنواع ، منها الضرب إما بمطراق من حديد أو غيره ، وقد سبق ذلك أحاديث متعددة
173- 
وروينا من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيع الغرقد فوقف على قبرين فقال : " أدفنتم ها هنا فلاناً وفلانة أو قال فلاناً وفلاناً " قالوا : نعم . فقال " قد أقعد فلان الآن يضرب " ثم قال : " والذي نفسي بيده لقد ضرب ضربة ما بقي منه عرق إلا انقطع ولقد تطاير قيره ناراً ولقد صرخ صرخة يسمعها الخلائق إلا الثقلين الجن والإنس ولولا تمريج في صدوركم و تزييدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع " قالوا : يا رسول الله ما ذنبهما قال : " أما فلان فكان لا يستبرىء من البول وأما فلان أو فلانة فكان يأكل لحوم الناس " و في هذا الإسناد ضعف .
174- 
وروى ابن جرير في تفسيره من طريق أسباط عن السدي قال البراء بن عازب : إن الكافر إذا وضع في قبره أتته دابة كأن عينيها قدران من نحاس معها عمود من حديد فتضربه ضربة بين كتفيه فيصيح فلا يسمع صوته أحد إلا لعنه ولا يبقى شيء إلا سمع صوته إلا الثقلين الجن والإنس .
175- 
ومن طريق جويبر عن الضحاك قال : الكافر إذا وضع في قبره ضربه بمطراق فيصيح صيحة فيسمع صوته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس فلا يسمع صيحته شيء إلا لعنه .
176- 
وروى اللالكائي بإسناده عن محمد بن المنكدر قال : بلغني " أن الله عز وجل يسلط على الكافر في قبره دابة عمياء بيدها سوط من حديد رأسها مثل غرب الجمل تضربه إلى يوم القيامة لا تراه ولا تسمع صوته فترحمه " . ومنها تسليط الحيات والعقارب ، وقد سبق ذلك من حديث أبي هريرة .
177- 
وروى ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث أن أبا السمح حدثه عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي _صلى الله عليه وسلم _ أنه قال : " أتدرون فيما أنزلت هذه الآية{ فإن له معيشة ضنكاً } تدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً أتدرون ما التنين ؟ قال تسعة وتسعون حية لكل حية سبعة رؤوس " وفي رواية " تسعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون " خرجه بقي بن مخلد في مسنده، وخرجه البراز من وجه آخر عن ابن حجيرة عن أبي هريرة مرفوعاً أيضفا مختصراً، وخرج ابن منده من طريق أبي حازم عن أبي هريرة وذكر قبض روح المؤمن والكافر، وقال في الكافر " وتسلط عليه الهوام وهي الحيات فينام كالمنهوس ويفزع . وخرجه مرفوعاً أيضاً . وقد روي عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قال : " يسلط على الكافر في قبره تسع وتسعون تنيناً يلدغونه حتى تقوم الساعة ولو أن تنيناً منها نفخ على الأرض ما أنبتت خضراء " خرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق سعيد بن [ أبي ] أيوب عن سعيد أبي خلاد بن سليم ورواه ابن لهيعه عن دراج مرفوعاً أيضاً إلا أنه قال : " ضمه القبر " .
178- 
وخرجه الخلال من طريق سعيد أبي خلاد بن سليم عن دراج أبي السمح عمن حدثه عن أبي سعيد : أنهم سألوهم عن المعيشة الضنك قالوا : هي معيشة الكافر في قبره ويضيق عليه قبره حتى تداخل الأضلاع بعضها في بعض يتمنى أن لو خرج منها إلى النار . وهذا موقوف ، قد سبق في الباب الثاني من وجه آخر مرفوعاً ، وقد روي بعضه من وجه مرفوعاً وموقوفاً أيضاً .
179- 
وروى منصور بن صقير عن حماد بن سلمة عن أبي حازم عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية :{ معيشة ضنكا} قال " المعيشة الضنك عذاب القبر يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ولا يزال يعذب حتى يبعث " خرجه الخلال ، ومنصور بن صقير فيه ضعف وخالفه آدم بن أبي إياس فرواه عن أبي حازم عن حماد بن سلمة ووقفه وكذا رواه الثوري وسليمان بن بلال الداروردي وغيره عن أبي حازم عن النعمان عن أبي سعيد موقوفاً أيضاً ، فمنهم من قال أخطأ فيه ابن عيينة ، كذا قاله أبو زرعة والعلائي ، وقيل بل أبو سلمة هذا هو النعمان بن أبي عياش قاله أبو حاتم الرازي و أبو أحمد الحاكم وأبو بكر الخطيب .
180- 
وخرج الإمام أحمد من حديث علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " يرسل على الكافرين حيتان واحدة من قبل رأسه والأخرى من قبل رجليه يقرصانه قرصاً كلما فرغتا عادتا إلى يوم القيامة " .
181- 
وخرج بن أبي الدنيا بإسناد ضعيف عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يرى أحد خارجاً من الدنيا شاتماً لأحد منهم - يعني من أول هذه الأمة - إلا سلط الله عليه دابة في قبره تقرص لحمه يجد ألمه إلى يوم القيامة " .
182- 
وخرج الخلال من طريق عاصم عن زرعن ابن مسعود قال : يقال للكافر في قبره : ما أنت ؟ فيقول : لا أدري فيقال : لا دريت ثلاثاً ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويرسل عليه حيات من جوانب قبره تنهشه وتأكله فإذا خرج فصاح قمع بمقمع من نار أو حديد ، وخرجه أبو بكر الأجري وزاد فيه " ويضرب ضربة يلتهب قبره ناراً " وعنده " ويبعث عليه حيات من حيات القبر كأعناق الإبل " .
183- 
وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الموت بإسناده عن عبيد بن عمير قال : يسلط عليه شجاع أقرع فيأكله حتى يأكل أم هامته فهذا أول ما يصيبه من عذاب الله . وبإسناده عن مسروق قال : ما من ميت يموت وهو يزني أو يسرق أويشرب أويأتي شيئاً من هذه إلا جعل معه شجاعان ينهشانه في قبره ، ومنها رض رأس الميت بحجر وشق شدقه ونحو ذلك.
184- 
قد ورد ذلك من حديث سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " رأيت الليلة رجلين آتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه ثم يفعل بشدقه الآخر قبل ذلك ويلتأم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله ، قلت ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة فيشدخ بها رأسه ، فإذا ضرب تدهده الحجر فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع على هذا حتى يلتأم رأسه وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه ، قلت من هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا إلى نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته ناراً فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون فإذا خمدت رجعوا فيها وفيها رجال ونساء فقلت من هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شاطئ النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه حجراً رجع كما كان ! قلت : ما هذا ؟ قالا لي : انطلق فانطلقنا " فذكر الحديث. وفيه " قلت طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت قالا : نعم أما الرجل الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدث بالكذب فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ذلك إلى يوم القيامة ، وأما الذي رايته يشدخ راسه فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يفعل به إلى يوم القيامة ، وأما الذي رأيت في النقب فهم الزناة ، وأما الذي رأيت في النهر فآكل الربا " وذكر الحديث بطوله ، خرجه البخاري ، وروى هذا أبو خلدة عن أبي حازم عن سمرة وفي حديثه " قلت : فالذي يسبح في الدم قال : ذاك صاحب الربا ذاك طعامه في القبر إلى يوم القيامة قلت فالذي يشدخ رأسه ؟قال : ذاك رجل تعلم القرآن فنام حتى نسيه لا يقرأ منه شيئاً كلما رقد دقوا رأسه في القبر إلى يوم القيامة ولا يدعونه ينام .
ومنها تضييق القبر على الميت حتى تختلف فيه أضلاعه ، وقد سبق ذلك في أحاديث متعددة .
185- 
وخرج الخلال بإسناد ضعيف عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الكافر : " يضيق عليه قبره حتى يخرج دماغه من بين أظفاره ولحمه " .
186- 
وقد ورد ما يدل على أن التضييق عام للمؤمن والكافر ، وصرح بذلك طائفة من العلماء منهم ابن بطة وغيره فروى شعبة عن سعد بن إبراهيم عن نافع عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجياً منها لنجا منها سعد بن معاذ " خرجه الإمام أ حمد وقد اختلف على شعبة في إسناده فقيل عنه كما ذكرنا ، وقيل عن شعبة عن نافع عن إنسان عن عائشة وقيل عنه عن سعد عن نافع عن امرأة ابن عمر عن عائشة .
وروى الثوري عن سعد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالمحفوظ .
187- 
وروى ابن لهيعة عن عقيل سمع سعد بن إبراهيم يخبر عن عائشة بنت سعد عن عائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها " تعوذي بالله من عذاب القبر فإنه لو نجا منه أحد لنجا سعد بن معاذ لكنه لم يزد على ضمه " خرجه الطبراني ، ورواية شعبة أفصح .
188- 
وخرج الإمام أحمد من حديث محمد بن جابر عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما انتهينا إلى القبر قعد على شقه فجعل يردد بصره فيه ثم قال " يضغط المؤمن ضغطة تزول منها حمائله ويملى على الكافر ناراً " ومحمد بن جابر هو التالي ضعيف وأبو البختري لم يدرك حذيفة .
189- 
وخرج النسائي من حديث نافع عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفاً من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه " . وخرجه البزار وقال : روي عن عبيد الله عن نافع مرسلاً، قلت : سبق الاختلاف فيه على سعد بن إبراهيم عن نافع .
190- 
ورواه زيد بن أنيسة عن جابر عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن كنت لأرى لو أن أحداً أعفى من عذاب القبر لعفى منه سعد بن معاذ لقد ضم فيه ضمة ".
191- 
وخرج البزار من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر، وخرج الطبراني من طريق زكريا بن سلام عن سعيد بن مسروق عن أنس قال : لما ماتت زينب بنت رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ حزن ثم سرى فقلنا يا رسول الله رأينا منك ما لم نر قال : " ذكرت زينب وضعفها وضغطة القبر لقد هون عليها وهي لقد ضغطت ضغطة بلغت الخافقين " . وزكريا قيل : إنه مجهول، وسعيد بن مسروق لم يدرك أنساً فهو منقطع ، وقد روى من وجه آخر عن آنس من رواية الأعمش عن أنس عن النبي _صلى الله عليه وسلم _ بمعناه ، وكذا رواه حمزة السكري عن الأعمش والأعمش لم يسمع من أنس عند الأكثرين .
192- 
وقيل عن أبي حمزة عن الأعمش عن سليمان عن أنس ورواه سعد بن الصلت عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس ، ورواه حماد بن سلمة عن ثمامة عن أنس أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ دفن صبياً أو صبية فقال " لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا منها هذا الصبي " خرجه الخلال والطبراني وقد اختلف فيه على حماد ، فرواه جماعة عن عثمان مرسلاً و المرسل هو الصحيح عند أبي حاتم الرازي والدارقطني .
193- 
وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي النضر عن زياد مولى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد على قبر سعد بن معاذ فقال " لو نجا من ضغطة القبر أحد منه لنجا سعد بن معاذ لقد ضم ضمة ثم فرج عنه " خرجه الطبراني وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث يزيد بن عبد الله بن الهاد عن معاذ بن رفاعة عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسعد وهو يدفن " سبحان الله لهذا العبد الصالح الذي تحرك له عرش الرحمن وفتحت له أبواب السماء شدد عليه ثم فرج عنه " .
195- 
وخرجه الإمام أحمد من طريق ابن اسحاق حدثني معاذ بن رفاعة عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه " . وذكر ابن اسحاق اهتزاز العرش وفتح أبواب السماء عن معاذ بن رفاعة قال حدثني من سألت من رجال قومي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكره في حديث جابر ، وزاد في إسناد حديث جابر رجلاً وقوله أصح من قول يزيد بن الهاد في هذا كله عند كثير من أئمة الحفاظ والله أعلم .
196- 
وخرج البيهقي من حديث أبي إسحاق حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد ، ما بلغكم من قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ؟ قالوا : ذكر لنا أن رسول - الله صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك فقال " كان يقصر في بعض الطهور من البول وذكر ابن أبي الدنيا عن محمد بن عبد الله التميمي قال : سمعت أبا بكر التميمي شيخاً من قريش يقول : إن ضمة القبر أصلها أنها أمهم ومنها خلقوا فغابوا عنها الغيبة الطويلة فلما رد إليها أولادها ضمتهم ضمة الوالدة التي غاب عنها ولدها ثم قدم عليها فمن كان لله مطيعاً ضمته برأفة ورفق ومن كان لله عاصياً ضمته بعنف سخطاً منها عليه لربها .
198- 
وروي في كتاب المحتضرين بإسناده عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع . أنه لما حضرته الوفاة جعل يبكي فقيل : ما يبكيك ؟ فقال : ذكرت سعداً وضغطة القبر .
199- 
وروى هناد بن السري عن سعيد بن دينار عن إبراهيم الغنوي عن رجل عن عائشة أنها مرت بها جنازة صغير فبكت وقالت : بكيت لهذا الصبي شفقة عليه من ضمة القبر .
200- 
قال هناد : وحدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن أبي مليكة قال : ما أجير من ضغطة القبر أحد ولا سعد بن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها .
201- 
وقال أبو الحسن بن براء : حدثنا محمد بن الصباح حدثنا عمار بن محمد عن ليث عن المنهار عن زاذان عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } قال : يكسى الكافر في قبره ثوبين من نار فذلك قوله سبحانه وتعالى { ومن فوقهم غواش } غريب منكر .
وقد قيل : إن العذاب يفتر عن أهل القبور فيما بين النفختين ، كذا ذكره سعيد ابن بشير ، يدل على ذلك قوله تعالى { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن } يعني تلك الفترة التي لا عذاب فيها .
202- 
وورد ذلك مرفوعاً خرجه الخلال في كتاب السنة حدثنا إسحاق بن الناسكي حدثنا محمد بن صعب حدثنا روح بن مسافر عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن هذه الأمة تبتلى في قبورها " وذكر الحديث بطوله وفي آخر قال " يعذبون في قبورهم إلى قريب من قيام الساعة ثم ينامون قبل الساعة وهي النومة التي ندموا عليها حيث قالوا { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا } وهذا إسناد ضعيف وروح بن مسافر وإسحاق بن خالد ضعيفان جداً .
203- 
وقد يرفع عذاب القبر أو بعضه في بعض الأشهر الشريفة فقد روي بإسناد ضعيف عن أنس بن مالك أن عذاب القبر يرفع عن الموتى في شهر رمضان وكذلك فتنة القبر ترفع عمن مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة .
204- 
كما خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر " .
فصل
وأما نعيم القبر فقد دل عليه قوله تعالى { فأما إن كان من المقربين . فروح وريحان وجنة نعيم } كما سبق ، وقد تقدم في حديث البراء وغيره ذكر بعض نعيم القبر
205 - 
وروى ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث أن أبا السمح دراجاً حدثه عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن في قبره لفي روضة خضراء ويرحب له قبره سبعون ذراعاً وينور له فيه كالقمر ليلة البدر " .
206- 
وروى أبو عبد الرحمن المقري حدثنا داود وأبو بحر عن صهر له يقال له : مسلم بن مسلم عن مورق العجلى عن عبيد بن عمير قال : قال : عبادة بن الصامت :إذا حضرت الوفاة يعني المؤمن المتهجد بالقرآن جاء القرآن فوقف عند رأسه وهم يغسلونه فإذا فرغ منه دخل حتى صار بين صدره وكفنه ، فإذا وضع في قبره جاء منكر ونكير خرج حتى صار بينه وبينهما فيقولان له : إليك عنا فإنا نريد أن نسأله فيقول : والله ما أنا بمفارقه وإن كنتما أمرتما فيه بشيء فشأنكم ثم ينظر إليه فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا فيقول : أنا القرآن الذي أسهر ليلك وأظمأ نهارك وأمنعك شهوتك وسمعك وبصرك فستجدني من الأخلاء خليل صدق فأبشر فما عليك بعد مسألة منكر ونكير من هم ولا حزن ثم يخرجان عنه فيصعد القرآن إلى ربه فيسأله فراشاً ودثاراً قال : فيؤمر له بفراش ودثاراً وقنديل من الجنة وياسمين من الجنة فيحمل ألف ملك من مقربي السماء الدنيا قال : فيسبقهم إليه القرآن فيقول : هل استوحشت بعدي ؟ فإني لم أزل بربي حتى أمر لك بفراش ودثار من الجنة قال : فتدخل عليه الملائكة فيحملونه ويفرشون له ذلك الفراش ويضعون الدثار تحت رجليه والياسمين عند صدره ثم يحملونه حتى يضعونه علىشقه الأيمن ، ثم يصعدون عنه فيستلقي عليه فلا يزال ينظر إلى الملائكة حتى يلجوا في السماء ثم يدفع القرآن في قبلة القبر فيوسع عليه ما شاء الله من ذلك .
207- 
قال أبو عبد الرحمن : وكان في كتاب معاوية فيوسع له مسيرة أربع مائة عام ثم يحمل الياسمين من عند صدره فيجعله عند أنفه فيشمه غضاً إلى يوم القيامة ، ثم يأتي أهله كل يوم مرة أو مرتين فيأتيه بخبرهم ويدعو لهم بالخير والإقبال ، فإن تعلم أحد من ولده القرآن بشر بذلك وإن كان عقبة سوءاً أنى الدار بكرة وعشيا فبكى إلى أن ينفخ في الصور أو كما قال .
208- 
قال الحافظ أبو موسى المديني . هذا خبر رواه الإمام أحمد بن حنبل وأبو خيثمة وطبقتهما من المتقدمين عن أبي عبد الرحمن المقري ، وقد تقدم في الباب الثاني " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " من حديث أبي هريرة وأبي سعيد بإسنادين ضعيفين .
209- 
وروي أيضاً من حديث ابن عمر خرجه ابن أبي الدنيا ، حدثنا هارون بن سفيان حدثنا محمد بن عمر أخبرنا أخي سلمة بن عمر عن ابن أبي شيبة بن أبي كثير الأشجعي عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " إسناده ضعيف .
فصل
وقد كشف لمن يشاء من عباده من أهل القبور ونعيمهم وقد وقع بعض ذلك في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقع بعده كثيراً
210- 
فروى خالد بن حبان الدفني عن كلثوم بن حوس عن يحيى المديني عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : خرجت أسير وحدي فمررت بقبور من قبور الجاهلية فإذا رجل قد خرج من قبر منها يلتهب ناراً وفي عنقه سلسلة من نار ومعي إداوة من ماء ، فلما رآني قال يا عبد الله اسقني ، يا عبد الله صب علي قال : فوالله ما أدري أعرفني أو كلمة تقولها العرب إذا خرج رجل من القبر وقال : يا عبد الله لا تسقه فإنه كافر قال : فأخذ السلسلة فاجتذبه حتى أدخله القبر قال : وآواني الليل إلى منزل عجوز إلى جانب بيتها قبر وقال سمعت هاتفاً يهتف بالليل يقول : بول ما بول ، شن وما شن فقلت : ويحك ما هذا ؟ فقالت : زوج لي وكان لا يتنزه من البول فأقول له : ويحك إن البعير إذا بال تفاج . فكان لا يبالي قالت : وبينما هو جالس إذ جاءه رجل فقال : اسقني فإني عطشان قال : عندك الشن وشن لنا معلق فقال يا هذا اسقني فإني الساعة أموت . قال : عندك الشن قالت : ووقع الرجل ميتاً قالت وهو ينادي من يوم مات بول وما بول شن وما شن . قال : فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته بما رأيت في سفري فنهى عند ذلك : أن يسافر الرجل وحده ، خرجه ابن البراء في كتاب الروضة والخلال في كتاب السنة وابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت ويحيى المديني غير معروف وخرج ابن أبي الدنيا من طريق عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير وهو ضعيف عن سالم عن أبيه من أول هذا الحديث إلى قوله فلا أدري أعرف اسمي أو كقول الرجل يا عبد الله قال : فالتفت فإذا هو قد أدخله القبر وإذا هو قد أهوى إليه بضربة ، ولم يذكر ما بعده ، وخرجه اللالكائي في كتاب السنة من حديث السري بن يحيى عن مالك بن دينار أنه سمعه من سالم بن عبد الله يحدثه عن أبيه وهو خطأ إنما سمعه مالك عن عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير يحدثه عن سالم .
211- 
وخرج الطبراني من طريق عبد الله بن محمد بن المغيرة وهو ضعيف عن مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر قال : بينما أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من حفرة إلى حفرة في عنقه سلسلة فنادى يا عبد الله أسقني فذكره بمعناه ، وقال فيه : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مسرعاً فأخبرته فقال : " أو قد رأيته ؟ " فقلت نعم . قال : " عدو الله أبو جهل وذلك عذابه إلى يوم القيامة " .
212- 
وخرج ابن أبي الدنيا من طريق خالد عن الشعبي أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إني مررت ببدر فرأيت رجلاً يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة معه حتى يغيب في الأرض ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك مراراً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ذلك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة " .
213- 
وذكر الواقدي بغير إسناد أن ابن عمر رأى ذلك ببطن رابغ وأن الملك قال له : لا تسقه فإنه أبي ابن خلف قتيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
214- 
وخرج ابن أبي الدنيا من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه قال : بينما راكب يسير بين مكة والمدينة إذ بمقبرة فإذا رجل قد خرج من قبره يلتهب ناراً مصفداً في الحديد فقال : يا عبد الله انفخ انفخ . وخرج آخر يتلوه فقال : يا عبد الله لا تنفخ قال : وعشي على الراكب وعدلت به راحلته إلى العرج .
قال وأصبح قد ابيض شعره حتى صار كأنه ثغامة ، قال : فأخبر بذلك عثمان فنهى أن يسافر الرجل وحده .
215- 
وخرج أيضاً من طريق يحيى بن أيوب بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن الحويرث بن الديان قال : بينما أنا بالإثاية إذ خرج علينا إنسان من قبر يلتهب وجهه ورأسه ناراً وهو في جامعة من حديد فقال : اسقني من الإداوة وخرج إنسان في أثره فقال : لا تسق الكافر . فأدركه فأخذ بطرف السلسلة فجذبه فكبه ثم جره حتى دخلا القبر جميعاً قال الحويرث : فضربت بي الناقة لا أقدر منه على شيء حتى ألتقط بعرق الضبية فركت ونزلت فصليت المغرب والعشاء الآخرة ثم ركبت حتى أصبحت بالمدينة فأتيت عمر بن الخطاب فأخبرته الخبر : فقال يا حويرث والله ما اتهمك ولقد أخبرتني خبراً شديداً ثم أرسل عمر إلى مشيخته من كنف الصفراء قد أدركوا الجاهلية ثم دعى الحويرث وقال : إن هذا أخبرني ولست اتهمه حدثهم يا حويرث ما حدثتني ، فحدثهم فقالوا : قد عرفنا هذا يا أمير المؤمنين هذا رجل من غفار مات في الجاهلية فحمد الله عمر وسر بذلك حين أخبروه أنه مات في الجاهلية فسألهم عمر عنه فقالوا : يا أمير المؤمنين كان رجلا من رجال الجاهلية ولم يكن يرى للضيف حقاًّ .
216- 
وروي هشام بن عمار في كتاب البعث عن يحيى بن حمزة حدثني النعمان عن مكحول أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد ابيض رأسه ونصف لحيته فقال له عمر : وما بالك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين مررت بمقبرة بني فلان ليلا فإذا رجل يطلب رجلا بسوط من نار كلما لحقه ضربه فاشتعل ما بين مفرقه إلى قدمه نارا فلاذ بي الرجل فقال : يا عبد الله أغثني فقال الطالب : يا عبد الله لا تغثه فبئس عبدالله هو ، فقال عمر : كذلك كره لكم نبيكم ان يسافر الرجل وحده.
217- 
وخرج ابن ابي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت من طريق شهاب بن خراش عن عمه العوام بن حوشب عن مجاهد قال : أردت حاجة فبينما أنا في الطريق إذ فجأني حمار قد خرج عنه من الأرض فنهق في وجهي ثلاثا ثم دخل فأتيت القوم الذين أردتهم فقالوا : ما لنا نرى لونك قد حال ، فأخبرتهم الخبر فقالوا : ذاك غلام من الحي ، وتلك أمه في تلك الخباء وكانت إذا أمرته بشيء شتمها وقال : ما أنت الا حمار فنهق في وجهها فمات فدفناه في ذلك الحفير فما من يوم الا وهو يخرج رأسه في الوقت الذي دفناه فينهق إلى ناحية الخباء ثلاث مرات ثم يدخل .
218- 
وخرجه من وجه آخر عن شهاب عن عمه العوام عن عبد الله بن ابي الهذيل قال : كان رجل إذا كلمته أمه نهق في وجهها ثلاثا ثم ذكر باقيه مختصرا ، قال ابن أبي الدنيا : وحدثنا سويد بن سعيد حدثنا الحكم بن سنان عن عمرو بن دينار قال : كان رجل من اهل المدينة له أخت فماتت فجهزها وحملها إلى قبرها فلما دفنت ورجع إلى أهله ذكر أنه نسي كيسا كان معه في القبر فاستعان برجل من أصحابه فأتيا القبر فنبشاه فوجدا الكيس فقال للرجل : تنح حتى أنظر على أي حال أختي فرفع بعض ما على اللحد فإذا القبر يشتعل نارا فرده وسوى القبر ورجع إلى أمه فسألها عن حال أخته فقالت كانت تؤخر الصلاة عن وقتها ولا تصلي فيما أظن في وضوء وتأتي أبواب الجيران إذا ناموا فتلقم أذنها أبوابهم فتخرج حديثهم .
220- 
وقال أبو الحسن بن البراء : حدثنا العباس بن أبي عيسى حدثنا محمد بن يوسف والفريابي ، حدثنا أبو سنان وهو حي إذهبوا فاسألوه عن هذا قال : فلم أذهب أسأله قال : مات أخ له فجزع عليه جزعاً شديداً ، قلنا ما يحزنك عليه قال : ما حزني عليه لموته ولكن لما فرغت من دفنه سمعت صيحة من قبره وهو يقول أواه ولا أدري في الثانية أوالثالثه فنبشته حتى بلغت قريباً من اللبن فإذا طوق من نار في كفنه وفي وسطه فأدخلت يدي رجاء أن أقطع ذلك الطوق فأحرقت أصابعي فبادرت إحراقها فإذا يده قد احترقت قال : قلت للأوزاعي : هؤلاء اليهود والنصارى يموت الميت منهم فلا يسمع هذا منهم . فقال : أن اليهود والنصارى لا يشك أنهم صاروا إلى النار وهذا يريد الله أن يعظكم في ملتكم .
221- 
وروى ابن أبي الدنيا عن طريق عمر بن هارون عن عبد الحميد بن محمود المغولي قال : كنت جالساً عند ابن عباس فأتاه قوم فقالوا : إنا خرجنا حجاجاً ومعنا صاحب لنا حتى أتينا ذات الصفاح فمات فهيأناه ثم انطلقنا فحفرنا له قبراً ولحدنا له لحداً فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسود قد ملأت اللحد فتركناه وأتيناك فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ذلك عمله الذي كان يعمل به ، انطلقوا فادفنوه في بعضها فلما رجعنا قلنا لامرأته ما كان عمله ويحك ؟ قالت: كان يبيع الطعام فيأخذ كل يوم قوت أهله ثم يقرظ القصب مثله فيلقيه فيه .
222- 
وروى الهيثم بن عدي حدثنا أبان بن عبد الله البجلي قال : هلك جار لنا فشهدنا غسله وكفنه وحمله إلى قبره وإذا شيء في قبره شبيه بالهرة فزجرناه فلم ينزجر فضربالحفار جبهته ببيرمة فلم يبرح فتحولنا إلى قبر آخر ، فلما الحدوا فإذا هو فيه فصنعنا به مثلما صنعوا أولاً ، فلم يبرح يلتفت فرجعوا إلى قبر ثالث فلما ألحدوا وإذا ذاك الهر فيه ، فصنعوا فيه مثلما صنعوا أولاً ، فلم يلتبت فقال بعض القوم : يا هؤلاء إن هذا الأمر ما رأينا مثله فادفنوا صاحبكم فدفنوه فلما سوي عليه اللبن سمعوا قعقعة عظامه فذهبو إلى امرأته فقالوا : يا هذا ما كان يعمل زوجك ؟ وحدثوها بما رأوه فقالت : ما كان يغتسل من الجنابة .
223- 
قال أبو الحسن بن البراء : حدثني عبد الله بن المدني قال : كان لي صديق فقال : فخرجت إلى ضيعتي فأدركني العصر إلى جانبي مقبرة ، فصليت العصر قريبا منها ، فبينما أنا جالس إذ سمعت من ناحية القبر صوتا وأنيناً فدنوت من القبر فإذا هو يقول : آه كنت أصوم , كنت اصلي فأصابتني قشعريرة فدعوت من حضرني , فسمع كما سمعت ومضيت إلى ضيعتي ورجعت فصليت في موضعي الأول ، وصبرت حتى غابت الشمس وصليت المغرب ثم استمعت على ذلك القبر فإذا هو يأن : آه كنت أصوم كنت أصلي , فرجعت إلى أهلي فحممت ومرضت شهرين .
224- 
وخرج أبو القاسم اللالكائي في كتابه شرح السنة بإسناده عن يحيى بن معين قال : قال لي حفار المقابر : أعجب ما رأيت في هذه المقابر أني سمعت من قبر أنيناً كأنين المريض ، وبإسناده عن الحارث المحاسبي قال : كنت في الجبانة في البصرة على قبر فأسمع من القبر : أواه من عذاب الله ، قال الحارث : وكنت في مقبرة ههنا في باب المقبرة فأسمع صوت القنا بعضها على بعض يضرب وأنا مشرف على المقبرة من قبر وهو يقول : أواه .
225- 
وبإسناده عن صدقة بن خالد الدمشقي عن بعض أهل دمشق قال : حججنا فهلك صاحب لنا في بعض الطريق على ماء من تلك المياه فأتينا أهل الماء نطلب شيئاً نحفر له ، فأخرجوا لنا فاساً و مجرفة فلما وارينا صاحبنا نسينا الفأس في القبر ، فنبشناه فوجدناه قد جمع عنقه ويداه ورجلاه في حلقة الفأس فسوينا عليه التراب وأرضينا أصحابه من الثمن ، فلما انصرفنا جئنا إلى امرأته فسألناها عنه ؟ فقالت : كان علي ما رأيتم من حاله يحج ويغزو فلما أخبرناها الخبر ، قالت : صحبه رجل معه مال : فقتل الرجل ، وأخذ المال قالت فيه : كان يحج ويغزو .
226- 
وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده عن يزيد بن المهلب قال : استعملني سليمان بن عبد الملك على العراق وخرسان فودعني عمر بن عبد العزيز فقال : يا يزيد اتق الله فإني حين وضعت الوليد في لحده فأهوى يركض في أكفانه .
227- 
وبإسناده عن عمرو بن ميمون بن مهران قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول : كنت فيمن دلى الوليد بن عبد الملك في قبره ، فنظرت إلى ركبتيه قد جمعت إلى عنقه ، فقال ابنه : عاش والله أبي ورب الكعبة فقلت : عوجل أبوك ورب الكعبة قال : فاتعظ بها عمر بعد .
وبإسناده عن الفضل بن يونس أن عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك : حدثني مولاك عن فلان أنه لما دفن أباك والوليد فوضعهما في قبرهما وذهب ليحل العقد عنهما وجد وجوههما قد حولت في أقفيتهما .
228- 
قال ابن أبي الدنيا : وحدثنا عبد المؤمن بن عبد الله الموصلي حدثني رجل من أهل الرملة قال : أصابتنا ريح شديدة كشفت عن القبور قال : فنظرت إلى جماعة منهم قد حولوا عن القبلة .
229- 
وحدثني رجل أنه ماتت له ابنة فأنزلها القبر فذهب ليصلح لبنة فإذا هي قد حولت عن القبلة ، فاغتمت لذلك غماً شديداً قال : فرأيتها في النوم فقالت : عامة من حولي من أهل القبور محولون عن القبلة قال : كأنها تريد الذين ماتوا على الكبائر .
230- 
وروينا من طريق إسحاق الفزاري أنه سأل نباشاً قد تاب فقلت : أخبرني عمن مات على الإسلام أترك وجهه على ما كان أم ماذا ؟ قال : أكثر ذلك قد حول وجهه عن القبلة ، قال : فكتبت بذلك إلى الأوزاعي فكتب إلي : { إنا لله وإنا إليه راجعون } ثلاث مرات من حول وجهه عن القبلة فإنه مات على غير السنة ، وخرجهما ابن أبي الدنيا مختصراً .
231- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي الحريش عن أمه قالت : لما حفر أبو جعفر خندق في الكوفة حول الناس موتاهم ، فرأيت شاباً ممن حول عاضاً على يده . قال : وحدثنا عبد المؤمن بن عبد الله العنسي قال : قيل لنباش قد كان تاب ما أعجب ما رأيت ؟ قال : نبشت رجلاً فرأيته مسمراً بالمسامير في سائر جسده ومسمار كبير في رأسه وآخر في رجليه . وقيل لنباش آخر : ما أعجب ما رأيت ؟ قال : رأيت جمجمة إنسان مصبوباً فيها رصاص وقيل لنباش آخر : ما كان سبب توبتك ؟ قال : عامة ما كنت أنبش أراه محول الوجه عن القبلة .
232- 
وذكر ابن الفارسي الليث صاحب أبي الفرج ابن الجوزي في تاريخه أنه في سنة تسعين وخمسمائة وجد ميت ببغداد بظاهر باب البصرة ، وقد بلي ولم يبق غير عظامه ، وفي يديه ورجليه ضباب حديد ، وضرب فيها مسماران أحدهما في سرته ، والآخر في جبهته ، وكان هائل الخلقة ، غليظ العظام ، وكان سبب ظهوره زيادة الماء ، كشفت تلا كان يعرف بالتل الأحمر على ميلين من سور باب البصرة القديم .
233- 
وذكر شيخنا أبو عبد الله بن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح حدثنا أبو عبد الله محمد بن سنان السلامي التاجر ، وكان من خيار عباد الله ، قال : جاء رجل إلى سوق الحدادين ببغداد ، فباع مسامير صغاراً فأخذها الحداد فجعل يحمي عليها ، فلا تلين معه حتى عجز عن ضربها ، فطلب الذي باعها عليه ؟ فوجده فقال : من أين لك هذه المسامير ، قال : لقيتها ، فلم يزل حتى أخبره أنه رأى قبراً مفتوحاً وفيه عظام ميت منظومة بهذه المسامير قال : فعالجتها على أن أخرجها ، فلم أقدر ، فأخذت حجراً فكسرت عظامه وجمعتها ، قال : وأنا رأيت تلك المسامير ، قلت : وكيف وجدت صفتها ؟ قال : المسمار صغير برأسين . قلت : هذه الحكاية مشهورة ببغداد وقد سمعتها وأنا صبي ببغداد وهي مستفيضة بين أهلها . قال شيخنا : وحدثنا أبو عبد الله محمد بن الوزير الحراني أنه خرج من داره بآمد بعد العصر إلى بستان ، فلما كان قبل غروب الشمس توسط القبور فإذا قبر منها ، وهو جمرة نار مثل كور الحداد زجاج والميت في وسطه قال : فجعلت أمسح عيني ، أقول : أنا نائم أم يقظان ، ثم التفت إلى سور المدينة فقلت : والله ما أنا بنائم ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش ، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل ، فدخلت البلد وسألت عن صاحب القبر ، فإذا هو مكاس قد توفي في ذلك اليوم .
234- 
وأنبأنا الحافظ أبو محمد القاسم بن محمد البرازلي فيما ذكره في تاريخه عن عبد العزيز بن عبد المنعم بن الصقيل الحراني قال : حكى لي عبد الكافي أنه شهد مرة جنازة فإذا عبد أسود معنا ، فلما صلى الناس ، لم يصل ، فلما حضرنا الدفن نظر إلي ثم قال : أنا عمله قم ألقى نفسه في القبر ، قال : فنظرت فلم أر شيئاً . وأنبأنا محمد بن خليفة عن عبد المؤمن بن خلف الحافظ قال : سمعت محمد بن أسماعيل هبة الله الدمياطي يقول : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله الثعلبي صاحب السفلى يقول : كان عندنا نباش يتكفف الناس أعمى وكان يقول : من يعطني شيئاً فأخبره بالعجب ثم يقول : من يزيدني فأريه العجب ، قال : فأعطي شيئاً وأنا إلى جانبه أنظره ، فكشف عن عينيه فإذا بهما قد نفذتا إلى قفاه كالأنبوبتين النافذتين ، يرى من قبل وجهه ما وراء قفاه ، ثم قال : ألا أخبركم أني كنت في بلدي نباشاً حتى شاع أمري فأخفت الناس حتى ما أبالهم ، وأنا قاضي البلد مرض مرضاً خاف منه الموت فأسل إلي فقال : أنا أشتري هلاكي منك في قبري وهذه مائة دينار مؤمنة فأخذتها ، فعوفي من ذلك المرض ثم مرض بعد ذلك ثم مات ، ثم توهمت أن العطية للمرض الأول ، فجئت فنبشته فإذا القبر حس عقوبة والقاضي جالس ثائر الرأس محمرة عيناه كالسكرجتين فوجدت زمعاً في ركبتي وإذا بضربة في اصبعتين وقائل يقول : يا عدو الله أتطلع على أسرار الله عز وجل ؟
فصل
وقد ورد أن الميت يجد ألم الموت ما دام في قبره ولعل ذلك خاص ليس بعام
235- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه نظر عن كعب قال : لا يذهب عن الميت ألم الموت ما دام في قبره وإنه لأشد ما يمر على المؤمن وأهون ما يصيب الكافر.
236- 
وعن الأوزاعي قال : بلغني أن الميت يجد ألم الموت ما لم يبعث من قبره أو قال : إلى أن يبعث من قبره .
237- 
وخرج هو أيضاً وأبو يعلى الموصلي من رواية الربيع بن سعد الجعفي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : " حدثوا عن بني إسرائيل فإنه كان فيهم الأعاجيب " ثم أنشأ يحدث قال : خرجت رفقة مرة يسيرون في الأرض فمروا بمقبرة ، فقال بعضهم لبعض : لو صلينا ركعتين ، ثم دعونا الله عز وجل ، لعله أن يخرج لنا بعض أهل هذه المقبرة فيخبرنا عن الموت قال : فصلوا ركعتين ثم دعوا الله فإذا هم برجل خلاسي قد خرج من قبره ينفض رأسه ، بين عينيه أثر السجود فقال : يا هؤلاء ما أردتم إلى هذا لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني مرارة الموت إلى ساعتي هذه . فادعوا الله أن يعيدني كما كنت ، وهذا إسناد جيد والربيع هذا كوفي ثقة قاله ابن معين : لكن قوله ثم أنشأ يحدث إلى آخر القصة إنما هي حكاية عبد الرحمن بن سابط - عن النبي صلى الله عليه وسلم - كذا روى عن الربيع عن عبد الرحمن بن سابط من قوله ، وخرج البزار في مسنده أول الحديث ولم يذكر فيه قصة الرفقة وهي مدرجة في الحديث كما بينا .
فصل
وما شوهد من نعيم القبر وكرامة أهله فكثير أيضاً ، وقد سبق في الباب الأول والرابع بعض ذلك
238- 
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الرقة والبكاء بإسناده عن مسكين بن بكير أن وراداً العجلي لما مات فحمل إلى حفرته نزلوا ليدلوه في حفرته ، فإذا اللحد مفروش بالريحان ، فأخذ بعضهم من ذلك الريحان ، فمكث الناس من ذلك فأخذه الأمير وفرق الناس خشية الفتنة ، ففقده الأمير من منزله لا يدري كيف ذهب .
239- 
وروى أبو بكر الخطيب بإسناده عن محمد بن مخلد الدوري الحافظ قال : ماتت أمي فنزلت ألحدها فانفرجت لي فرجة عن قبر بقربها فإذا رجل عليه أكفان جدد وعلى صدره طاقة ياسمين طرية ، فأخذتها فشممتها ، فإذا هي أزكى من المسك وشمها جماعة كانوا معي ، ثم رددتها إلى موضعها وسددت الفرجة .
240- 
وروى أبو الفرج بن الجوزي من طريق أبي جعفر عن السراج عن بعض شيوخه قال : كشف قبر بقرب الإمام أحمد وإذا على صدر الميت ريحانه تهتز .
وذكر في تاريخه أن في سنة ست وسبعين وماءتين انفرج تل في أرض البصرة بعرق تل شقيق عن سبعة أقرب في مثل الحوض وفيها سبعة أنفس أبدانهم صحيحة وأكفانهم يفوح منها رائحة المسك أحدهم شاب له جمة وعلى شفتيه بلل كأنه شرب ماء ، وكأن عينيه مكحلتان ، وله مذبة في خاصرته ، وأراد بعض من حضر أن يأخذ من شعره شيئاً فإذا هو قوي كشعر الحي .
241- 
وخرج ابن سعد في طبقاته بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : كنت فيمن حفر لسعد بن معاذ قبره بالبقيع وكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا من قبره تراباً حتى انتهينا إلى اللحد وبإسناده عن محمد بن شرحبيل بن حسنة قال : أخذ انسان قبضة تراب من تراب سعد فذهب بها فنظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك .
242- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن المغيرة بن حبيبة أن عبد الله بن غالب الحراني لما دفن أصابوا من قبره رائحة المسك .
243- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن يونس بن أبي العراب قال : حفر رجل قبراً فقعد يستظل فيه من الشمس فجاءت ريح باردة فأصابت ظهره ، فإذا بقبر صغير فوسعه بأصبعه فإذا هو ينظر مد البصر وإذا شيخ مخضوب كأنما رفعت المواشط يديها عنه وقد بقي من أكفانه على صدره شيء .
وأما من شوهد بدنه طرياً صحيحاً وأكفانه عليه صحيحة بعد تطاول المدة من غير الأنبياء عليهم السلام فكثير جداً ، ونحن نذكر من أعيانهم جماعة .
244- 
قال : عمرو بن شبة : حدثني محمد بن يحيى ، حدثنا هشام بن عبد الله بن عكرمة عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : لما سقط جدار بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعمرو بن عبد العزيز يومئذ على المدينة انكشف قدم من القبور التي في البيت فأصابها شيء فدميت ففزع من ذلك عمرو بن عبد العزيز فزعاً شديداً ، فدخل عروة البيت فإذا القدم قدم عمر بن الخطاب ، فقال لعمر لا تفزع هي قدم عمر بن الخطاب فأمر بالجدار فبني وردعلى حاله .
245- 
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا عبد الجبار بن الورد سمعت أبا الزبير سمعت جابر بن عبد الله يقول : كتب معاوية إلى عامله بالمدينة أن يجري عينا إلى أحد فكتب إليه عامله : أنها لا تجري إلا على قبور الشهداء ، فكتب إليه أن أنفذها قال سمعت جابراً يقول : رأيتهم يخرجون على رقاب الرجال ، كأنهم رجال نوام حتى أصابت المسحاة قدم حمزة فانبعثت دماً .
246- 
روى مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة نه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين ، كان قد حفر السيل قبرهما ما يلي السيل وكانا في قبر واحد وهما ممن استشهد يوم أحد فحفرا عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهوكذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة .
247- 
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا أحمد بن عاصم حدثنا سعيد بن عامر عن المثني ابن سعيد قال : لما نزلت عائشة بنت طلحة البصرة أتاها رجل فقال : إني رأيت طلحة ابن عبيد الله في المنام ، فقال : قل : لعائشة تحولني من هذا المكان فإن البرد قد آذاني . فركبت في مواليها وحشمها ، فضربوا عليه بناء ، واستثاروه فلم يتغير منه إلا شعرات في إحدى شق لحيته أو قال رأسه ، حتى حول إلى موضعه ، وكان بينهما بضع وثمانون سنة . وبإسناده عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه قالت : رأيت طلحة بن عبد الله لما حول من مكانه ، فرأيت الكافور في عينيه ، ولم يتغير منه شيء إلا عقيصة مالت من مكانها . وقال في كتاب الأولياء : كتب أبو عبد الله محمد بن خلف بن صالح التيمي أن إسحاق بن أبي نباتة مكث ستين سنة يؤذن لقومه في مسجد عمرو بن سعيد يعني بالكوفة ، وكان يعلم الغلمان الكتاب ولا يأخذ الأجر فمات قبل أن يحفر الخندق بثلاثين سنة ، فلما حفر الخندق وكان بين المقابر ، ذهب بعض أصحابه يستخرجه ووقع قبره في الخندق ، فاستخرجوه كما دفن ولم يتغير منه شيء إلا الكفن قد جف عليه ويبس والحنوط محطوط عليه ، وكان خضيباً فرأى وجهه مكشوفاً وقد اتصل الحنا في أطراف الشعر ، فمضى المسيب بن زهير إلى أبي جعفر المنصور وهو على شاطىء الفرات ، فأخبره ، فركب أبو جعفر في الليل حتى رآه فأمر به فدفن بالليل لئلا يفتتن الناس .
248- 
وفي الترمذي في سياق حديث صهيب المرفوع في قصة أصحاب الأخدود أن ذلك الغلام الذي قتله الملك وآمن الناس كلهم وقالوا : آمنا برب الغلام وجد في زمان عمر بن الخطاب ويده على جرحه كهيئته حين مات .
وقد ذكر محمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم وغيرهما قصة عبدالله بن ثامر , وهو رأس الأخدود ، وقصتة شبيهة بقصة الغلام المخرجة في الترمذي ، وأنه وجد في زمان عمر بنجران ، ويده على جرحه وأن جرحه يدمى .وكذا ذكره ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم .
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب القبور قصة دانيال لما وجده أبو موسى الأشعري بالسوس وأخبار كثيره من أخبار المتقدمين في هذا المعنى .
249- 
وذكر ابن الجوزي أن الشريف أبا جعفر بن أبي موسى لما دفن إلى جانب قبر الإمام أحمد بعد موت الإمام أحمد بمئة سنة رؤي كفن الإمام أحمد وهو يتقعقع قال : ولما كسف قبر البربهاري فاحت ببغداد رائحة طيبة حتى ملأت المدينة . قال : وحدثنا محمد ابن أبي منصور بن يوسف حدثني أبي قال : في جملة من كشف ابن شمعون لما نقل من بيته إلى مقبرة الإمام أحمد بعد أربعين سنة وكفنه يتقعقع.
فصل
وقد يكرم الله بعض عباده الصالحين بأن يشفع في جيرانه فينتفعون بمجاورته في قبره
250- 
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن موسى الصائغ عن عبد الله بن نافع المدني قال : مات رجل من أهل المدينة ، فدفن بها رجل كان من أهل النار ، فاغتم لذلك ، ثم إنه بعد سابعة أو ثامنة أري كأنه من أهل الجنة ، قال : ألم تكن قلت : إنك من أهل النار قال : قد كان ذلك ، لأنه دفن معنا رجل من الصالحين ، فشفع في أربعين من جيرانه وكنت منهم .
251- 
وقال ابن البراء : حدثنا محمد بن إبراهيم بن كثير حدثنا عمرو بن حميد قال : أخبرني رجل من أهل جرجان قال : لما مات كرز الحارثي رأى فيما يرى النائم كأن أهل القبور جلوس على قبورهم وعليهم ثياب جدد ، فقال لهم : ما هذا ؟ قالوا : إن أهل القبور كسوا ثياباً جدداً لقدوم كرز عليهم .
252- 
وذكر أبو الفرج بن الجوزي أن بعضهم رأى في منامه معروفاً الكرخي لما دفن في قبره شفع في أربعين من كل جانب من جوانبه ، فأعتقوا من النار .
وعكس هذا من يتأذى جيرانه من الموتى بعذابه ، كما روى أن زبيدة امرأة هارون الرشيد رؤيت في المنام ، فأخبرت أنها غفر لها ، وكأن على وجهها أثر صفرة فسئلت عن ذلك ، فقالت : دفن عندنا بشر المرسي فزفرت جهنم زفرة أصابنا منها ذلك ، والله أعلم .
الباب السابع
فيما ورد من تلاقي الموتى في البرزخ وتزاورهم
253- 
روى مسلم بن إبراهيم الوارد عن عكرمة بن عمار عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه ] فإنهم يتزاورون في قبورهم ] " وخرج محمد بن يحيى الهمداني في صحيحه بهذه الزيادة . وعنده عن هشام عن محمد عن أبي هريرة . وكذا رواه سليمان بن أرقم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة بهذه الزيادة . ورواه غيره عن ابن سيرين من قوله ، فلعل الزيادة في آخره مدرجة من كلام ابن سيرين .
254- 
وخرج العقيلي من طريق سعيد بن سلام العطار حدثنا أبو مرة راشد بن العطار سمعت قتادة يحدث سمعت أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه فإنهم يبعثون أو قال يتزاورون في أكفانهم " وقال سعيد بن سلام ضعيف ولا يتابع عليه وأبو مرة لا يعرف له غيره .
255- 
ويروى من حديث محمد بن مصفي حدثنا معاوية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم " حسنوا أكفان موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون في قبورهم " .
256- 
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا القاسم بن هشام حدثنا يحيى بن صالح حدثنا محمد بن سليمان حدثنا راشد بن سعد أن رجلاً توفيت امرأته فرأى نساء في المنام ولم ير امرأته معهن ، فسألهن عنها ، فقلن : إنكم قصرتم في كفنها فهي تستحي أن تخرج معنا ، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم : " انظر إلى ثقة من سبيل " فأتى رجلاً من الأنصار قد حضرته الوفاة فأخبره فقال الأنصاري : إن كان أحد يبلغ الموتى بلغته ، قال : فتوفي الأنصاري ، فأتى بثوبين مبرورين بالزعفران ، فجعلهما في كفن الأنصاري ، فلما كان الليل رأى النسوة معهن امرأته وعليها الثوبان الأصفران .
257- 
وقال أبو الحسن بن البراء : حدثنا العباس بن أبي عيسى قال : كانت امرأة تقية سرية توفيت ، فرأت ابنة لها في المنام كأن أمها أتتها ، فقالت : يا بنية كفنتموني بكفن ضيق فأنابين صواحبي أستحي منهن ، وفلانة تأتينا في يوم كذا وكذا ولي في موضع ذكرته أربعة دنانير ، فاشتروا لي كفنا ، وابعثوا لي معها ، قالت الإبنة : ]ولم أكن أعلم ] أن لها في الموضع الذي ذكرت بأساً ، قالت : فلما كان بعد اعتلت ، قالت : فجاؤوني فقالوا لي : ما تقولين ؟ فقصصت عليهم القصة فقالت : فذكرت الحديث الذي روي عن عائشة أنهم يتزاورون في أكفانهم ، وقلت لهم : اذهبوا إلى رجلين من أهل الحديث بزازين ، يقال لأحدهما : ابن النيسابوري، والآخر أبو توبة فليشتريا لها كفناً ، قال : فذهبت البنت إلى الموضع الذي ذكرت ، ووضعت الكفن معها في كفنها ، فلما كان بعد ذلك رأت المرأة البنت في المنام ، قالت : يا بنية قد أتتنا فلانة ووصل إلي الكفن ما أحسنه وأوسعه أما إنه جزاك الله خيراً .
فصل
259- 
وخرج الإمام أحمد من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن درة بنت معاذ عن أم هانىء الأنصارية أنها سألت رسول الله أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضاً ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تكون النسم طيراً تعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها " .
260- 
وخرج ابن أبي الدنيا من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن أبي كبشة عن أبيه عن جده قال : لما مات بشر بن البراء بن معرور وجدت عليه أم بشر وجداً شديداً ، فقالت : يا رسول الله لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل يتعارف الموتى ، فأرسل إلى بشر بالسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده يا أم بشر إنهم ليتعارفون كما تتعارف الطير في رؤوس الشجر " وكان لا يهلك هالك من بني سلمة إلا جاءت أم بشر ، فتقول : اقرأ على بشر السلام .
الباب الثامن
فيما ورد من سماع الموتى كلام الاحياء ، ومعرفتهم بمن يسأل عليهم ، ويزورهم ومعرفتهم بحالهم بعد الموت ، وحال أقاربهم في الدنيا
261- 
أما سماع الموتى لكلام الأحياء ففي الصحيحين عن أنس عن [ أبي ]طلحة قال لما كان يوم بدر وظهر عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين - وفي رواية أربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فألقوا في طوى من أطواء بدر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ فإني وجدت ما وعد ربي حقاً " فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها فقال : " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " وفي صحيح مسلم من حديث أنس نحوه من غير ذكر [ أبي ] طلحة ، وفي حديثه قال "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " وفيه أيضاً عن أنس ، عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة بمعناها .
262- 
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال وجدتم ما وعد ربكم حقاً قيل له : أتدعو أمواتاً ؟ قال : " ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون " ! وفي رواية قال : " إنهم الآن يسمعون ما أقول " .
263- 
وقد أنكرت عائشة ذلك كما في الصحيحين عن عروة عن عائشة انها قالت: قال رسول الله عليه وسلم : " إنهم ليسمعون الآن ما أقول " وقد وهم - يعني ابن عمر-قال : إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم إنه حق ثم قرأت قوله { إنك لا تسمع الموتى } ، {وما أنت بمسمع من في القبور } .
وقد وافق عائشة على نفي الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء ورجحه القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتاب الجامع الكبير له واحتجوا بما احتجت به عائشة ، وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره ، وهو سماع الموتى كلامه.
264- 
وفي صحيح البخاري قال قتادة : أحياهم الله تعالى [ يعني أهل القليب ] حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً .
وذهب طوائف من أهل العلم وهم الأكثرون وهو اختيار الطبري وغيره - يعني بالطبري ابن جرير - وكذلك ذكره ابن قتيبة وغيره من العلماء ، وهؤلاء يحتجون بحديث القليب ، كما سبق ، وليس هو بوهم ممن رواه ، فإن ابن عمر وأبا طلحة وغيرهما ممن شهد القصة حكياه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
265- 
وعائشة لم تشهد ذلك وروايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق " يؤيد رواية من روى : إنهم ليسمعون ، ولا ينافيه ، فإن الميت إذا جاز أن يعلم جاز أن يسمع ، لأن الموت ينافي العلم كما ينافي السمع والبصر ، فلو كان مانعاً من البعض لكان مانعاً من الجميع .
266- 
وروى أبو الشيخ الأصبهاني يإسناده عن عبيد بن مرزوق قال : كانت امرأة بالمدينة يقال لها أم محجن تقم المسجد ، فقال : " التي كانت تقم المسجد ؟ " قالوا : نعم ، فصف الناس فصلى عليها ، ثم قال : " أي العمل وجدت أفضل " قالوا : يا رسول الله أتسمع ؟ قال : " ما أنتم بأسمع منها " ، فذكر أنها أجابته : قم االمسجد وهذا مرسل . وأما أن ذلك خاص بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فليس كذلك ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم " وقد سبق ذكره ، وسنذكر الأحاديث الواردة بسماع الموتى سلام من يسلم عليهم فيما بعد ، إن شاء الله .
وأما قوله : { إنك لا تسمع الموتى } وقوله { وما أنت بمسمع من في القبور } فإن السماع يطلق ويراد به إدراك الكلام وفهمه ، ويراد به أيضاً الانتفاع به والاستجابة له . والمراد بهذه الآيات نفي الثاني دون الأول ، فإن ها في سياق خطاب الكفار الذين لا يستجيبون للهدى ولا للإيمان إذا دعوا إليه كما قال الله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها [ ولهم آذان لا يسمعون بها ] } الآية في نفي السماع والإبصار عنهم لأن الشيء قد ينفى لانتفاء فائدته وثمرته فإذا لم ينتفع المرء بما يسمعه ويبصره فكأنه لم يسمع ولم يبصر ، وسماع الموتى هو بهذه المثابة ، وكذلك سماع الكفار لمن دعاهم إلى الإيمان والهدى . وقول قتادة في أهل القليب : أحياهم الله حتى أسمعهم ، يدل على أن الميت لا يسمع القول إلا بعد إعادة الروح إلى جسده : وبذلك قال طوائف كثيرة من السلف لأنه لا يسأل في قبره إلا بعد إعادة الروح إلى جسده ، كما جاء ذلك مصرحاً به في حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم الطويل ، وقد سبق ذكر بعضه وفيه في حق الكافر " وتعاد روحه في جسده " .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث الأعمش عن المنهال عن زاذان عن البراء في حق المؤمن والكافر في كل منهما قال : " وتعاد روحه في جسده " وكذلك عند ابن منده إعادتها إلى جسده عند ضرب الملك له بعد أن يضربه فيصير تراباً من رواية يونس بن خباب عن المنهال ، وقد سبق ذلك كله .
267- 
وخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة قبض الروح والمساءلة وقال في روح الكافر : " فتصير إلى القبر " وقد سبق أيضاً .
268- 
وخرج ابن منده بإسناده ضعيف جداً عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة قبض الروح ، وفيه قال : " فيهبطون به يعني الروح على قدر فراغهم من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه " . وهذا لا يثبت .
269- 
وخرج الخلال في كتاب " شرح السنة " من طريق أبي هاشم عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : إن للمؤمن إذا نزل به الموت جاءه ملك الموت يناديه يا روح طيبة أخرجي من الجسد الطيب ، فإذا خرجت روحه لفت في خرقه حمراء ، فإذا غسل وكفن ، وحمل على السرير تحولت حتى يوضع في قبره فإذا وضع في قبره أجلس وجيء بالروح فجعلت فيه ، فقيل له : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك ؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيقال له : صدقت فيوسع له في قبره مد البصر، ثم ترفع روحه فتجعل في أعلى عليين ، ثم تلا عبد الله هذه الآية { إن كتاب الأبرار لفي عليين } .
270- 
وخرج ابن أبي الدنيا من طريق سالم بن أبي الجعد قال : قال حذيفة : الروح بيد ملك ، وإن الجسد ليغسل ، وإن الملك ليمشي معه إلى القبر ، فإذا سوي عليه سلك فيه ، وذلك حين يخاطب .
271- 
ومن طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : الروح بيد ملك يمشي مع الجنازة يقول : أسمع ما يقال لك فإذا بلغ حفرته دفن معه .
272- 
ومن طريق داود العطار عن أبي نجيح قال : ما من ميت يموت إلا وروحه بيد ملك ينظر إلى جسده كيف يغسل ويكفن ، ويمشي به إلى قبره ثم تعاد إليه روحه ، فيجلس في قبره . وكذلك قال أبو صالح وغيره من السلف في قوله تعالى : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم إليه ترجعون } فدل على أن الحياة الأولى هي القبر للسؤال , وإن كان الأكثرون خالفوا في ذلك فهؤلاء السلف كلهم صرحوا بان الروح تعاد إلى البدن عند السؤال ؛ وصرح بمثل ذلك طرائف من الفقهاء والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم كقاضي أبى يعلى وغيره , وأنكر ذلك طائفة ابن حزم وغيره , وذكر أن السؤال للروح خاصة , وكذلك سماع الخطاب , وأنكر ألا تعاد الروح إلى الجسد في القبر للعذاب وغيره , وقالوا لو كان ذلك حقا للزم الإنسان أن يموت ثلاثة مرات ويحيى ثلاث مرات , والقرآن دل على أنهما موتتان وحياتان , وهذا ضعيف جداً ، فإن حياة الروح ليست حياة تامة مستقلةكحياة الدنيا وكالحياة الآخرة بعد البعث ، وإنما فيها نوع اتصال الروح في البدن بحيث يحصل بذلك شعور البدن وإحساس بالنعيم والعذاب وغيرهما وليس هو حياة تامة حتى يكون انفصال الروح به موتا تاماً وإنما هو شبيه بانفصال روح النائم عنه ورجوعها إليه فإن ذلك يسمى موتاً وحياة .
273- 
كما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ : " الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا ، وإليه النشور " وسماه الله تعالى وفاة لقوله : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى } الآية ومع هذا فلا ينافي ذلك أن يكون النائم حياً ، وكذلك اتصال روح الميت ببدنه وانفصالها عنه لا توجب أن يصير حياًّ حياة مطلقة وممن رجح هذا القول - أعني السؤال والنعيم والعذاب للروح خاصة - من أصحابنا ابن عقيل وأبو الفرج بن الجوزي في بعض تصانيفهما واستدل ابن عقيل بأن أرواح المؤمنين تنعم في حواصل طير خضر ، وأرواح الكفار في حواصل طير سود ، وهذه الأجساد تبلى فدل ذلك على أن الأرواح تنعم وتعذب في أجساد أخر ، وهذا لا حجة فيه لأنه لا ينافي اتصال الروح ببدنه أحياناً مع فناءه واستحالته . وتستدل طائفة ممن ذهب إلى هذا القول بما .
( 274 ) 
روي منصور بن عبد الرحمن عن أمه قال : دخل ابن عمر المسجد وابن الزبير قد قتل وصلب فقيل له : هذه أسماء بنت أبي بكر في المسجد فقال لها : اصبري فإن هذه الجثة ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله . فقالت : وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل .
275- 
وروى ابن أبي الدنيا من طريق ابن عمر صاحب السفلي قال : نزل ابن عمر إلى جانب قبور دارسة فنظر إلى قبر منها ، فإذا هو بجمجمة بادية ، فأمر رجلاً فواراها ، قال : إن هذه الأبدان ليس يضرها الثرى شيئاً ، وإنما الأرواح التي تعاقب وتثاب إلى يوم القيامة .
276- 
وروى محمد بن سعد عن الواقدي حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال : لما انهزمت الروم يوم أجنادين انتهوا إلى موضع لا يعبره إلا إنسان فجعلت الروم تقاتل عليه ، فتقدم هشام بن العاص فقاتلهم حتى قتل ووقع على تلك الثلمة فسدها ، فلما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يوطؤه الخيل فقال عمر بن العاص إن الله قد استشهده ورفع روحه وإنما هو جثة فأوطئوه الخيل ، ثم أوطأه وتبعه الناس حتى قطعوه . وهذه الآثار لا تدل على أن الرواح لا تتصل بالأبدان بعد الموت إنما تدل على أن الأجساد لا تتضرر بما ينالها من عذاب الدنيا ، وإنما هو من نوع آخر يصل إلى الميت بمشيئة الله وقدرته وقولهم : الأرواح عند الله تعالى تعاقب وتثاب لا ينافي أن تتصل بالبدن أحياناً فيحصل بذلك إلى الجسد نعيم أو عذاب ، وقد تستقل الروح أحياناً بالنعيم والعذاب أما عند إستحالة الجسد أو قبل ذلك ، وقد أثبت طائفة أخرى النعيم والعذاب للجسد بمجرده من غير اتصال الروح له ، وممن ذكر ذلك من أصحابنا : ابن عقيل في كتاب الإرشاد ، وابن الزاغوني وحكي عن ابن جرير الطبري أيضاً ، وذكر القاضي أبو يعلى أنه ظاهر كلام الإمام أحمد فإنه قال في رواية حنبل : أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار ، والأبدان في الدنيا يعذب الله من يشاء ، ويرحم من يشاء منها بعفوه . قال القاضي : ظاهر هذا إن الأرواح تعذب وتنعم على الإنفراد ، وكذلك الأبدان إذا كانت باقية أدى إلى الأجزاء التي استحالت ، قال : ولا يمنع أن يخلق في الأبدان إدراك تحس به النعيم والعذاب ، كما خلق في الجبل لما تجلى له ربه ثم جعله دكاً. وقال القاضي أبو الحسين : ولأنه لما لم يستحل نطق الذراع المسموم ، ولم يستحل عذاب الجسد البالي وإيصال العذاب إليه بقدرة الله تعالى . وقد يستدل لهذا بأن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم كلم أهل القليب : كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها ؟ فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، وإنما قال : " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " فدل على أن سماعهم حصل على أجساد لا أرواح فيها . وقد دل القرآن على سجود الجمادات وتسبيحها لله تعالى وخشوعها له ، فدل على أن فيها حياة تحييها وإدراكاً فلا يمنع مثل ذلك في جسد ابن آدم بعد مفارقة الروح له ، والله أعلم ، ويدل على ذلك ما أخبر الله من شهادة الجلود والأعضاء يوم القيامة . وما روي عن ابن عباس في اختصام الروح والجسد يوم القيامة فإنه يدل على أن الجسد يخاصم الروح ويكلمها وتكلمه ، ومما يدل على وقوع العذاب على الأجساد الأحاديث الكثيرة في تضييق القبر على الميت حتى تختلف أضلاعه ، ولأنه لو كان العذاب على الروح خاصة لم يختص العذاب بالقبر ولم ينسب إليه .
فصل
277- 
وأما معرفة الموتى بمن يزورهم ويسلم عليهم فروى محمد بن الأشعث عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال أبو رزين : يا رسول الله إن طريقي على الموتى فهل من كلام أتكلم به إذا مررت عليهم ؟ قال : " قل السلام عليكم يا أهل القبور من المسلمين والمؤمنين ، أنتم لنا سلف ، ونحن لكم تبع ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " قال أبو رزين : يا رسول الله يسمعون ؟ قال : " يسمعون ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا " قال : " يا أبا رزين ألا ترضى أن يرد عليك من الملائكة " خرجه العقيلي وقال : لا يعرف هذا اللفظ إلا بهذا الإسناد ، ومحمد بن الأشعث مجهول في النسب والرواية ، وحديثه غير محفوظ .
278- 
وروى الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد الله بن عمير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه ويلم : " ما من أحد يمر على قبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام " خرجه ابن عبد البر ، وقال عبد الحق الإشبيلي : إسناده صحيح ، يشير إلى أن رواته كلهم ثقات ، وهو كذلك ، إلا أنه غريب بل منكر .
279- 
وقد روى عبد الأعلى بن عبد الله بن فروة عن قطن بن وهب عن عبيد بن عمير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف على مصعب بن عمير حين رجع من أحد ، فوقف عليه وعلى أصحابه فقال : " أشهد أنكم أحياء عند الله فزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة " خرجه البهيقي والحاكم وصححه ، ورواه عمرو بن صهبان عن معاذ بن عبد الله عن قطن بن وهب عن عبيد بن عبيد مرسلاً ، ورواه يحيى بن العلاء عن عبد الأعلى بن أبي فروة عن قطن بن وهب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم خرجه الطبراني ، وذكر ابن عمر فيه وهم ، وروي عن عبيد بن عمير عن أبي ذر ولعل المرسل أشبه ، وبالجملة أشبه ، وبالجملة فهذا إسناد مضطرب ، ومتنه مختص بالشهداء وهذا أشبه من حديث بشر بن بكر .
280- 
وروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من عبد يمر على قبر رجل مسلم يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام " عبد الرحمن بن زيد فيه ضعف وقد خولف في إسناده .
281- 
وفي رواية هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي هريرة موقوفاًٍ ، وزاد فيه : " وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام " .
282- 
ورواه عبد الله عن ابن سمعان - وهو متروك - عن زيد بن أسلم عن وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس ورد عليه حتى يقوم " خرجهما ابن أبي الدنيا في كتاب القبور .
وخرج في كتاب من عاش بعد الموت من رواية عطاء بن خالد حدثتني خالتي قالت : ركبت يوماً إلى قبور الشهداء فنزلت عند قبر حمزة رضي الله عنه وما في الوادي داع ولا مجيب يتحرك إلا غلاماً قائماً آخذاً برأس دابتي ، فلما فرغت من صلاتي قلت بيدي هكذا : سلام عليكم فسمعت رد السلام يخرج علي من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله خلقني ، وكما أعرف الليل من النهار فاقشعرت كل شعرة مني .
282- 
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن شماسة المهري : أن عمرو بن العاص لما حضره الموت قال في وصيته : إذا دفنتموني فسنوا على التراب سناً ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي .
284
وروى ابن أبي الدنيا من طريق مسمع بن عاصم قال : رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت : هل تعلمون بزيارتنا إياكم قال : نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس ، قلت : وكيف دون الأيام كلها ؟ قال : بفضل يوم الجمعة وعظمته .
285- 
ومن طريق حسن القصاب قال : كنت أغدو مع محمد بن واسع كل غداة سبت حتى نأتي الجبان ، ثم يأتي القبور فيسلم عليهم ويدعو لهم فينصرف فقلت له : لو صيرت هذا اليوم يوم الإثنين ؟ فقال إن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوماً قبله ويوماً بعده . وبإسناد فيه ضعف عن الضحاك : من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته ، قيل : له و كيف ذلك ؟ قال : لمكان يوم الجمعة .
286- 
وبإسناد صحيح عن أبي التياح قال : كان مطرف يبدو فإذا كان يوم الجمعة أدلج قال : فأقبل حتى إذا كان عند المقابر هوم على فرسه فرأى كأن أهل القبور كل صاحب قبر جالس على قبره فقالوا : هذا مطرف يأتي يوم الجمعة فقلت : تعلمون عندكم يوم الجمعة ؟ قالوا : نعم ، ونعلم ما تقول فيه الطير . قال : قلت : وما تقول فيه الطير ؟ قال : يقولون : سلام سلام يوم صالح .
287- 
قال ابن أبي الدنيا : وحدثني إبراهيم بن سيار الكوفي حدثني لفضل بن الموفق قال : كنت آتي قبر أبي كثير قال : فشهدت جنازة فلما قبر صاحبها تعجلت لي حاجة ولم آت قبر أبي قال : فرأيته في النوم ، فقال : يا بني لم لم تأتني ؟ فقلت : يا أبت فإنك لتعلم بي . قال : إي والله ، إنك لتأتيني فما أزال أنظر إليك من حين تطلع من القنطرة حتى تقعد إلي وتقوم من عندي فما أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة .
288- 
قال : وحدثني إبراهيم بن سيار حدثنا أبو المشيد قال : قالت تماضر بنت سهل امرأة أيوب بن عبيد جاءتني ابنة سفيان بن عيينة فقالت : أين عمي أيوب ؟ قلت : في المسجد ، فلم ألبث أن جاءت فقالت لي : يا عمي رأيت أبي سفيان في النوم فقال : جزى الله أخي أيوب عني خيراً فإنه يزورني كثيراً ، وقد كان عندي اليوم ، فقال أيوب : نعم ، حضرت جنازة اليوم ، فذهت إلى قبره .
289- 
حدثنا محمد بن الحسين حدثنا يحيى بن أبي بكر حدثني الفضل بن موفق ابن خال سفيان بن عيينة قال : لما مات أبي جزعت عليه جزعاً شديداً ، فكنت آتي قبره كل يوم ثم إني قصرت من ذلك ما شاء الله ثم إني أتيته يوماً فبينما أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت ، فرأيت كأن قبر أبي انفجر ، وكأنه قاعد في قبره متوشح بأكفانه عليه سحنة الموتى . قال : فبكيت لما رأيته ، فقال : يا بني ما أبطأ بك عني ؟ قال : قلت : وإنك لتعلم بمجيئي ؟ قال لي : ما جئت من مرة إلا علمتها ، وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك . قال : فكنت آتيه بعد كثيراً .
290- 
قال : وحدثني محمد بن بسطام حدثني عثمان بن سودة الطفاوي وكانت أمه من العابدات وكان يقال لها راهبة ، فماتت ، فكن
ت آتيها كل جمعة فأدعو لها واستغفر لها ولأهل القبور قال : فرأيتها ذات ليلة في منامي ، فقلت لها : يا أماه كيف أنت ؟ فقالت : يا بني إن للموت كربة شديدة ، وإنا بحمد الله تعالى لفي برزخ محمود ، يفرش فيه الريحان ويوسد فيه السندس والإستبرق إلى يوم النشور . فقلت : ألك حاجة ؟ فقالت : نعم ، قلت : وما هي ؟ قالت : لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا ، والدعاء لنا ، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك ، فيقال : يا راهبة ، هذا ابنك قد أقبل ، فأسر بذلك ، ويسر من حولي من الأموات .
291- 
وقال الحافظ أبو الطاهر السلفي : سمعت أبا البركات عبد الواحد بن عبد الرحمن بن غلاب السوسي بالإسكندرية يقول : يا بنتي إذا جئتيني زائرة فاقعدي عند قبري ساعة أتملى من النظر إليك ، ثم ترحمي علي ، فإذا ترحمت علي صارت الرحمة بيني وبينك كالحجاب ثم شغلتني عنك .
292- 
قلت : وأنبأني علي بن عبد الصمد بن أحمد البغدادي عن أبيه قال : أخبرني قسطنطين بن عبد الله الرومي قال : سمعت الأسد بن موسى قال : كان لي صديق فمات ، فرأيته في النوم وهو يقول لي : سبحان الله جئت إلى قبر فلان صديقك قرأت عنده وترحمت عليه ، وأنا ما جئت إلي ولا قربتني ، قلت له : وما يدريك ؟ قال : لما جئت إلى قبر فلان صديقك رأيتك . قلت : كيف رأيتني والتراب عليك ؟ قال : أما رأيت الماء إذا كان في الزجاج أما يتبين ؟ قال : كذلك نحن نرى من يزورنا .
فصل
293- 
وأما معرفة الموتى بحالهم في الدنيا قبل الدفن فروى سعيد بن عمرو بن سليم قال : سمعت رجلاً منا يقال له : معاوية بن فلان أو ابن معاوية قال : سمعت أبا سعيد الخدري يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميت يعرف من يغسله ومن يكفنه ومن يحمله ومن يدليه في قبره : فقال ابن عمر وهو في المجلس : ممن سمعت هذا ؟ قال من أبي سعيد الخدري فقام ابن عمر إلى أبي سعيد الخدري فقال : ممن سمعت هذا ؟ قال : من رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الإمام أحمد.
294- 
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب المنامات بإسناده عن سالم بن أبي الجعد قال : قال حذيفة : الروح بيد ملك وإن الجسد ليغسل وإن الملك ليمشي معه إلى القبر .
295- 
وبإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : الروح بيد ملك يمشي مع الجنازة يقال له : اسمع ما يقال لك ، فإذا بلغ حفرته دفنه معه .
296- 
وبإسناده عن مجاهد : إذا مات الميت فملك قابض نفسه فما من شيء إلا وهو يراه عند غسله وعند حمله حتى يصل إلى قبره .
297- 
وبإسناده عن بكر المزني قال : بلغني أنه ما من ميت إلا وروحه بيد ملك الموت ، فهم يغسلونه ويكفنونه وهو يرى ما يصنع أهله فلو أنه يقدر على الكلام لنهاهم عن الرنة والعويل .
298- 
وعن ابن السماك . قال سمعت سفيان يقول : إنه ليعرف كل شيء - يعني الميت - وإنه ليناشد غاسله بالله ألا خففت غسلي .
299- 
وعن السماك قال : غسل سفيان الثوريي أبي ، فلما غسله قال : إنه الآن يرى ما يصنع به قال : حدثني أبو إسحاق الأودى ، ومات ابن له ، وكان ناسكاً قال : أخبرنا بعض أصحابنا قال : رأيته في النوم ، فقال : ألم تر إلى ما ظهر من جميل الستر وحسن الثناء في الجنازة . قال : قالت : فقد علمت ذلك قال ما غاب عني منه شيء أو نحو هذا . وروى في كتاب القبور بإسناده عن بكر المزني قال : حدثت أن الميت ليستبشر بتعجيله إلى المقابر . وأن أهله ليغسلونه ويكفنونه وإن روحه لترى ما يصنعون به ، ثم سبقت بكراً عبرته .
300- 
وبإسناده عن ابن أبي نجيح قال : ما من ميت يموت إلا روحه في يد ملك ينظر إلى جسده كيف يغسل ويكفن وكيف يمشي به إلى قبره .
301- 
وعن سفيان الثوري قال : يقال له وهو على سريره : اسمع ثناء الناس عليك .
302- 
وعن عمرو بن دينار قال : ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعد وإنه يغسلونه ويكفنونه وإنه لينظر إليهم .
فصل
303- 
وأما معرفة الموتى في قبورهم بحال أهليهم وأقاربهم في الدنيا فروى ابن أبي الدنيا في أول كتاب المنامات : حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا أبو بكر بن شيبة الحزامي حدثنا فليح بن إسماعيل حدثنا محمد بن جعفر عن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه وسلم : " لا تفضحوا أقاربكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور ".
304- 
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عمن سمع أنساً يقول : قال رسول الله عليه وسلم : " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم فإن كان خيراً استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا " .
305- 
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا الصلت بن دينار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم في قبورهم فإن كان خيراً استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك " .
306- 
وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق يحيى بن صالح الويحاضي حدثنا إسماعيل السكري سمعت مالك بن أنس يقول : سمعت النعمان بن بشير وهو على المنبر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تمور في جوها ، فالله الله في إخوانكم من أهل القبور ، فإن أعمالكم تعرض عليهم " .
307- 
ومن طريق المبارك عن ثور بن يزيد عن أبي رهم عن أبي أيوب قال : تعرض أعمالكم على الموتى ، فإن رأوا حسناً فرحوا واستبشروا وقالوا : اللهم فهذه نعمتك على عبدك فأتمها عليه ، وإن رأوا سيئة قالوا : اللهم راجع به .
308- 
ومن طريق المبارك أيضاً عن صفوان بن عمير عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أن أبا الدرداء كان يقول : إن أعمالكم تعرض على أمواتكم فيسرون ويساءون .
309- 
وكان أبو الدرداء يقول عند ذلك : اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملاً أخزى به عند عبد الله بن رواحه .
310- 
ومن طريق بلال بن أبي الدرداء قال : كنت أسمع أبا الدرداء وهو ساجد يقول : اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي ابن رواحه إذا لقيته .
311- 
وقال في كتاب القبور : بلغني عن أحمد بن أبي الحواري قال : حدثني محمد بن أخي قال : دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو أمير على فلسطين فقال له : ما أعظك أصلحك الله ، بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى فانظر ماذا يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمك ، قال : فبكى إبراهيم حتى سالت دموعه على لحيته .
312- 
وروى ابن المبارك بإسناده عن سعيد بن جبير : أنه سئل هل يأتي الموتى أخبار الأحياء ؟ قال : نعم ما من أحد له حميم إلا ويأتيه أخبار أقاربه ، فإن كان خيراً سر به ، وإن كان شراً ابتأس وحزن حتى إنهم ليسأون عن الرجل قد مات فيقال : ألم يأتكم ؟ فيقولون : لا ، قد خولف به إلى أمه الهاوية .
313- 
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء بإسناده عن عبيد بن سعد عن أبي أيوب الأنصاري قال : غزونا حتى انتهينا إلى القسطنطينية فإذا قاص يقول من عمل صالحاً من أول النهار عرض على معارفه إذا أمسى من أهل الآخرة ، ومن عمل عملاً من أول الليل عرض على معارفه إذا أصبح من أهل الآخرة . فقال له أبو أيوب : أيها القاص ما تقول ؟ فقال : والله إن ذلك كذلك . فقال : اللهم لا تفضحني عند عبادة بن الصامت ولا عند سعد فيما عملت بعدهما .
314- 
وروى ابن شاهين من رواية الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عدي بن اكتار عن أبيه إن شاء الله وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظمونه . لما احتضر فقال : يا بني اذكروا الله أن تعملوا عملاً يعمر وجهي فإن عمل الأبناء يعرض على الآباء بعد ، فقال القاص : والله ما كتب الله ولايته إلا ستر عليه .
315- 
أخرج البزار في مسنده : حدثنا يوسف حدثنا عبد المجيد عن عبد العزيز بن أبي رواد عن سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام " .
316- 
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ، فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم " وقال : لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعرض عليه صلاة أمته يوم الجمعة من حديث أوس وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن مسعود وأبي أمامة وأنس وغيرهم ، وأشهرها حديث أوس والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم " حياتي خير لكم " إلى آخر الكلام فقد رواه حماد بن زيد عن غالب عن بكر المزنى مرسلاً .
317- 
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين عن خالد بن عمرو القرشي حدثني صدقة بن سليمان الجعفري قال : كانت لي شرة سمجة فمات أبي فأنبت وندمت على ما فرطت ، ثم قال أيضاً زللت فرأيت أبي في المنام ، فقال أي بني ما كان أشد فرحي بك وأعمالك تعرض على فلنشبهها بأعمال الصالحين فلما كان هذه المرة استحييت حياء شديداً فلا تحزني فيمن حولي من الأموات ، قال خالد : كان بعد ذلك قد خشع وتنسك فكنت أسمعه يقول في دعائه في السحر - وكان لنا جار في الكوفة - أسألك إنابة لا رجعة فيها يا مصلح الصالحين وهادي الضالين وراحم المذنبين .
318- 
روي من طريق ثابت عن شهر بن حوشب أن صعب بن جثامة وعوف بن مالك كانا متواخيين قال صعب لعوف : أي أخي أينا مات قبل صاحبه فليتراي له قال : أو يكون ذلك ؟ قال : نعم فمات صعب ، فرآه عوف فيما يرى النائم كأنه أتاه قال : فقلت له : أي أخي ما فعل بكم . قال : غفر لنا بعد المساوي . قال : ورأيت لمعة سوداء في عنقه . فقلت له : أي أخي ما هذا ؟ قال : عشرة دنانير استلفتها من فلان اليهودي ، فهي في قرني فأعطها إياه ، واعلم أخي أنه لم يحدث بأهلي حدث بعدي إلا قد لحق بي خبره حتى هرة ماتت منذ أيام ، واعلم أن إبنتي تموت لستة أيام فاستوصوا بها معروفاً فلما أصبحت قلت إن في هذا لمعلماً ، فأتيت أهله فقال : مرحباً بعوف ، هكذا تصنعون بتركة إخوانكم ، لم تقربنا منذ مات صعب . قال : فاعتللت ، فيما يعتل به الناس قال : فنظرت إلى القرن فانتشلت ما فيه ، فبدرت الصرة التي فيها الدنانير ، فبعثت إلى اليهودي فجاء ، فقلت : هل لك على صعب شيء . قال : رحم الله صعباً ، كان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هي له . قلت : لتخبرني قال : نعم أسلفته عشرة دنانير فنبذتها إليه فقال : هي والله بأعيانها قال : قلت : هذه واحدة . قلت هل حدث فيكم حدث بعد موته ؟ قالوا : نعم ، هرة لنا ماتت منذ أيام . قلت : هاتان ثنتان قلت : أين ابنة أخي قالوا : تلعب فأتيت بها فلمستها فإذا هي محمومة ، قلت : استوصوا بها خيراً ، فماتت لستة أيام .
319- 
وقد رويت هذه القصة على وجه آخر وهو أشبه فروى ابن المبارك في كتاب الزهد عن أبي بكر عن عطية بن قيس عن عوف بن مالك الأشجعي وكان مواخياً لرجل من قيس يقال له : محكم ، ثم إن محكماً حضره الموت ، فأقبل عليه عوف فقال يا محكم إذا أنت وردت فارجع إلينا فأخبرنا بالذي صنع بك ، فقال محكم : إن كان يكون لمثلي فعلت ، فقبض محكم ، ثم ثوى عوف بعده عاما فرآه في منامه ، فقال : يا محكم ما صنعت وما صنع بك ؟ فقال له : وفينا أجورنا قال : كلكم قال : كلنا إلا خواص هلكوا في الشر الذين يشار إليهم بالأصابع ، والله لقد وفيت أجري كله حتى وفيت أجر هرة ضلت لأهلي قبل وفاتي بليلة . فأصبح عوف ، فغدا على امرأة محكم . فلما دخل قالت : مرحباً زوار صعب بعد محكم قال عوف هل رأيت محكماً منذ توفي قالت : نعم رأيته البارحة ونازعني ابنتي ليذهب بها معه ، فأخبرها عوف بالذي رأى وما ذكر عن الهرة التي ضلت فقالت : لا أعلم بذلك ، خدمي أعلم بذلك فدعت خدمها فسألتهم فأخبروها أنها ضلت لهم هرة قبل موت محكم بليلة . ومحكم هو ابن جثامة أخ لصعب والله أعلم .
320- 
وروى هشام بن عمار عن صدقة بن خالد بن يزيد عن جابر عن عطاء الخرساني حدثتني ابنة جابر بن قيس بن شماس أن ثابتاً قتل يوم اليمامة وعليه درع له نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينا رجل من المسلمين ، نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له إني أوصيك بوصية وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعها ، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي و منزله في أقصى الناس وعند خباءه فرس يستل في طوله وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالداً فمره أن يبعث إلي درعي فيأخذها فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن علي من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق وفلان ، فأتى الرجل خالداً فبعث إلي الدرع وأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته ولا نعلم أحداً أجيزت وصيته بعد ثابت رحمة الله عليه . قلت : مثل الرؤية الصادقة تورث ظناً قوياً أقوى من إخبار رجل أو رجلين فيجوز للوصي وغيره الاعتماد عليها في الباطن كما إذا علم الوصي بدين على الموصي غير ثابت في الظاهر فإن له قضاءه وإذا رأى الإمام إنفاذ ذلك ظاهراً كان فيه إقتداء بالصديق رضي الله عنه .
321- 
قال ابن أبي الدنيا : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثنا أبي عن أبي بكر بن عياش عن حفاركان في بني أسد قال : فمررت بالحفار فحدثني كما حدثني أبو بكر عنه قال : كنت أنا وشريك لي نتحارث في مقبرة بني أسد قال : فإني لليلة في المقابر إذ سمعت قائلاً يقول من قبر يا عبد الله قال مالك يا جابر قال غداً تأتينا آمناً قال : وما ينفعها لا تصل إلينا إن أبي قد غضب عليها وحلف أن لايصلي عليها ، فجعلا يكرران ذلك مراراً فجئت شريكي فجعل يسمع الصوت ولا يفهم الكلام ، فلقنته إياه ثم تفهمه ففهمه ، فلما كان من الغد جاءني رجل فقال : احفر لي ها هنا قبراً بين القبرين الذين سمعت منهما الكلام . قلت : اسم هذا جابر واسم هذا عبد الله ؟ قال : نعم . فأخبرته بما سمعت . قال : نعم ، قد كنت حلفت أن لا أصلي عليها ، لا جرم لأكفرن عن يميني ولأصلين عليها ولأترحمن عليها قال : ثم مر بي بعد ، وبيده عكاز وإداوة فقال : إني أريد الحج لمكان يميني تلك.
322- 
وقال أبو الفرج بن الجوزي الحافظ : حدثني الشيخ أبو الحسن اليراديسي عن بعض العدول أن رجلاً رأى في منامه قاضي القضاة أبا الحسن الزينبي فقال له ما فعل الله بك قال : غفر لي ثم أنشد شعراً :
وإن امرءاً ينجو من النار بعدما تزود من أعمالها لسعيد
ثم قال : قل لفلان وفلان رجلين كانا وصيين له : لم تضيقون صدر فلانة وفلانة وفلانة ، فسمى ثلاث سراري له ، ولم أسمع بأسمائهن إلا في هذا المنام فلقي الرجل الوصيين فذكر لهما ذلك فقالا : سبحان الله ، لقد كنا البارحة نتحدث في المسجد في التضييق عليهن .
323- 
كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت : قدموني وإن كانت غير صالحة قالت [ لأهلها ] : يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمع الإنسان لصعق " وقد تقدم في حديث أنس وغيره " أن الميت إذا ضرب في قبره بمطاقي من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين " وقد ورد في حديث مرفوع لا يصح : غير وصية لا يؤذن له بالكلام إلى يوم القيام .
فصل
وقد ذكرنا فيما تقدم من كلام الموتى ورد السلام عليهم ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم " ولا يستطيعون أن يجيبوا " لأن المراد نفي الإجابة المعهودة التي يسمعها الأحياء ، وقد ثبت تكلم الموتى
324- 
من رواية أبي محمد الكوفي عن ابن المنكدر عن جابر مرفوعا ً. " من مات من غير وصية لا يؤذن له في الكلام إلى يوم القيامة " قالوا يا رسول الله ويتكلمون قبل يوم القيامة ؟ قال نعم ويزور بعضهم بعضاً " . قال أبو أحمد الحاكم : هذا حديث منكر وأبومحمد هذا رجل مجهول .
325- 
وروى ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن الحسين حدثنا سعيد بن خالد بن يزيد الأنصاري عن رجل من أهل البصرة من كان يحفر القبور قال : حفرت قبراً ذات يوم ووضعت رأسي قريباً منه ، فأتاني امرأتان في منامي ، قالت إحداهما : يا عبد الله نشدتك الله إلا صرفت عنا هذه المرأة ولم تجاورنا بها . قال : فاستيقظت فزعاً ، فإذا بجنازة امرأة قد جيء بها فقلت : القبر وراءكم ، فصرفتهم إلى غير القبر فلما كان الليل إذا أنا بالمرأتين تقول لي إحداهما جزاك الله عني خيراً فلقد صرفت عنا شراً طويلاً . قلت : فما بال صاحبتك لا تكلمني كما كلمتني أنت ؟ قالت : إن هذه ماتت من غير وصية وحق لمن مات عن غير وصية أنه لا يتكلم إلى يوم القيامة .
الباب التاسع
في ذكر محل أصحاب أرواح الموتى في البرزخ
أما الأنبياء عليهم السلام فليس فيهم شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين .
326- 
وقد ثبت في الصحيح أن آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته " اللهم الرفيق الأعلى " وكررها حتى قبض .
327- 
وقال رجل لابن مسعود : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين هو ؟ قال : في الجنة .
وأما الشهداء فأكثر العلماء على أنهم في الجنة وقد تكاثرت بذلك الأحاديث .
228- 
ففي صحيح مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } قال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : " أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ]تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل ] فاطلع إليهم ربهم إطلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيء تشتهين ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا . ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا " .
329- 
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا مأكلهم ومشربهم ومقلبهم قالوا : من يبلغ عنا إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد قال : فقال الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } .
330- 
وخرج عبد الله بن منده وغيره ، حدثنا إسماعيل بن المختار عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أرواح الشهداء في طير خضر ترعى في رياض الجنة ، ثم يكون مأواها إلى قناديل معلقة بالعرش فيقول لهم الرب سبحانه وتعالى : هل تعلمون كرامة أكرم من كرامة أكرمتوها ؟ فيقولون : لا إنا وددنا أنك رددت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى فنقتل في سبيلك" .
331- 
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني وغيره من طريق عبد الله بن ميمون عن عمه مصعب بن سليم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث الله الشهداء من حواصل طير بيض كانوا في قناديل معلقة بالعرش " .
332- 
وخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه من حديث عمرو بن دينار عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من شجر الجنة " كذلك رواه عمرو عن الزهري ، ورواه سائر أصحاب الزهري عنه ، ولم يذكروا الشهداء إنما ذكروا نسمة المؤمن ، وسيأتي حديثهم إن شاء الله . وقد ذكرنا فيما تقدم حديث عبادة بن عيسى بن عبد الرحمن عن الزهري عن عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد وهو منكر ، وأبو عبيدة هذا ضعيف جداً .
333- 
وخرج ابن منده من طريق يحيى بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين قال : بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو ثم تروح إلى رياض الجنة تأتي ربها سبحانه كل يوم تسلم عليه .
وهذا أشبه . وكذا قال الضحاك وإبراهيم التيمي وغيرهما من السلف في أرواح الشهداء .
334- 
وخرج ابن منده من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن حيان بن أبي جبلة قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشهداء إذا استشهدوا أنزل الله جسداً كأحسن جسد ثم يقال لروحه : ادخلي فيه فينظر إلى جسده الأول ما يفعل به ويتكلم فيظن أنهم يسمعون كلامه وينظر فيظن أنهم يرونه حتى تأتيه أزواجه - يعني الحور العين - فيذهبن به " .
335- 
ويشهد لهذه النصوص أيضاً ما في الصحيحين عن جابر قال : قال رجل يوم أحد : أين أنا إن قتلت يا رسول الله ؟ قال : " في الجنة " فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل .
336- 
وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : { قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض } وذكر قصة عمير بن الحمام .
337- 
وفي صحيح البخاري عن المغيرة بن شعبة أنه قال أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل صار إلى الجنة .
338- 
وفيه أيضاً عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية : أليس قتالنا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ .
339- 
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف " .
340- 
وفي صحيح البخاري عن أنس قال : أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني ، فإن يكن في الجنة صبرت واحتسبت ، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع ؟ قال : " ويحك أو هبلت ؟ جنة واحدة هي ؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس " .
341- 
وخرج الترمذي والحاكم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت جعفر ( بن أبي طالب ملكاً ) يطير (في الجنة ) مع الملائكة ( بجناحين ) " .
342- 
وخرج الغمام احمد وأبو يعلى وابن أبي الدنيا من حديث ثابت عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا الحسنة فكان فيما يقول : " هل رأى أحد منكم رؤيا " فإذا رأى الرجل الذي لا يعرفه الرؤيا سأل عنه فإن أخبر عنه بمعروف كان أعجب برؤيا . قال : فجاءت امرأة فقالت : يا رسول الله رأيت في المنام كأني خرجت فأدخلت الجنة فإذا أنا بفلان وفلان حتى عدت اثني عشر رجلاً ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قبل ذلك فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم . فقال : اذهبوا بهم إلى نهر البرزخ فغمسوا فيه ووجوههم كالقمر ليلة البدر ، وأتوا بكراسي من ذهب فأقعدوا عليها ، وجيء بصحفة من ذهب فيها بسر فأكلوا من بسره ما شاؤا فمايقبلونها من وجه إلا أكلوا من فاكهة ما شاؤا وأكلت معهم . قال : فجاء البشير من تلك السرية فقال : يا رسول الله كان كذا وكذا وأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلاً فقال : عليَّ بالمرأة فقال : قصي رؤياك على هذا " فقال الرجل : هو كما قالت ، أصيب فلان وفلان .
343- 
وروى ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول : أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمر الجنة .
344- 
وروى معمر عن قتادة قال : بلغنا أن أرواح الشهداء في صورة طير بيض تأكل من ثمار الجنة.
345- 
وروى أبو عاصم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال : أرواح الشهداء في أجواف طير كأنها الزرازير ، يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة .
346- 
وروى ابن المبارك عن زائدة حدثنا حدثنا ميسرة الأشجعي عن عكرمة عن ابن عباس عن كعب قال : جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء . كذا رواه عطية عن ابن عباس قال : قلت لكعب إني أسألك عن شيء فإن كان في كتاب الله فحدثني ، وإن لم يكن في كتاب الله فلا تحدثني ، فذكر مسائل ، فقال كعب : ما سألتني عن شيء إلا وهو في كتاب الله ، قال : وأما جنة المأوى فإنها جنة فيها أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوى إلى قناديل الجنة .
347- 
وروى أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج حدثنا عمرو بن عمر الأحموسى عن السفر بن نسير قال : سئل أبو الدرداء عن أرواح الشهداء . قال : هي طير خضر معلقة في قناديل تحت العرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم ترجع إلى قناديلها .
348- 
وروى عن مجاهد أنه قال : ليس الشهداء في الجنة ، ولكنهم يرزقون منها.
349- 
فروى آدم بن أبي إياس حدثنا ورقا عن بن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } الآية قال : يقول : أحياء عند ربهم يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها .
350- 
وروى ابن المبارك عن ابن جريج عن مجاهد قال : ليس هم في الجنة ، ولكن يأكلون من ثمارها ، ويجدون ريحها .
351- 
وقد يستدل لقوله بما روى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشهداء على طريق بارق نهر الجنة فيه قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم بكرة وعشيا " .
352- 
وخرجه ابن منده ولفظه " على بارق نهر في الجنة " وهذا يدل على أن النهر خارج من الجنة وابن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث هنا ، ولعل هذا في عموم الشهداء ، والذين في القناديل التي تحث العرش خواصهم : ولعل المراد بالشهداء هنا من هو شهيد من غير قتل في سبيل الله كالمطعون والمبطون والغريق وغيرهم ممن ورد النص بأنه شهيد .
فالحاديث السابقة كلها فيمن قتل في سبيل الله وبعضها صريح في ذلك ، وفي بعضها أن الآية نزلت في ذلك وهو قوله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } الآية نص في المقتول في سبيل الله .
وقد يطلق الشهيد على من حقق الإيمان وشهد بصحته بقوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم } .
353- 
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية يقول : يشهدون على أنفسهم بالإيمان بالله .
354- 
وروى سفيان عن رجل عن مجاهد قال : كل مؤمن صديق وشهيد ثم قرأ { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم } .
355- 
وخرج ابن أبي حاتم من رواية رشدين بن سعد عن ابن عقيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : كلكم صديق وشهيد . قيل له : ما تقول يا أبا هريرة ؟ قال : إقرأ { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم }.
356- 
وخرج ابن جرير من طريق إسماعيل بن يحيى التيمي عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مؤمنوا أمتي شهداء " ثم تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم } ، وإسماعيل هذا ضعيف جداً . ويعضد هذا ما ورد في تفسير قوله تعالى { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } من شهادة هذه الأمة للأنبياء بتبليغ رسالاتهم ، وبكل حال فالأحاديث المتقدمة كلها في الشهيد المقتول في سبيل الله لا يحتمل غير ذلك ، وإنما النظر في حديث ابن إسحاق هذا والله أعلم .
وأمابقية المؤمنين سوى الشهداء فينقسمون إلى أهل تكليف ، وغير أهل تكليف فهذان قسمان : أحدهما غير أهل التكليف كأطفال المؤمنين فالجمهور على أنهم في الجنة ، وقد حكى الإمام أحمد على ذلك الإجماع . وقال في رواية جعفر بن محمد : ليس فيهم اختلاف يعني أنهم في الجنة . وقال في رواية الميموني لا أحد يشك أنهم في الجنة . وذكر الخلال من طريق حنبل عن أحمد قال : نحن نقر بأن الجنة قد خلقت ونؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان قال الله عز وجل { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } لآل فرعون ، وقال : أرواح ذراري المسلمين ، في أجواف طير خضر تسرح في الجنة يكفلهم أبوهم إبراهيم فيدل هذا أنهما خلقتا . وكذلك نص الشافعي على أن أطفال المسلمين في الجنة ، وجاء صريحاً عن السلف على أن أرواحهم في الجنة كما روي .
357- 
الليث عن أبى قيس عن هذيل عن ابن مسعود قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاؤا وإن أرواح أولاد المسلمين في أجواف عصافبر تسرح بهم في الجنة حيث شاءت فتأوى إلى قناديل معلقة في العرش . خرجه ابن أبي حاتم ، ورواه الثوري والأعمش عن أبي قيس عن هذيل من قوله لم يذكر ابن مسعود .
358- 
وخرج البيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس عن كعب نحوه . وخرج الخلال من طريق ليث عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير قال : إن في الجنة لشجرة لها ضروع كضروع البقر يغذى به ولدان أهل الجنة حتى إنهم ليستنون إستنان البكارة .
359- 
وخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن معدان قال : إن في الجنة شجرة يقال لها : طوبى . ضروع كلها ترضع صبيان أهل الجنة وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم الساعة فيبعث ابن أربعين سنة ويدل على صحة ذلك ما في صحيح مسلم قال .
360- 
لما توفي إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي وإن له لظئرين يكملان رضاعه في الجنة " وخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث البراء بن عازب .
361- 
وروى سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر الجنة يكفلهم أبوهم إبراهيم عليه السلام ". وكذا رواه علي بن عثمان الأحفى عن حماد بن سلمة عن خيثم عن مكحول إلا أنه قال : عصافير خضر في الجنة وهذا مرسل ولفظه يشبه لفظ الحديث الذي احتج به الإمام أحمد على خلق الجنة كما تقدم .
362- 
وقد روي متصلاً من وجه آخر من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عطاء بن فروة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ذراري المؤمين يكفلهم [ أبوهم ] إبراهيم في الجنة " خرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد . وخرجه الإمام أحمد عن موسى بن داود عن ابن ثوبان إلا أنه شك في رفعه , ولكن رواه عن واحد عن ثوبان ولم يشك في رفعه .
363- 
وروي من وجه آخر من رواية مؤمل عن سفيان عن ابن الأصبهاني عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أولاد المسلمين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة عليهما السلام فإذا كان يوم القيامة رفعوا إلى آبائهم " وكذا رواه محمد بن عبد الله بن نمير عن وكيع عن سفيان مرفوعاً ، ورواه ابن مهدي وأبو نعيم عن سفيان موقوفاً قال الدارقطني : والموقوف أشبه .
364- 
ومما يستدل لهذا أيضاً ما خرجه البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبرائيل وميكائيل أتيا به ، فانطلقا به ، وذكر حديثاًً طويلاً وفيه " فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها فيها رجال وشيوخ و شباب ونساء وصبيان ، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشباب " وذكر الحديث " وفيه قالا : والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم [ عليه السلام ] والصبيان حوله فأولاد الناس " وفي رواية " فكل مولود مات على الفطرة " وفي رواية " ولد على الفطرة " والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين وأما هذه الدارفدار الشهداء .
365- 
وروى أبو خالد عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة وفي حديثه " قلت فالروضة قال : أولئك الأطفال وكل بهم إبراهيم يربيهم إلى يوم القيامة " .
366- 
وخرج الطبراني والحاكم من حديث سليم بن عامر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه قال : " بينا أنا نائم انطلق بي إلى جبل وعر " فذكر الحديث وفيه " ثم انطلق بي حتى أشرفت على الغلمان يلعبون بين نهرين قلت : من هؤلاء ؟ قال ذراري المؤمنين يحضنهم أبوهم إبراهيم عليه السلام ، ثم انطلق بي حتى أشرفت على ثلاثة نفر قلت : من هؤلاء ؟ قال إبراهيم وموسى عليهم السلام وهم ينتظرونك " .
وذهبت طائفة إلى أنه يشهد لأطفال المؤمنين عموماً أنهم في الجنة ، ولا يشهد لآحادهم وهو قول ابن راهاويه نقله عنه إسحاق بن منصور وحرب في مسائلهما ولعل هذا يرجع إلى الطفل المعين لا يشهد له حينئذ أنه من أطفال المؤمنين ، فيكون الوقف في آحادهم كالوقف في إيمان آبائهم ، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من السلف القول بالوقف في أطفال المؤمنين وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق وهو بعيد جداً ولعله أخذ ذلك من عمومات كلام لهم ، وإن أرادوا بها أطفال المشركين ، وكذلك اختار القول بالوقف طائفة منهم الأثرم والبيهقي ، وذكر أن ابن عباس رجع إليه ، والإمام أحمد ذكر أن ابن عباس إنما قال ذلك في أطفال المشركين وإنما أخذه البيهقي من لفظ روى عنه كما أنه .
367- 
روى في بعض ألفاظ حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأطفال ؟ فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ولكن الحفاظ الثقات ذكروا أنه سئل عن أطفال المشركين .
368- 
واستدل القائل بالوقف بما أخرجه مسلم من حديث فضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : توفي صبي فقلت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً " .
369- 
وخرجه مسلم أيضاً من طريق طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجنة صبي من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه . قال : " أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم " وقد ضعف أحمد هذا الحديث من أجل طلحة بن يحيى وقال : قد روى مناكير وذكر له الحديث ، وقال ابن معين فيه ، ليس بالقوى ، وأما رواية فضيل بن عمرو له عن عائشة فقال أحمد : ما أراه سمعه إلا من طلحة بن يحيى يعني أنه أخذه عنه ودلسه حيث رواه عن عائشة بنت طلحة .
370- 
وذكر العقيلي أنه لا يحفظ إلا من حديث طلحة ويعارض هذا ما خرجه
مسلم من حديث أبي السليل عن أبي حسان قال : قلت لأبي هريرة إنه [ قد ] مات لي ابنان فما أنت بمحدثي عن رسول اللله صلى الله عليه وسلم تطيب به أنفسنا عن موتانا قال : نعم . صغارهم دعاميص أهل الجنة يتلقى أحدهم أباه - أو قال أبويه - فيأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ [ أنا ] بصنفة ثوبك هذا فلا يتناهى أو قال فلا ينتهي حتى يدخله الله [ وأباه ] الجنة " .
371- 
وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " ولهذا قال الإمام أحمد : هو يرجى لأبويه فكيف يشك فيه يعني أن يرجى لأبويه دخول الجنة بسببه ولعل النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولاً عن الشهادة لأطفال المسلمين بالجنة قبل أن يطلع على ذلك لأن الشهادة على ذلك تحتاج إلى علم به ، ثم اطلع على ذلك فأخبره والله اعلم .
القسم الثاني : أهل التكليف من المؤمنين سوى الشهداء وقد اختلف فيهم العلماء قديماً وحديثاً والمنصوص عن 372 الإمام أحمد : أن أرواح المؤمنين في الجنة ذكره الخلال في كتاب السنة عن غير واحد عن حنبل قال : سمعت أبا عبد الله يقول : أرواح المؤمنين في الجنة ، وقال حنبل في موضع آخر : هي أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار والأبدان في الدنيا يعذب الله من يشاء ويرحم من يشاء قال أبو عبد الله : ولا نقول هما يفنيان بل هما على علم الله باقيتان يبلغ الله فيهما عمله نسأل الله التثبيت وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وقوله : ولا نقول : هما يفنيان يعني الجنة والنار فإن في أول الكلام عن حنبل أن أبا عبد الله حكى قصة ضرار وحكايته اختلاف العلماء في خلق الجنة والنار ، وأن القاضي أهدر دم ضرار ولذلك استخفى إلى أن مات وأن أبا عبد الله قال : هذا كفر يعني القول بأنهما يخلقان بعد ، قال حنبل : وسألت أبا عبد الله عمن قال إن كانتا خلقتا فإنهما إلى فناء ؛ ثم ذكر هذا الجواب من أحمد ولا يصح أن يقال : إن أحمد إنما نفى الفناء عنهما معاً فيصدق ذلك أن تكون الجنة وحدها لا تفنى لأن ما بعد هذا يبطل هذا التأويل وهو قوله : هما على علم الله باقيتان فإن هذا ينفي ذلك الاحتمال والتوهم ويثبت البقاء لهما معاً وهذا يقول كما يقول زيد وعمر ، فهذا قد يحتمل أن يراد نفي العلم عنهما جميعاً دون أحدهما ، فإذا قلت بعد ذلك بل هما جاهلان ، زال ذلك الإحتمال ، وأثبت الجهل لهما جميعاً ، وأيضاً فلا يقع استعمال نفي عن شيئين والمراد نفي اجتماعهما خاصة إلا مع ما يبين ذلك في سياق الكلام وعن لفظ يدل عليه فأما مع الإطلاق فلا يقع ذلك بل لا يجوز استعماله مع الإيهام كما لا يقال الآلة والنار لا يبقيان ، وكما لا يقال الخالق الله المخلوق وحده يفنى ، ولا يقال الدنيا والآخرة لا تفنيان ويراد بها أن الدنيا وحدها تفنى ولا محمد ولا مسيلمة لا يصدقان ولا يكذبان ، والمراد به صدق محمد وحده وكذب مسيلمة وحده فإن هذا كله استعمال قبيح ممنوع ولا يعهد مثله في كلام أحد يعتد به ، وقول أحمد بعد هذا : نسأل الله التثبيت أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا يدل على أن القول بخلاف ذلك عنده من الضلال والزيغ وقد خرج بهذا فيما نقله عنه حرب قال حرب في مسائله ، هذا مذهب أئمة أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم ممن أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام فمن خالف شيء من هذا المذهب فيها أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم الإيمان قول وعمل وذكر العقيدة ومن جملتها قال : لقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله ثم خلق الخلق لهما لا يفنيان ، لا يفنى ما فيهما أبداً فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } وبنحو هذا فقل له كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا وذكر بقية العقيدة ، فقوله في آخر كلامه خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك يبطل من أول الكلام على أن المراد به لا يفنى مجموعهما ، وقد نقل هذا الكلام الذي نقله حرب كله عن أحمد صريحاً كذلك نقله عنه أبو العباس أحمد بن جعفر الأصطخري أنه قال : هذا مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، وأدركت من أدركت من علماء الحجاز وأهل الشام وغيرهم فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق فذكر العقيدة كلها ، وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله وخلق الخلق لهما فلا يفنيان ولا يفنى ما فيهما أبداً فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } ونحو هذا من متشابه القرآن فقل له : كل شيء مما كتب الله عليه الفناء و الهلاك هالك والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك ، وهما من الآخرة لا من الدنيا وذكر بقية العقيدة ، وقد رويت هذه العقيدة عن الإمام أحمد من وجه آخر من طريق أحمد بن وهب القرشي عنه ، والمقصود هنا قول أحمد : أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار .
وقد حكى القاضي أبو يعلى في كتاب " المعتمد " ومن اتبعه من الأصحاب هذا الكلام عن عبد الله بن أحمد عن أبيه ولم ينقله عبد الله إنما نقله حنبل . وأما ما نقله عبد الله عن أبيه فقال الخلال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي عن أرواح الموتى أتكون في أفنية قبورهم أم في حواصل طير أم تموت كما تموت الأجساد ؟ قال :
373- 
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نسمة المؤمن إذا مات طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده فيبعثه الله "
374- 
وقد روي عن عبد الله بن عمرو قال : أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر كالزرازير ثم يتعارفون فيها ويرزقون من ثمارها ، وقال بعض الناس أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل في الجنة معلقة في العرش انتهى . وهذا الكلام أيضاً يدل على أن أرواح المؤمنين عند الله في الجنة إلا أنه ذكر في جوابه الأحاديث الدالة على ذلك المرفوعة والموقوفه ولم يذكر سوى ذلك ففي رواية حنبل جزم بأن أرواح المؤمنين في الجنة وفي رواية عبد الله ذكر الأدلة على ذلك .
375- 
فأما الحديث المرفوع الذي ذكره من رواية مالك عن ابن شهاب أن عبد الرحمن بن كعب أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده " كذا رواه مالك في الموطأ ورواه عن مالك جماعة منهم الشافعي ورواه الإمام أحمد في مسنده عن الشافعي وخرجه النسائي من طريق مالك أيضاً وخرجه مالك من طريق الحارث بن فضيل عن الزهري بهذا الإسناد ، وكذا رواه عن الزهري يونس والزبيدي والأوزاعي وإسحاق ورواه شعيب وابن أخي الزهري وصالح بن كيسان عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن جده كعب ، وقال صالح في حديثه : أنه بلغه أن كعباً كان يحدث وقال شعيب في حديثه إن كعباً كان يحدث فهو على رواية صالح ومن وافقه منقطع ، وذكر محمد بن يحيى الذهلي أن ذلك هو المحفوظ وخالفه ابن عبد البر في ذلك ورجح رواية مالك ومن وافقه ، وقد روي - يعني حديث كعب - من وجوه متعدده .
376- 
فروى حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديث القبر بطوله في حق المؤمن قال : " ويعاد الجسد إلى ما بدىء منه وتجعل روحه في نسيم طير يعلق في شجر الجنة ". خرجه الطبراني وغيره ، وخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق معتمر عن محمد بن عمرو به ولفظه ، وتجعل نسمته في النسيم الطيب وهو طير يعلق في الجنة ، وقد سبق أن غيرهما رواه عن محمد بن عمرو فوقفه على أبي هريرة .
377- 
وقد تقدم حديث أم هانىء الأنصارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تكون النسم طائر تعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها " .
378- 
وخرج ابن منده من رواية موسى بن عببيدة الربذي عن عبد الله بن يزيد عن أم بشر بنت المعرور قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر ترعى في الجنة تأكل من ثمارها وتشرب من مائها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فيقولون : ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا ، وإن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى حجر من النار يقولون : ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا " . وموسى بن عبيدة شيخ صالح شغلته العبادة عن حفظ الحديث فكثرت المناكير في حديثه .
379- 
وخرج ابن منده أيضاً من رواية معاوية بن صالح عن حمزة بن حبيب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أرواح المؤمنين فقال : " في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت " قالوا : يا رسول الله وأرواح الكفار ؟ قال " محبوسة في سجين " وهذا مرسل .
380- 
وخرج أيضاً من رواية عيسى بن موسى عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرواح المؤمنين كالزرازير تأكل من ثمر الجنة " ثم قال ابن منده رواه جماعة عن الثوري موقوفاً ، يعني علي عبد الله بن عمرو والصواب وقفه .
381- 
وقد سبق أن الإمام ذكره في رواية ابنه عبد الله موقوفاً وكذا رواه وكيع عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال : أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزرازير يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها . أخرجه الخلال . وخرج أيضاً من حديث أبي هشام عن أبي إسحاق عن الأحوص عن عبد الله بن مسعود فذكر احتضار المؤمن وأن روحه تعاد إلى جسده عند سؤاله في القبر ثم ترفع روحه فتجعل في أعلا عليين . ثم تلا عبد الله الآية { إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون . كتاب مرقوم } قال السماء السابعة وأما الكفار فذكر الكلام وتلا { إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين } .
قال : الأرض ، وروي مثل هذا المعنى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو ، وذكره ابن عبد البر . وروى سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن عبد الله بن عمرو كان يقول : سجين هي الأرض السفلى فيها أرواح الكفار .
382- 
وروى ابن المبارك عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن منصور بن أبي منصور حدثه قال سألت عبد الله بن عمرو عن أرواح المسلمين حين يموتون قال : ما تقولون يا جهال العراق ؟ قلت : لا أدري . قال : فإنها صور طير بيض في ظل العرش وأرواح الكفار في الأرض السابعة .
383- 
وروي أيضاً عن كعب من رواية الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال : كنا جلوساً إلى كعب فجاء ابن عباس فقال : يا كعب كل ما في القرآن عرفت غير أربعة أشياء فأخبرني عنهن . فسأله عن سجين وعليين . فقال كعب : أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح المؤمنين ، وأما سجين فالأرض السابعة فيها أرواح الكفار تحت خدّ إبليس . وقد ثبت في الأدلة أن الجنة فوق السماء السابعة ، وقد ذكرنا ذلك في كتاب " صفة النار " متوفي .
384- 
وروى أبو نعيم من طريق الحكم بن أبان قال : نزل بي ضيف من أهل صنعاء فقال : سمعت وهب بن منبه يقول : إن لله في السماء السابعة داراً يقال لها البيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين ، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم .
385- 
وخرج ابن منده من طريق سفيان عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام لقي أحدهما صاحبه فقال : إن مت قبلي فحدثني بما لقيت وإن مت قبلك حدثتك بما لقيت . قال : وكيف يكون ذلك ؟ قال : أرواح المؤمنين تذهب في الجنة حيث شاءت . وخرجه ابن أبي الدنيا من طريق جرير بن يحيى .
386- 
وخرج أيضاً من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن منصور بن أبي منصور أنه سأل عبدالله بن عمرو عن أرواح المؤمنين إذا ماتوا أين هي ؟ قال : هي صور طير بيض في ظل العرش .
387- 
وروى ابن أبي ليث عن أبي قيس عن هذيل عن ابن مسعود أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } قال : هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة . خرجهما ابن أبي الدنيا.
388- 
وخرج اللالكائي من رواية عاصم عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري قال : تخرج روح المؤمن وهي أطيب من المسك فتعرج به الملائكة حتى تأتي ربه وله برهان مثل الشمس وروح الكافر أنتن من الجيفة وهو بوادي حضر موت في أسفل الثرى من سبع أرضين .
وقد يستدل للقول بأن أرواح المؤمنين في الجنة , وأرواح الكفار في النار من القرآن بأدلة منها قوله تعالى : { فلولا إذا بلغت الحلقوم . وأنتم حينئذ تنظرون } إلى قوله : { فأما إن كان من المقربين . فروح وريحان وجنة نعيم . وأما إن كان من أصحاب اليمين . فسلام لك من أصحاب اليمين . وأما إن كان من المكذبين الضالين . فنزل من حميم . وتصلية جحيم } هو دخول النار مع إحراقها وإنضاجها فجعل هذا كله متعقباً للاحتضار والموت وكذلك قوله تعالى في قصة المؤمنين في سورة يس : { قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون . بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } وإنما قال هذا بعد ما قتلوه ورأى ما أعد الله له { يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلى ربك راضية مرضية } على تأويل من تأول ذلك عند الاحتضار ، وكذلك قوله تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين * قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } الآية ونظير هذه الآية قوله : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون } الآية .
389- 
ومما يستدل به أيضاً لذلك ما رواه مجالد عن الشعبي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خديجة قال : " أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب " خرجه البزار .
390- 
وخرج الطبراني بإسناد منقطع عن فاطمة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : أين أمنا خديجة ؟ قال : " في بيت من قصب بين مريم وآسية امرأة فرعون " قالت : ممن هذا القصب ؟ قال : " من القصب المنظوم بالدرر واللؤلؤ والياقوت " .
391- 
وخرج أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجم الأسلمي الذي اعترف عنده بالزنا قال : " والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " .
فصل
وإنما تدخل أرواح المؤمنين والشهداء الجنة إذا لم يمنع من ذلك مانع من كبائر تستجوب العقوبة أو حقوق آدميين حتى يبرأ منها
392- 
ففي الصحيحين عن أبى هريرة أن مدعماً قتل يوم خيبر قال الناس : هنيئاً له الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلى والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ً" .
393- 
وعن سمرة بن جندب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ها هنا أحد من بني فلان " ثلاثاً فلم يجبه أحد ثم أجابه رجل فقال : " إن فلاناً الذي توفي احتبس عن الجنة من أجل الدَّين الذي عليه فافتكوه أو فافدوه ، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله " خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة . وخرج البزار من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي حديثه قال : " إن صاحبكم محبوس على باب الجنة " أحسبه قال بدين .
394- 
وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من فارق الروح و الجسد وهو بريء من ثلاث ، دخل الجنة من الكبر والغلول والدين " .
395- 
وخرج الطبراني من حديث أنس قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يصلي عليه فقال : " على صاحبكم دين ؟ " فقالوا : نعم . قال : فما ينفعكم أن أصلي على رجل مرتهن في قبره لا تصعد روحه إلى السماء ، ولو ضمن رجل دينه قمت فصليت عليه فإن صلاتي تنفعه " وفي المعنى أحاديث متعددة .
396- 
وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت من طريق سيار بن حسن قال خرج أبي وعبد الواحد بن زيد يريدان الغزو فهجموا على ركية عميقة واسعة فأدلوا حبالهم بقدر فإذا القدر قد وقعت في الركية قال : فقرنوا حبال الرفقة بعضها ببعض ، ثم دخل أحدهما إلى الركي فلما صار ببعضها إذا هو بهمهمة في الركي فرجع فصعد فقال : أتسمع ما أسمع ؟ قال : نعم , فناولني العمود فأخذ العمود فدخل في الركية فإذا هو برجل جالس على ألواح وتحته الماء . فقال : أجنيٌّ ؟ قال : بل إنسي . قال : ما أنت قال : أنا رجل من أهل أنطاكية وإني مت فحبسني ربي هنا بدين علي وإن ولدي بإنطاكية لا يذكروني ولا يقضون عني فخرج الذي كان في الركية فقال لصاحبه غزوة بعد غزوة فدع أصحابنا يذهبون فساروا إلى أنطاكية فسألوا عن الرجل وعن بنيه فقالوا : نعم إنه لأبونا وقد بعنا ضيعة لنا فامشوا معنا حتى نقضي عنه دينه . قال فذهبوا معهم حتى قضوا ذلك الدين ثم رجعوا من أنطاكية حتى أتوا موضع الركية ولا يشكون أنها ثم ، فلم يكن ركية ولا شيء فأمسوا فباتوا هناك فإذا الرجل قد أتاهم في منامهم وقال : جزاكم الله خيراً فإن الله حولني إلى مكان كذا وكذا من الجنة حيث قضي ديني ، وروى في كتاب المنامات حدثني زكريا بن الحارث النظري قال : رؤي محمد بن عباد في النوم فقيل : ما فعل الله بك ؟ فقال : لولا ديني دخلت الجنة . وقالت طائفة : الأرواح في الأرض ، ثم اختلفوا فقالت فرقه منهم : الأرواح تستقر على أفنية القبور وهذا القول هو الذي ذكره عبد الله بن الإمام أحمد في سؤاله المتقدم . وحكي ابن حزم عن عامة أصحاب الحديث . وقال ابن عبد البر : كان أبو وضاح يذهب إليه ويحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى المقبرة فقال " السلام عليكم دار قوم مؤمنين " فهذا يدل على أن الأرواح بأفنية القبور . ورجح ابن عبد البر أن أرواح الشهداء في الجنة وأرواح غيرهم على أفنية القبور تسرح حيث شاءت .
397- 
وذكر عن مالك أنه قال : بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت .
398- 
وعن مجاهد قال : الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا يفارقه ذلك .
399- 
واستدل هو وغيره بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده في الغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال : هذا مقعدك إلى يوم القيامة " وهذا يدل على أن الأرواح ليست في الجنة وإنما تعرض عليها بكرة وعشياً .
وكذا ذكره ابن عطية وغيره ، ولا حجة لهم فيه لوجهين : أحدهما : أنه يحتمل أن يكون العرض بكرة وعشياً على الروح المتصل بالبدن والروح وحدها في الجنة وتكون البشارة والتخويف للجسد في هذين الوقتين باتصال الروح به . وأما الروح أبداً في تنعم أو عذاب . والثاني أن الذي يعرض بالغداة والعشي هو مسكن ابن آدم الذي يستقر فيه في الجنة أو النار وليست الأرواح مستقرة فيه مدة البرزخ وإن كانت في الجنة أو النار .
400- 
ولهذا جاء في حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن إذا فتح له في قبره باب إلى الجنة وقيل له : هذا منزلك . قال : رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي " . وأما السلام على أهل القبور فلا يدل على استقرار أرواحهم على أفنية قبورهم فإنه يسلم على قبور الأنبياء والشهداء وأرواحهم في أعلى عليين ولكن مع ذلك لها اتصال سريع في الجسد ولا يعلم كنه ذلك وكيفيته على الحقيقة إلاالله عز وجل . ويشهد ذلك الأحاديث المرفوعة والموقوفة على أصحابه ، ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص في أن النائم يعرج بروحه إلى العرش مع تعلقها ببدنه وسرعة عودها إليه عند استيقاظه ، فأرواح الموتى المتجردة عن أبدانهم أولى بعروجها إلى السماء وعودها إلى القبر في مثل تلك السرعة والله أعلم .
401- 
وخرج ابن منده من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب ، أن سلمان قال لعبد الله بن سلام : إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت وإن أرواح الكفار في سجين وعلي بن زيد ليس بالحافظ خالفه يحيى بن سعيد الأنصاري مع عظمته وجلاله وحفظه .
402- 
فروى عن سعيد بن المسيب . قال فيه : إن أرواح المؤمنين تذهب في الجنة حيث شاءت كما سبق ذكره . وقد تقدم عن مالك أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت ن وخرجه ابن أبي الدنيا عن خالد بن خراش قال : سمعت مالكاً يقول ذلك .
403- 
وخرج أيضاً عن حسين بن علي العجلي حدثنا أبو نعيم حدثنا شريك عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو وقال مثل المؤمن حين تخرج نفسه أو قال روحه مثل رجل كان في سجن فأخرج منه فهو ينفسخ في الأرض ويتقلب فيها .
404- 
ومما استدل به على أن الأرواح في الأرض حديث البراء بن عازب الذي تقدم سياق بعضه وفيه صفة قبض روح المؤمن " فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ويقول الرب سبحانه وتعالى : ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد إلى القبر " وذكر الحديث ، وقال في روح الكافر " فيصعد بها إلى السماء فتغلق دونه فيقول الرب سبحانه وتعالى : ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى " وفي رواية " ويقول الله : ردوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني أردهم فيها ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } وهذا يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود إلى السماء بعد عرضها ونزولها إلى الأرض في الجنة لا سيما الشهداء .
405- 
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة في صفة قبض روح المؤمن قال : " ثم يصعد به إلى ربه عز وجل فيقول ردوه إلى آخر الأجلين " وقال مثله في الكافر وقال فيه رد النبي صلى الله عليه وسلم ربطة على أنفه يعني لما ذكر نتن ريحه . وهذا يشهد برفع الحديث كله .
406- 
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث قسامة بن زهير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر االريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين وتقول : أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية مرضياً عنك إلى رضوان الله وكرامته ، فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك ، وطويت عليها الحريرة ، وبعث بها إلى عليين ، وإن الكافر إذا احتضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعاً شديداً ويقال : أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة ومسخوطاً عليك إلى هوان الله وعذابه ، فإذا أخرجت روحه وضعت على تلك الجمرة فإن لها نشيشاً ويوى عليها المسح ويذهب بها على سجين " وخرجه النسائي وغيره من حديث قتادة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه مخالف لما قله ، وذكر في روح المؤمن حين ينتهون بها إلى السماء العليا ، وقال في روح الكافر حين ينتهون بها إلى الأرض السفلى .
وقد ذكرنا فيما تقدم عن ابن مسعود أن الروح بعد االسؤال في القبر ترفع إلى عليين وتلا قوله تعالى : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } .
407- 
وقالت فرقة : تجتمع في موضع من الأرض كما روى همام بن يحيى السعودي عن قتادة قال : حدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو قال إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية ، وأما أرواح االكفار فتجتمع بسبخة بحضر موت يقال له برهوت خرجه ابن منده ، ورواه هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب من قوله لم يذكر عبد الله بن عمرو ، خرجه من طريق ابن أبي الدنيا وقد تبين أن قتادة لم يسمعه من سعيد إنما بلغه ولم يدر عمن أخذه .
408- 
وخرج ابن منده من طريق فرات الفزاري عن أبي الطفيل عن علي قال : شر واد بئر في الأحقاف برهوت بحضر موت ترده أرواح الكفار .
409- 
قال : رواه حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن يوسف عن ابن مهران عن ابن عباس عن علي قال : أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له : برهوت فيه أرواح الكفار وفيه بئر ماءه في النار أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام . وروى بإسناده عن شهر بن حوشب إن كعباً رأى عبد الله بن عمرو وقد تكالب الناس عليه يسألونه فقال رجل لرجل : سله أين أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت وبإسناده عن سفيان عن أبان بن تغلب قال : قال رجل : بت فيه يعني وادي برهوت كأنما حشدت فيه أرواح الكفار وهم يقولون يا دومه فحدثنا رجل من أهل الكتاب هو الملك الذي على أرواح الكفار . قال سفيان : وسألنا الحضرميين فقالوا : لا يستطيع أن يبيت فيه أحد بالليل . وقال ابن قتيبية في كتابه غريب الحديث ذكر الأصمعي عن رجل من أهل برهوت يعني البلد الذي فيه هذا البئر قال تجد الرائحة المنتنة الفظيعة جداً ثم تمكث فيأتينا الخبر بأن عظيماً من عظماء الكفار قد مات فنرى أن تلك الرائحة منه . قال وقال ابن عيينة : أخبرني رجل أنه أمسى ببرهوت فكأن فيه أصوات الحاج . قال : وسألت أهل حضرموت فقال : لا يستطيع أحدنا أن يمسي فيه .
411- 
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا الحسن بن عبد العزيز حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن عمر بن سليمان قال مات رجل من اليهود وعنده وديعة لمسلم ، وكان لليهودي ابن مسلم فلم يعرف موضع الوديعة فأخبر شعيباً الجبائي فقال أئت برهوت فإن دونه عين بتسقيب فإذا جئت في يوم السبت فامش عليها حتى تأتيعيناً هناك فادع أباك فإنه يجيبك فاسأله عما تريد ففعل ذلك الرجل ومضى حتى أتى العين فدعا أباه مرتين أو ثلاثاً فأجابه . فقال أين وديعة فلان ؟ فقال تحت إسكفة الباب فادفعها إليه .
412- 
وفي كتاب الحكايات لأبي عمرو أحمد بن محمد النيسابوري حدثنا بكر بن محمد بن عيسى الطرطوسي حدثنا حامد بن يحيى بن سليم قال كان عندنا رجل بمكة من أهل خرسان يودع الودائع فيؤدبها فأودعه رجل عشرة ألاف دينار وغاب وحضر الخرساني الوفاة فما ائتمن أحداً من أولاده فدفنها في بعض بيوته ومات فقدم الرجل وسأل بنيه ، فقالوا ما لنا بها علم فاسأل العلماء الذين بمكة وهم يومئذ متوافرون فقالوا ما نراه إلا من اهل الجنة وقد بلغنا أن أرواح اهل الجنة في زمزم فإذا مضى من الليل ثلثه أو نصفه فائت زمزم فقف على شفيرها ثم ناده فإنا نرجوا أن يجيبك فإن أجابك فاسأله عن مالك فذهب كما قالوا فنادى أول ليلة وثانية وثالثة فلم يجب فرجع إليهم فقال : ناديت ثلاثاً فلم أجب فقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، ما نرى من صاحبك إلا من أهل النار فاخرج إلى اليمن فإن بها وادياً يقال له بلهوت ، فيه أرواح أهل النار ، فقف على شفيرها فناده في الوقت الذي ناديت في زمزم ، فذهب كما قيل له في الليل فنادى يا فلانا بن فلان فأجابه من أول صوت فقال له ويحك ما انزلك هاهنا وقد كنت صاحب خير قال كان لي أهل بخرسان فقطعتهم حتى مت فأخذني الله فأنزلني هذا المنزل وأما مالك فإني لم آمن عليه ولدي وقد دفنته في موضع كذا فرجع صاحب المال إلى مكة فوجد المال في المكان الذي أخبره .
ورجحت طائفة من العلماء أن أرواح الكفار في بئر برهوت منهم القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتابه المعتمد وهو مخالف لنص أحمد أن أرواح الكفار في النار ولعل لبئر برهوت اتصالاً في جهنم في قعرها كما روي في البحر أن تحته جهنم والله أعلم . ويشهد لذلك ما سبق من قول أبي موسى الأشعري : روح الكافر بوادي حضرموت في أسفل الثرى من سبع أرضين . وقال صفوان بن عمرو : سألت عامر بن عبد الله اليماني هل لأنفس المؤمنين مجمع ؟ فقال : يقال : إن الأرض التي يقول الله : { إن الأرض يرثها عبادي الصالحون } قال : هي الأرض التي تجتمع أرواح المؤمنين فيها . حتى يكون البعث خرجه ابن منده ، وهذا غريب جداً وتفسير الآية بذلك ضعيف .
413- 
وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب " من عاش بعد الموت " من طريق عبد الملك بن قدامة عن عبد الله بن دينار عن أبي أيوب اليماني عن رجل من قومه يقال له عبد الله إنه ونفراًمن قومه ركبوا البحر وإن البحر أظلم عليهم أياماً ثم انجلت عنهم الظلمة وهم قرب قرية قال عبد الله : فخرجت ألتمس الماء فإذا أبواب المدينة مغلقة تجأجأ فيها الريح فهتفت بها فلم يجبني أحد فبينا أنا كذلك إذ طلع علي فارسان تحت كل واحد منهما قطيفة بيضاء فسألاني عن أمري فأخبرتهما بالذي أصابنا في البحر وإني خرجت أطلب الماء فقالا لي : يا عبد الله اسلك في هذه السكة فإنك ستنتهي إلى بركة فيها ماء فاسق منها فلا يهولنك ما ترى فيها قال : فسألتهما عن تلك البيوت المغلقة التي تجأجأ فيها الريح فقالا : هذه بيوت فيها أرواح الموتى قال فخرجت حتى انتهيت إلى البركة فإذا فيه رجل معلق مصلوب على رأسه يريد أن يتناول الماء بيده وهو لا يناله ، فلما رآني هتف بي وقال : يا عبد الله اسقني قال : فغرفت بالقدح لأناوله فقبض بيدي فقال : بلَّّ العمامة ثم ارم بها إليَّّّّّ فبللت العمامة لأرمي بها إليه فقبض بيدي ، فقلت : يا عبد الله غرفت بالقدح لأناولك فقبضت يدي ثم بللت العمامة لأرمي بها إليك فقبضت يدي ، فأخبرني من أنت ؟ فقال : أنا ابن آدم أنا أول من سفك دماً في الأرض .
414- 
وروى أبو نعيم بإسناده عن ابن وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : بينما رجل في مركب في البحر إذا انكسر بهم مركبهم فتعلق بخشبة فطرحته في جزيرة فخرج يمشي فإذا هو بماء فتبعه فدخل في شعب فإذا برجل في رجليه سلسلة منوط فيها بينه وبين الماء شبر فقال : اسقني رحمك الله قال : فأخذت ملء كفي ماء فرفع بالسلسلة فذهب بالماء فلما ذهب الماء حط الرجل قال : ففعلت ذلك ثلاث مرات أو أربعاً . قال : فلما رأيت ذلك منه قلت له : مالك ويحك ؟ قال : هو ابن آدم الذي قتل أخاه ، والله ما قتلت نفس ظلماً منذ قتلت أخي إلا يعذبني الله بها لأني أول من سن القتل .
415- 
وروى عاصم بن محمد الرازي في كتاب " الرهبان " . حدثنا عصمة العباداني قال : كنت أجول في بعض الفلوات إذ نظرت ديراً وفيه صومعة وفيها راهب فناديته فأشرف علي . فقلت له : من أين تأتيك الميرة ؟ قال : من ميسرة شهر قلت : حدثني بأعجب ما رأيت في هذه المواضع . قال : بينا أنا ذات يوم أدير بصري في هذه البرية القفر و أتفكر في عظمة الله وقدرته إذ رأيت طائراً أبيض مثل النعامة كبيراً قد وقع على تلك الصخرة وأومى بيده إلى صخرة بيضاء فتقيأ رأساً ثم رجلاً ثم ساقاً وإذا هو كلما تقيأ عضواً التمت بعضها إلى بعض أسرع من البرق فإذا هم بالنهوض نقره الطائر فقطع أعضاءه ثم يرجع فيبتلعه فلم يزل على ذلك أياماً فكثر تعجبي منه وازددت يقيناً بعظمة الله وعلمت أن لهذه الأجساد حياتاً بعد الموت ، وذكر أنه سأل عن ذلك الرجل يوماً عن أمره فقال : أنا عبد الله بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب أمر الله هذا الملك أن يعذبني إلى يوم القيامة . قال : قال لي الملك : قد أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أخرج بهذا الجسد إلى جزيرة من البحر الأسود التي تخرج منها هوام أهل النار فأعذبه إلى يوم القيامة .
وقد رويت هذه الحكاية من وجه آخر خرجها ابن النجاري في تاريخه من طريق السلفي بإسناد له إلى الحسن بن محمد بن عبيد اليشكري حدثنا إسماعيل بن أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن النجم سنة عشر وثلاثمئة أنه حضر مع يوسف بن أبي التياح ببلاد سنباط حين فتحها وأن سنباط حضر مجلسه . وحدثنا عن راهب سماه فأحضر يوسف الراهب فحدثه الراهب بعد الامتناع أن ملكاً نفاه إلى جزيرة على البحر منفردة قال : فرأيت يوماً طائراً . فذكر شبيهاً بالحكاية .
416- 
ورويت من وجه آخر من طريق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي صاحب السداميات المشهورة عن علي بن هارون عن محمود الوراق حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر البزار سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن أبي الأصبغ قال : قدم علينا شيخ غريب فذكر أنه كان نصرانياً سنين وأنه تعبد في صومعة قال : فبينا هو ذات يوم جالساً إذ جاءه طائر كالنسر أو كالكركي . فذكر شبيهاً بالحكاية مختصراً . وكل ما ورد من هذه الآثار فإنه محمول على أن الأرواح تنتقل من مكان إلى مكان ، ولا يدل على أنها تستقر في موضع من الأرض والله أعلم .
417- 
ويشهد لهذا ما روي عن شهر بن حوشب قال : كتب عبد الله بن عمرو إلى أبي بن كعب يسأله أين تلتقي أرواح أهل الجنة وأهل النار : فقال : أما أرواح أهل الجنة فبالبادية ، وأما أرواح الكفارفبحضرموت . ذكره ابن منده تعليقاً .
وقالت طائفة من الصحابة : الأرواح عند الله عز وجل . وقد صح ذلك عن عمرو وقد سبق قوله وكذلك .
418- 
روي عن حذيفة خرجه ابن منده من طريق داود عن الأودي عن الشعبي عن حذيفة قال : إن الأرواح موقوفة عند الرحمن عز وجل تنتظر موعدها حتى ينفخ فيها . وهذا إسناد ضعيف . وهذا لا ينافي ما وردت به الأخبار من محل الأرواح على ما سبق .
419- 
وقالت طائفة : أرواح بني آدم عند أبيهم آدم عن يمينه وشماله وهذا يستدل له بما في الصحيحين عن أنس عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فرج سقف بيتي وأنا بمكة " فذكر الحديث وفيه " فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعلى يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال : مرحباً بالنبي الصالح [ والابن الصالح ] . قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم ، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة . والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى ...." وذكر بقية الحديث . وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن أرواح الكفار في السماء وهذا مخالف لقوله تعالى { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء } وكذلك حديث البراء وأبي هريرة وغيرهما أن السماء لا تفتح لروح الكافر ، وأنها تطرح طرحاً ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } .
وكذا حمله بعضهم على أن هذه الأرواح التي عن يمين آدم وشماله هي أرواح بنيه التي لم تخلق أجسادهم بعد ، وهذا في غاية البعد مع منازعة بعضهم في خلق الأرواح قبل أجسادها .
420- 
وقد ورد من حديث أبى هريرة ما يزيل هذا الأشكال كله من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس عن أبي العالية وغيره عن أبي هريرة فذكر حديث الإسراء بطوله إلى أن قال : " ثم صعد به على السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال جبريل ، قيل ومن معك ؟ قال : محمد قالوا : وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم . قال : حياه الله من أخ ومن خليفة . فنعم الاخ ، ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء قال : فدخل فإذا هو برجل تام الخلقة لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من الناس عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة إذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر وذا نظر عن شماله بكى وحزن والباب الذي عن يمينه باب الجنة فإذا نظر من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله جهنم فإذا نظر من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن " وذكر الحديث ، وقد خرجه بتمامه البزار في مسنده وأبو بكر الخلال وغير واحد وفيه التصريح بان أرواح ذريته في الجنة والنار وإنه ينظر إلى أهل الجنة من باب عن يمينه وإلى أهل النار من باب عن شماله وهذا لا يقتضي أن تكون الجنة والنار في السماء الدنيا وإنما معناه أن آدم في السماء الدنيا يفتح له بابان في الجنة والنار ينظر منهما إلى أرواح ولده فيهما . وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاة الكسرف وهو في الأرض وليست الجنة في الأرض ، وروى أنه رآهما ليلة الإسراء في السماء وليست النار في السماء .
421- 
ويشهد لذلك أيضاً ما في حديث أبي هارون العبدي مع ضعفه عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء الطويل إلى أن ذكر السماء الدنيا " وإذا أنا برجل كهيئته يوم خلقه الله عز وجل لم يتغير منه شيء وإذا تعرض عليه أرواح ذريته فإذا كان روح مؤمن قال روح طيبة وريح طيبة اجعلوا كتابه في سجين ، قلت : يا جبريل من هذا ؟ قال أبوك آدم " وذكر الحديث ففي هذا أنه تعرض عليه أرواح ذريته في السماء الدنيا وأنه يأمر بجعل الأرواح في مستقرها من عليين وسجين فدل على أن الأرواح ليس محل مستقرها في السماء الدنيا . وزعم ابن حزم أن الله خلق الأرواح جملة قبل الأجساد وأنه جعلها في برزخ وذلك البرزخ عند منقطع العناصر يعني حيث لا ماء ولا هواء ولا نار وأنه إذا خلق الأجساد أدخل فيها تلك الأرواح ثم يعيدها عند قبضها إلى ذلك البرزخ وهو الذي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أسري به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأهل الشقاوة عن يساره وذلك عند منقطع العناصر وتجعل أرواح الأنبياء والشهداء في الجنة ، قال : وذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلناه بعينه قال : وعلى هذا أجمع أهل العلم . قال ابن حزم : وهو قول جميع أهل الإسلام غيره . فكيف يكون قول جميع أهل الإسلام وكلامه يقتضي أن الأرواح رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء تحت السماء الدنيا ، والحديث يدل على أنه إنما رآها فوق السماء الدنيا . وما حكاه عن محمد بن نصر عن إسحاق بن راهويه فلا يدل على ما قاله بوجه ، فإن محمد ابن نصر حكى عن إسحاق بن راهويه إجماع أهل العلم أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه قبل خلق أجسادهم فاستنطقهم واستشهدهم على أنفسهم { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } ، ولم يذكر أكثر من هذا ، وهذا لا يدل شيء مما قاله ابن حزم في مستقر الأرواح ألبتة . بل ولا على أن الأرواح بقيت على حالها ، بل في بعض الأحاديث أنه ردها إلى صلب آدم ولم يقل إسحاق ولا غيره من المسلمين أن مستقر الأرواح حيث منقطع العناصر بل وليس هذا من جنس كلام المسلمين بل من جنس كلام المتفلسفة .
422- 
وقد خرج ابن جرير الطبري في كتاب " الأدب " له من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب عن المغيرة بن عبد الرحمن قال : قال سلمان لعبد الله بن سلام : إن مت قبلي فأخبرني عمن تلقى ، وإن مت قبلك أخبرتك بما ألقى فقال له الناس : يا عبد الله كيف تخبرنا وقد مت ؟ قال : ما من روح تقبض من جسد إلا كان بين السماء والأرض حتى يرده في جسده الذي أخذ منه . هذا لا يثبت وهو منقطع وأبو معشر ضعيف وقد سبق رواية سعيد بن المسيب لهذه القصة بغير هذا اللفظ وهو الصحيح . وقد تقدم في سؤال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه عن الأرواح هل تموت بموت الأجساد ؟ وهذا يدل على إن هذا قد قيل أيضاً وهو كذلك . وقد حكي عن طائفة من المتكلمين وذهب إليه جماعة من فقهاء الأندلس قديماًمنهم عبد الأعلى بن وهب بن محمد بن عمر بن لبابة ومن متأخيرهم كالسهيلي وأبي بكر بن العربي وغيرهما قال أبو الوليد بن الفرضي في " تاريخ الأندلس " : أخبرني سليمان بن أيوب قال : سألت محمد بن عبد الملك بن أيمن عن الأرواح ؟ فقال لي : كان محمد بن عمر بن لبابة يذهب إلى أنها تموت وسألته عن ذلك . فقال: كذا يذهب عبد الأعلى بن وهب فيما قال ابن أيمن فقلت له : إن عبد الأعلى كان قد طالع كتب المعتزلة ، ونظر في كلام المتكلمين فقال : إنما قلدت عبد الأعلى ليس من هذا شىء انتهى . وقد استدل أرباب هذا القول بقوله تعالى { كل نفس ذائقة الموت } ، وهذا حق كما أخبر الله به لا مرية فيه لكن الشأن في فهم معناه فإن النفس يراد بها مجموع الروح والبدن كما في قوله تعالى: { ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها } وقوله سبحانه وتعالى { فلا تزكوا أنفسكم } وقوله تعالى { ولاتقتلوا أنفسكم } وقوله تعالى { كل نفس بما كسبت رهينة } وقوله تعالى {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها }.
423- 
وقول النبي صلى الله عليه وسلم0" ما من نفس منفوسة إلا الله خالقها " .
424- 
وقوله عليه السلام " 0مامن نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ " .
425- 
وفي رواية " لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم " والمراد موت الأحياء الموجودين في يومه ذلك ، ومفارقة أرواحهم لأبدانهم قبل المائة سنة ليس المراد عدم أرواحهم واضمحلالها فكذلك قوله سبحانه وتعالى { كل نفس ذائقة الموت } إنما المراد كل مخلوق فيه حياة فإنه يذوق الموت وتفارق روحه بدنه ، فإن أراد أنها تعدم وتتلاشى فليس بحق وقد اشتد نكير العلماء لهذه المقالة حتى قال سحنون بن سعيد وغيره : هذا قول أهل البدع ، والنصوص الكثيرة الدالة على بقاء الأرواح بعد مفارقتها الأبدان ترد ذلك وتبطله ، ولكن تخيل بعض المتأخرين موت الأرواح عند النفخة الأولى مستدلاً بقوله تعالى { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } ورد عليه آخرون وقالوا : إنما المراد به يموت من لم يكن مات قبل ذلك ، ولكن ورد عن طائفة من السلف في قوله { إلا من شاء الله } أن المستثنى هم الشهداء . روي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصور الطويل ، ومن وجه آخر بإسناد أجود من إسناد حديث الصور ، وهذا يدل على أن للشهداء حياة يشاركون فيها الأحياء ، وقد قيل في الأنبياء مثل ذلك أيضاً .
426- 
وعلى هذا حمل طائفة من العلماء منهم البهيقي وأبو العباس القرطبي قول النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى } فأكون أنا أول من يبعث فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أجوزي بصعقة الصور أم بعث قبلي وفي رواية " أو كان ممن استثنى الله " ولأن حياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء بلا ريب فشملهم حكم الأحياء أيضاً ويصعقون مع الأحياء حينئذ لكن صعقة غشي لا صعقة موت إلا موسى تردد فيه أصعق أم كان ممن استثنى الله فلم يصعق مجازاة له بصعقة الطور لكن على هذا التقدير فموسى مبعوث قبل محمد صلى الله عليه وسلم لا محالة ، فكيف يتردد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله .
والفرق بين حياة الشهداء وغيرهم من المؤمنين الذين أرواحهم في الجنة من وجهين : أحدهما أن أرواح الشهداء يخلق لها أجساد أو هي الطير التي تكون في حواصلها ليكمل بذلك نعيمها ويكون أكمل من نعيم الأرواح المجردة عن الأجساد ، فإن الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله فعوضوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ ، والثاني أنهم يرزقون من الجنة وغيرهم لم يثبت له في حقه مثل ذلك ، فإنه جاء أنهم يعلقون في شجر الجنة ، وروي يعلقون بفتح اللام وضمها فقيل : إنهما بمعنى وأن المراد الأكل من الشجر . قال ابن عبد البر . وقيل : رواية الضم معناها الأكل ، ورواية الفتح معناها التعلق . ذكره ابن الجوزي ، وبكل حال فلا يلزم مساواتهم للشهداء في كمال تنعمهم في الأكل والله أعلم .
وقد ذهب طائفة من المتكلمين إلى أن الروح عرض لا تبقى بعد الموت وحملوا ما ورد من عذاب الأرواح ونعيمها بعد الموت على أحد أمرين : إما أن العرض الذي هو الحياة يعاد إلى جزء من البدن أو على أن يخلق في بدن آخر وهذا الثاني باطل قطعاً ، لأنه يلزم منه أن يعذب بدن غير بدن الميت مع روح غير روحه ، فلا يعذب حينئذ بدن الميت ولا روحه ولا ينعمان أيضاً وهذا باطل قطعاً والأول باطل أيضاً بالنصوص الدالة على بقاء الروح منفردة عن البدن بعد مفارقتها له وهي كثيرة جداً ، وقد سبق ذكر بعضها .
427- 
وقد احتج بعضهم على فناء الأرواح وموتها بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المقابر قال " السلام عليكم أيتها الأرواح الفانية والأبدان البالية والعظام النخرة , التي خرجت من الدنيا وهي بالله مؤمنة ، اللهم ادخل عليهم روحاًً منك وسلاماً منا " وهذا حديث خرجه ابن السني من حديث عبد الوهاب بن جابر التيمي حدثنا حبان بن علي عن الاعمش عن أبى عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يثبت رفعه وعبد الوهاب لا يعرف وحبان ضعيف , لوصح حمل على أنه أراد بفناء الأرواح ذهابها من الأجساد المشاهدة كما في قوله تعالى { كل من عليها فان } وبعض الأبدان باقية كأجساد الأنبياء وغيرهم وإنما تفارق أرواحها أجسادها ، وذكر عن ابن عباس أنه سئل أين تكون الأرواح إذا فارقت الأجساد ؟ فقال : أين يكون السراج إذا طفي والبصر إذا عمي ولحم المريض إذا مرض ؟ فقالوا : إلى أين ؟ قال : فكذا الأرواح . وهذا لا يصح عن ابن عباس والله أعلم .
البابُ العاشر
في ذكر ضيق القبور وظلمتها على أهلها وتنورها عليهم بدعاء الأحياء وما ورد من حاجة الموتى إلى دعاء الأحياء وانتظارهم لذلك
وقد تقدم في الباب الثاني أن القبر يقول : أنا بيت الظلمة وبيت الضيق إلا ما وسع الله .
429- 
قال ابن المبارك وحدثنا صفوان بن عمرو حدثني سليم بن عامر قال : خرجنا في جنازة على باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة : إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تغنمون فيه الحسنات والسيئات توشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحشة وبيت الظلمة وبيت الضيق إلا ما وسع الله ثم تنتقلون منه ِإلى يوم القيامة .
430- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلمة بن سعيد قال : كان هشام الدستوائي إذا ذكر الموت يقول : القبر ، وظلمة القبر ، ووحشة القبر ، فلما مر بعض إخوانه إلى جنبات قبره قال : يا أبا بكر والله صرت إلى المحذور . وروى بإسناده عن امرأة هشام الدستوائي قالت : كان هشام إذ طفىء المصباح غشيه من ذلك أمر عظيم فقلت له : إنه يغشاك أمر عظيم عدن المصباح إذا طفىء قال : إني أذكر ظلمة القبر ، ثم قال : لو كان سبقتني إلى هذا أحد من السلف لأوصيت إذا مت أن أجعل في ناحية من داري قال : فما مكثنا إلا يسيراً حتى مات قال : فمر بعض إخوانه به في قبره فقال : يا أبا بكر صرت إلى المحذور .
431- 
وقال الحسن بن البراء حدثني عبد الوهاب بن غياث حدثتني جمعة جارة لهشام الفردوسي قالت : كان هشام إذا رجع من جنازة لم يتعش تلك الليلة وكان لا ينام إلا في بيت سراج قال : فطفىء سراجه ذات ليلة فخرج هارباً فقيل له : ما شأنك قال : ذكرت ظلمة القبر .
432- 
وروينا حديث خالد بن خداش قال : كنت أقعد إلى أشيم البلخي عم قتيبة وكان أعمى وكان يحدث ويقول : أواه القبر وظلمته ، واللحد وضيقه ، وكيف أصنع ؟ ثم يخشى عليه ، ثم يعود فيحدث فيصنع مثل ذلك مرات حتى يقوم .
433- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن وهيب بن الورد قال نظر ابن مطيع يوماً إلى داره فأعجبه حسنها فبكى ثم قال : والله لولا الموت لكنت بك مسروراً ولولا ما نصير ] إليه ] من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا ثم بكى بكاء شديداً حتى ارتفع صوته .
434- 
وبإسناده عن الفيض بن إسحاق قال : قال لي الفضيل بن عياض : أرأيت لو كانت لك الدنيا فقيل لك : تدعها ويوسع لك في قبرك ما كنت تفعل ؟ قال فقال : فضيل أليس تموت وتخرج من أهلك ومالك وتصير إلى القبر وضيقه وحدك ثم قال : { فما له من قوة ولا ناصر } ثم قال : إن كنت لا تعقل هذا فما في الأرض دابة أحمق منك . قال :
435- 
وأخبرنا محمد بن الحسين حدثني محمد بن حرب المكي قال : قدم علينا أبو عبد الرحمن العمري العابد فاجتمعنا إليه وأتاه وجوه أهل مكة قال : فرفع رأسه فنظر إلى القصور المحدقة بالكعبة فنادى بأعلى صوته : يا أصحاب القصور المشيدة اذكروا ظلمة القبر يا أهل النعيم والتلذذ اذكروا الدود والصديد وبلى الأجساد في التراب قال : ثم غلبته عيناه فنام .
436- 
وقال : في كتاب " العزلة " : حدثنا حسن بن عبد الرحمن عن رجل قال : دخلت على رجل بالمصيصة في بيته فيه فرشه وقماشة ، فقلت : أما يضيق صدرك من هذا فبكى وقال : إذا ذكرت القبر وظلمته اتسع هذا عندي ولهيت عن غيره .
437- 
وذكر بإسناد له أن سعيد بن عبد العزيز دخل على سليمان الخواص فقال : مالي أراك في الظلمة ؟ قال : ظلمة القبر أشد .
438- 
قال أبو الحسن بن البراء : حدثنا أبو حمزة الأنصاري حدثني أبو المضرجي قال : خرجت غازياً فمررت ببعض حصون الشام ليلاً فوجدت باب الحصن مغلقاً ومقبرة على الباب ، فبت بجنب المقبرة بالقرب من قبر محفور فلما نمت إذا بهاتف من القبر وهو يقول شعراً :
أنعم الله بالخيـالين عينا وبمسراك يا أميم إلينا
عجباً ما عجبت من ثقل التر ب ومن ظلمة القبور علينـا
قال : فانتبهت فإذا بالباب قد فتح وإذا بجنازة يقدمها شيخ فقلت له : ما هذه الجنازة ؟ قال : جنازة ابنتي قلت : ما اسمها ؟ قال أميمة . قلت : القبر محفور لمن ؟ قال قبر ابن أخي وكان زوجها فتوفي ، فدفنته ثم توفيت ابنتي فجئت أدفنها ، فأخبرته بما سمعت من الهاتف في القبر .
439- 
وخرج ابن أبى الدنيا من طريق مجالد عن الشعبي قال كان صفوان بن أمية في بعض المقابر فإذا شعل نيران قد أقبلت ومعها جنازة فلما دنوا من القبر قال : انظروا قبر كذا وكذا قال : وسمع رجل صوتاً من القبر حزيناً موجعاً يقول شعراً :
أنعم الله بالظعينة عينا وبمسراك يا منين إلينا
جزعاً ما جزعت من ظلمة القب ر ومن مسك التراب منينا
فأخبر القوم بما سمع فبكوا حتى خضبوا لحاهم ثم قالوا : هل تدري من منينة ؟ قال : لا . قالوا : صاحبة هذا السرير . وهذه أختها ماتت قبل عام أول .
440- 
وخرج ابن المنذر الهروي المعروف بيشكر في كتاب " العجائب " له من طريق أبي حمزة اليماني قال : جاء رجل إلى طلحة بن عبد الله بن عثمان بن معمر في الجاهلية فقال : إني رأيت عجباً مررت بقبور فنمت فسمعت قائلاً من القبر يقول شعراً :
أنعم الله بالظعينة عينا وبمسراك يا منين إلينا
نفساً ما نفست من ظلمة القب ر ومن مسك التراب منينا
فانتبهت فإذا أنا بأهل جنازة فقمت إليهم فأخبرتهم فقالوا : هذه منين وهذه أختها فدللتهم على القبر فدفنوها إلى جانبها ، وبإسناده عن إسماعيل بن راشد قال : حجت امرأة ، فماتت في بعض المنازل ، فلما كان من العام القابل حجت أخت لها فماتت في ذلك المكان فجهزوها وأخرجوها ليدفنوها فبينما هم يطلبون قبر أختها ورجل قد سرى ليله فأتى القبور فرمى بنفسه فنام فيها فاستيقظ فقال : ما تطلبون قالوا : قبراً قال : هو تحتي . قالوا : وما علمك ؟ قال سمعت قائلاً يقول :
يا منينا يا منينتي يا منينا أنعم الله بالظعينة عينا
نفسا مانفست من نفس القبـ ـر ومن مسك التراب منينا
لم نجد بعدكم منين رجاء أقبل الدهر بالغناء علينا
قال : فدفنت إلى جانبها .
441- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أمينة بنت عمران بن يزيد قالت : رأيت أبي في منامي فقلت : يا أبت لا عهد لي بك منذ فارقتنا . قال : يا بنية وكيف تعهدين من فارق الحياة إلى ضيق القبور وظلمتها ؟ قالت : فقلت : كيف حالك منذ فارقتنا قال : خير حال يا بنية بوّئنا المنازل ، ومهدت لنا المضاجع ، ونحن هنا يغدا علينا ويراح برزقنا من الجنة . قلت : فما الذي بلغكم هذا قال : الصبر الصالح وكثرة التلاوة لكتاب الله عز وجل . وخرج أبو نعيم بإسناد له عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول في موعظة له طويلة يذكر فيها أهل القبور : أليسوا في مدلهمة ظلماء أليس الليل والنهار سواء ؟
442- 
قال أبو الحسن بن البراء أنشدنا إسماعيل بن إدريس السمار لأبي العتاهية يبكي على نفسه في مرثية .
لأبكينَّ على نفسي وحق ليه يا عين لا تبخلي عني بعبرتيه
لأبكين لفقدان الشباب فقد جد الرحيل عن الدنيا برحلتيه
يا نأي منتجعي يا هول مطلعي يا ضيق مضطجعي يا بعد شقنيه
المال ما كان قدامي لآخرتي مالاً أقدم من مالي فليس ليه
فصل
443- 
وقد روى ابن أبي الدنيا من طريق أبي غطفان المري قال : قال عمر : يا رسول الله لو فزعتنا أحياناً لفزعنا فكيف بظلمة القبر وضيقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما يبعث العبد على ما قبض عليه " وهذا مرسل .
444- 
وبإسناده عن وهب بن منبه . قال : كان عيسى عليه السلام واقفاً على قبر ومعه الحواريون وصاحبه يدلى فيه فذكروا القبر ووحشته وضيقه وظلمته قال عيسى عليه السلام : قد كنتم في أضيق منه أرحام أمهاتكم فإذا أحب الله أن يوسع وسع .
445- 
وبإسناده عن جعفر بن سليمان قال : شهد رجل يدلى في حفرتة فقال : إن الذي يسهل على الجنين في بطن أمه قادر أن يسهل عليك ، قال : وقال بعضهم : شبل ابن عورة هو المتكلم بهذا .
446- 
وخرج الإمام أحمد حديث الأسود الذي كان ينظف المسجد فمات فدفن ليلاً فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر فقال : " انطلقوا إلى قبره " فانطلقوا فقال إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن الله عز وجل ينورها بصلاة عليها فأتى القبر ، فصلى عليه .
وخرج مسلم نحوه من حديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن قد قيل : إن آخره مدرج في حديث أبي هريرة .
447- 
وروى محمد بن حميد الرازي ثنا مهران بن [ أبى ] عمر ثنا سفيان عن علقمة ابن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر حديث عهد بدفن ومعه أبو بكر وعمر فقال : قبر من هذا ؟ قال أبو بكر : هذه يا رسو الله أم محجن كانت مولعة بأن تلتقط الأذى من المسجد قال : ألا آذنتموني قالوا : قد كنت نائما فكرهنا أن نجهدك ، قال : فلا تفعلوا فإن صلاتي على موتاكم تنور لهم في قبورهم . قال: فصف بأصحابه فصلى .
448- 
وقد ذكرنا فيما تقدم عن أبى قلابه أنه راى ميتا في نومه فقال له : جزى أهل الدنيا خيرا أقرأهم منا السلام فإنه يدخل علينا من دعائهم نور مثل الجبل .
449- 
وقال ابن أبى الدنيا حدثنا أبو عبد الله بن يحير حدثني بعض أصحابنا قال : رأيت أخا لي في النوم بعد موته فقلت : أيصل إليكم دعاء الأحياء قال: أي والله يترفرف مثل النور ثم يلبسها .
450- 
وروى بإسناده عن بشار بن غالب البحراني قال : رأيت رابعة العدوية في منامي وكنت كثير الدعاء لها فقالت لي : يا بشار بن غالب هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير ، قالت : هكذا دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا للموتى فستجيب لهم جعل ذلك على أطباق النور وخمر بمناديل الحرير ، ثم أتى به إلى الذي دعا له من الموتى فقيل : هذه هدية فلان إليك .
451- 
وبإسناده عن عمرو بن جرير قال : إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه ملك في قبره فقال له : يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ شفيق عليك . وبإسناده عن بشر بن منصور قال : كان رجل يختلف إلى الجبان زمن الطاعون فيشهد الصلاة على الجنائز فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال : آنس الله وحشتكم ورحم الله غربتكم وتجاوز عن سيئاتكم وقبل الله حسناتكم . لا يزيد على هذه الكلمات قال : فإذا أمسيت ذات ليلة فانصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر فدعو كما كنت أدعو قال : فبينما أنا نائم إذا أنا بخلق كثير قد جاؤني فقلت لهم : ما جاء بكم ؟ قالوا نحن أهل المقابر . قلت : وما تريدون ؟ قال : إنك كنت عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك قلت : وما هي ؟ قال: الدعوات التي كنت تدعو بها . قال : فقلت : إني أعود لذلك فما تركتها بعد .
452- 
وبإسناده عن سفيان بن عينية قال : كان يقال : الأموات أحوج إلى الدعاء من الأحياء إلى الطعام .
453- 
وبإسناد له عن بعض المتقدمين قال : مررت بالمقابر فترحمت عليهم فهتف هاتف : نعم فترحم عليهم فإن فيهم المهموم والمحزون .
454- 
وروى جعفر الخلدي عن العباس بن يعقوب بن صالح الأبياري سمعت أبى يقول : رأى بعض الصالحين أباه في النوم فقال : يا بني لم قطعتم هديتكم عنا قال : يا أبت وهل تعرف الأموات هدية الأحياء ؟ قال : يا بني لولا الأحياء هلكت الأموات ، نسأل الله العفو والغفران .
الباب الحادي عشر
في ذكر زيارة الموتى والاتعاظ بهم
455-
وخرج مسلم في صحيحه من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ] فإنها تذكركم الآخرة[ ".
456- 
وخرجه الإمام احمد بلفظ آخر : " فزوروها فإن في زيارتها عبرة وعظة ".
457- 
وخرجه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة " .
457- 
وخرج الإمام أحمد من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نهيتكم عن زيارة القبور ، ثم بدا لي أنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة فزوروها ولا تقولوا هجراً " .
458- 
وخرج مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي فزوروها فإنها تذكر الموت " .
469- 
وخرج الحاكم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من زار القبور تذكر بها الآخرة ، وغسل الموتى فإن معالجة جسد الميت وعظة بليغة، وصل على الجنائز ؛ لعل ذلك يحزنك ، فإن الحزين في ظل الله تعالى يتعرض كل خير " .
460- 
وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده عن ثابت البناني قال بينما أنا أمشي في المقابر إذ أنا بهاتف من واد : يا ثابت لا يغرنك سكوتها فكم من مغموم فيها قال : فلتفت فلم أجد أحداً .
461- 
وبإسناد عن بشر بن منصور قال : قال لي عطاء الأزرق : إذ حضرت المقابر فليكن قلبك فيمن أنت بين ظهرانيه فإني بينما أنا نائم ذات ليلة في المقابر تفكرت في شيء فإذا أنا بصوت يقول : إليك يا غافل إنما أنت بين ناعم في نعمته يتذلل أو معذب في سكراته يتقلب .
462- 
وبإسناده عن صالح المري قال : دخلت المقابر [ يوماً ] في شدة الحر فنظرت إلى القبور خامدة كأنهم قوم سموت فقلت : [ يا ] سبحان الله من يجمع بين أرواحكم وأجسادكم بعد افتراقها يحيكم وينشركم من بعد طول البلى قال فنادني مناد من بين تلك الحفر : يا صالح { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } قال : وسقط والله لوجهي جزعاً من ذلك الصوت .
463- 
وبإسناد له أن عمر بن عبد العزيز خرج مع جنازة فلما دفنها ]قال : دعوني حتى آتي قبور الأحبة قال : فأتاهم فجعل يدعوا ويبكي إذ هتف به التراب: يا عمر لا تسألني عما فعلت بلأحبة وما فعلت بهم ؟ قال : مزقت الأكفان واكلت اللحم ، شدخت المقتلين ، وأكلت الحدقتين ، ونزعت الكفين من الساعدين ، والساعدين من العضلين والعضلين من المنكبين ، والمنكبين من الصلب ، والقدمين من الساقين ، والساقين من الفخذين ، والفخذين من الورك ، والورك من الصلب ، قال : وعمر يبكي فلا أراد أن ينهض قال له التراب : يا عمر ألا أدلك على أكفان لا تبلى ؟ قال : وما هي : تقوى الله والعمل الصالح .
464- 
وبإسناده أن أبا الدرداء مر بين القبور فقال : يا تراب ما أسكن ظواهرك ، وفي داخلك الدواهي .
465- 
وبإسناده له عن ميمون بن مهران قال : خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقابر فلما نظر إلى القبور بكى ثم قال يا أيوب هذه قبور أبائي بني أمية ، كأنهم لم يشركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشتهم ، أما تراهم صرعي فدخلت بهم المثلات ، واستجكم فيهم البلاء ، فأصابت الهوان في أبدانهم مقيلاً ، ثم بكى حتى غشي عليه ثم أفاق فقال : فانطلق بنا فوالله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله عز وجل .
466- 
عن ثابت البناني أنه دخل المقابر فبكى فقال : بليت أجسامهم وبقيت أخبارهم فالعهد قريب ، واللقاء بعيد . وعن بعض الأعراف أنه وقف على قبر وأنشد في المعنى :
لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون القبور تزيد
وما إن ترى داراً لحي قد أقفرت وقبر لميتة بالفناء جديد
فهم جيرة الأحياء أما محلهم فدان وأما الملتقى فبعيد
وعن بعضهم أنه مر في سفره بمقبرة لبعض المدن فقال :
كفى حزناً أن لا ببلدة من الأرض إلا دون مدخلها قبر
467- 
وعن جعفر بن سليمان قال : كنا نخرج مع مالك بن دينار زمان الحطمة فنجمع الموتى ونجهزهم فيخرج مالك على حمار قصير لجامه من ليف وعليه عباءة مرتديها فيعظنا في الطريق حتى إذا أشرف على القبور قال بصوت له محزون رحمة الله عليه نفعنا الله بأقرب الخلق إليه :
إلا حي القبور ومن بهنه وجوه في التراب أجبنهنه
ولو أن القبور أجبن حياً إذاً لأجبتني إذا نصته
ولكن القبور صمتن عني فأنت تحسره من عند هنه .
قال حدثنا يحيى عن عبد الله بن جعفر بن سليمان امير البصرة فمر به رجل كان يعظ الناس فقال له عبد الله : عظني ببيت من الشعر فقال :
إذا ثوى في القبور ذو خطره فذره فيها ولا تنظر إلى خطره
فبكى عبد الله بن جعفر وكان ابن السماك يتمثل بهذا البيت ويزيد فيه بيتاً آخر :
أبرزه الموت من مساكنه ومن مقاصيره ومن حجره
468- 
قال ابن أبي الدنيا ثنا إسماعيل بن عبد الله العجلي قال : أنشدنا رجل ونحن بالمقابر :
ألا يا عسكر الأحياء هذا عسكر الموتى
أجابوا الدعوة الصغرى وهم ينتظرون الكبرى
يحثون على الزاد وما زاد سوى التقوى
يقولون لكم جدوا فهذا آخر الدنيا
479- 
قال : وحدثنا أبو الفضل بن جعفر ثنا غزوان بن عبد الرحمن بن غزوان قال : كنت جالساً مع أبي بالبصرة إذ أقبل شيخ على حمار في عنقه حبل ليف والشيخ حاف ، عليه صوف حتى وقف علينا فسلم على أبي فأحفى أبي بالمسلة به وقال : من أين أقبلت ؟ قال : فكرت في أهل هذا العسكر ليلاً فغدوت عليهم فقلت:
وعظتك أحداث صمت ، وبكل ساكنة حفت
وتكلمت عن أعظم ابتلاء وعن صور سهت
وأرتك قبرك في القور و أنت حي لم تمت .
ثم ولى غير بعيد ، ثم أقبل فقال : ولربما انصرفت الشمات فحل بالقوم الشمت فقلت : هذا الشيخ هو أبو العتاهية و الأبيات معروفة .
470- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلام بن صالح قال : فقد الحسن ذات يوم فلما أمسى قال له أصحابه : أين كنت ؟ قال : كنت اليوم عند إخوان لي إن نسيت ذكروني ، وإن غبت عنهم لم يغتابوني ، فقال له أصحابه : نعم الإخوان والله هؤلاء يا أبا سعيد دلنا عليهم قال : هؤلاء أهل القبور.
471- 
وبإسناده عن عبد الواحد بن زيد أن الحسن قال لأصحابه ، وهم في المقابر هم أهل محلة قد كفى من جلس إليهم الكلام وله في الجلوس إليهم الموعظة و الاعتبار .
472- 
وروى بإسناد منقطع أن علي بن أبي طالب قيل له : ما شأنك جاورت المقبرة ؟ قال إني أجدهم جيران صدق يكفون الألسن ويذكرون الآخرة .
473- 
وبإسناده عن عمارة المغربي قال : قال لي محمد بن واسع : ما أعجب إلى منزلك قلت ! وما يعجبك من منزلي وهو عند القبور ؟! قال : وما عليك يكفون الأذى ، ويذكرون الآخرة .
474- 
وبإسناده عن ميمون بن مهران قال : قال أبو الدرداء : إن لكم تعانينه الدارين لعبرة ، تزورونهم ولا يزورونكم ، وتنتقلون إليهم ولا ينتقلون إليكم يوشك أن تستفرغ هذه ما في هذه .
475- 
وبإسناده عن الحسن بن عثمان بن أبي العاص كان في جنازة فرأى قبراً خاسفاً فقال لرجل من أهله : يا فلان تعالى انظر إلى بيتك الذي هو بيتك قال : فقال : ما أرى في بيتي طعاماً ولا شراباً ولا ثياباً ، قال فإنه بيتك قال : صدقت ، قال : فرجع فقال : والله لأجعلن ما في بيتي هذا في بيتي ذاك ، قال الحسن : هو والله التشدد و الهلكة والله لتبصرن أو لتهلكن ، وفي رواية قال : أراه ضيقاً يابساً مظلماً ليس فيه طعام ولا شراب ولا زوجة وقد نزلت بيتاً فيه طعام وشراب وزوجة قال : قال : والله بيتك ، قال : وصدقت أما والله لو قد رجعت نقلت من ذلك إلى هذا.
476- 
وعن ابن شوذب قال : اطلعت امرأة إلى قبر فرأت اللحد فقالت لامرأة معها : ما هذا ؟ يعني اللحد ، قالت : هذا كندوج العمل ، قال : وكانت تعطيها الشيء وتقول : اذهبي فضعي هذا في كندوج العمل .
477- 
وعن الحسن أنه مر على مقبرة فقال : يا لهم من عسكر ما أسكتهم ، وكم فيهم من مكروب.
478- 
وعن الفضل الرقاشي أنه كان إذا ذكر زهد في الدنيا يقول : مررت بالمقابر فوقفت فناديت : يا أهل الشرف والغناء والتباهي ، يا أهل اللباس والنجدة والأمن والزجول و يا أهل المسئلة والحاجة والفاقة ويا أهل النسك والإخبات والإنابة والاجتهاد فما ردت على فرقة منهم ، ولعمري إن لم يكونوا أجابوا جواباً لقد أجابوا اعتباراً .
489- 
وعن مالك بن دينار قال : خرجت أنا وحسان بن أبي سنان نزور المقابر فلما أشرف عليها سبقته عبرته ، ثم أقبل عليّ فقال : يا يحيى هذه عساكر الموتى ينتظرون بها من بقي من الأحياء ثم يصاح بهم صيحة ، فإذا هم قيام ينظرون ، فوضع مالك يده على رأسه ، وجعل يبكي .
480- 
وعن عاصم الحيطي قال : كنت أمشي مع محمد بن واسع ، فأتينا المقابر، فدمعت عيناه ، ثم قال : يا عاصم لا يغرنك ما ترى من خمودهم ، فكأنهم وقد وثبوا من هذه الأجداث ، فمن بين مسرور ومهموم .
481- 
وعن ابن السماك قال : لا يغرنك سكوت هذه القبور فما أكثر المغمومين فيها ولا يغرنك آسفووها فما أشك بقاهم فيها .
482- 
وعن أبي حازم الأعرج أنه شهد جنازة فوقف على شفير القبر فجعل ينظر إليه ثم رفع رأسه فقال لبعض أصحابه : ما ترى قال : أرى حفرة يابسة وأرى جنادل ، قال أبو حازم : أما والله لتحمدنه إلى نفسك أو لتكونن معيشتك فيه معيشة ضنكاً فبكى بكاءاً شديداً .
483- 
وعن حسين الجعفي قال : أتى رجل قبراً محفوراً ، فاطلع في اللحد ، فبكى واشتد بكاؤه قال : أنت والله بيتي حقاً ، والله إن استطعت لأعمرنك .
484- 
وعن عطاء السلمي أنه كان إذا جن عليه الليل خرج ، فوقف على القبور ، ثم قال : يا أهل القبور متم فوا موتاه ثم بكى ثم قال : يا أهل القبور عاينتم ما علمتم فوا عملاه ثم يبكي فلا يزال كذلك حتى يصبح .
485- 
وعن علي بن أحمد قال : كان الأسود بن كلثوم يخرج إلى المقابر إذا هدأت العيون ، فيقول . يا أهل الغربة والتربة ، يا أهل الوحدة والبلى ، ثم يبكي حتى يكاد يطلع الفجر ، ثم يرجع إلى أهله .
486- 
وعن ثابت البناني قال : دخلت المقابر فقلت : يا أهل القبور ، فلم يجبني أحد ، ثم قلت : يا أهل القبور ، فلم يجبني أحد ، ثم أجاب عقلي : نحن مثلك كنا وأنت وكما نكون نحن تكون .
487- 
قال ابن أبي الدنيا وحدثنا إبراهيم بن سيار قال : قيل لبعض حكماء العرب ما أبلغ العظات ، قال : النظر إلى محلة الأموات ويروى نحو هذا الكلام عن عمر بإسناد ضعيف .
488- 
وكان العمري الزاهد يلازم المقابر ومعه كتاب لا يفارقه فقيل له في ذلك ، قال : ما شيء أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب ولا أسلم من الوحدة .
490- 
وقال أبو محرز الطفاوي كفتك القبور مواعظ الأمم السالفة .
491- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن محمد بن صالح التمار قال : كان صفوان بن سليم يأتي البقيع في الأيام ، فمر بي فاتبعته ذات يوم وقلت والله لأنظرن ما يصنع قال والله فرفع رأسه وجلس إلى قبر منها فلم يزل يبكى حتى رحمته قال : ظننت أنه قبر بعض أهله , قال فمر بي فأتبعته فقعد إلى جنب قبر غيره فقال مثل ذلك , قال : فذكرت ذلك لمحمد بن المنكدر وقلت : إني ظننته أنه قبر بعض أهله , وقال محمد : كلهم أهله وأخوان إنما هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات كلما عرضت له قسوة ، ثم جعل محمد بن المنكدر يمر بي فيأتي البقيع فسلمت عليه ذات يوم ، فقال : ما يقنعك موعظة صفوان ؟ قال : فظننت أنه انتفع بما ألقيت إليه منها .
492- 
وعن مطرف الهذلي قال : كانت عجوز متعبدة في عبد القيس فعوتبت في كثرة إتيانها ، فقالت : إن القلب القاسي إذا جف لم يلينه إلا رسوم البلى وإني لآتي القبور وكأني أنظر إليهم قد خرجوا من بين أطباقها ، وكأني أنظر إلى تلك الوجوه المعفرة , وإلى تلك الأجسام البالية المقفرة ,وإلى تلك الأكفان الدلسة فيا له من منظر.
493- 
ولأبى العتاهية :
إني سألت التراب : ما فعلت بعدي بجسد وقع فيه الدود متعفرة
فأجابني : صيرت ريحهم يؤذيك بعد روائح عطرة
وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نضرة
لم يبق غير جماجم عريت بيض تلوح أو أعظم نخرة
494- 
قال ابن أبي الدنيا ثنا محمد بن الحسين قال : قال أبو إسحاق : شهدت جنازة رجل من إخواني منذ خمسين سنة فلما دفن وسوي عليه التراب وتفرق الناس ، جلست إلى بعض تلك القبور ففكرت فيما كانوا فيه من الدنيا وانقطاع ذلك كله عنهم فأنشدت أقول :
سلام على أهل القبور الدوارس كأنهم لم يجلسوا في المجالس
ولم يشربوا من بارد الماء شربة ولم يأكلوا من بين رطب ويابس
ألا خبروني : أين قبر ذليلكم وقبر العزيز الباذخ المتمارس
وغلبتني عيناي فقمت وأنا محزون .
495- 
قال ابن أبي الدنيا وأنشد الرياشي رحمه الله تعالى أبياتاً خمسة فقال :
تهيج منازل الأموات وجدا ويحدث عن رؤيتها اكتئاب
منازل لا يجيب حين تدعو وعز عليك أنك لا تجاب
وكيف يجيب من تدعوه ميتاً تضمنت الجنادل والتراب
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه لقاؤك لا يرجى وأنت قريب
تزيد بلى في كل يوم وليلة وتنسى كما تبلى وأنت حبيب
496- 
وروى أبو نعيم بإسناد له أن داود الطائي اجتاز على مقبرة وامرأة عند قبر تقول هذين البيتين فسمعها فكان ذلك سبب توبته يعني سبب انقطاعه عن الدنيا وأسبابها وانشغاله بالآخرة والاستعداد لها . وسمع بكر العابد امرأة عند قبر تقول:
واعمراه ليت شعري بأي خديك ] بدأ ] البلى وأي عينيك سالت قبل الأخرى ، فخر بكر مغشياً عليه . أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذكر الأموات " .
497- 
وروى في كتاب " الخائفين " عن محمد بن الحسين عن عبد الله بن موسى قال :كان الحسين بن صالح إذا صعد المنارة - يعني ليؤذن - أشرف على المقابر فإذا نظر إلي الشمس تمور على القبور صرخ حتى يسقط مغشياً عليه ، فيحمل وينزل به ، وشهد يوماً جنازة فلما قرب الميت ليدفن نظر إلى اللحد فارتاع عرقاً ، ثم مال ، فغشي عليه ، فحمل على سرير الميت ، فرد إلى منزله .
498- 
وذكر بإسناد عن عيسى بن يونس - وذكر الحسين بن صالح - فقال : قل ما كنت أجيء في وقت صلاة إلا رأيته مغشيا عليه ينظر إلى المقبرة فيصرخ ويغشى عليه .
499- 
وبإسناده عن عمر بن درهم القريعي دخل المقابر وهو معصوب العين وابنه يقوده فوطىء على قبر وقال يا بني أين أنا ؟ قال في الجبان يا أبتاه قال : هاه ثم خر ميتا فحمل إلى أهله من المقابر ميتا ، فغسل ، ثم رد إلى المقابر، فدفن .- وروى في كتاب " القبور" بإسناد له أن امرأة بالمدينة كانت تزهو فدخلت يوما المقابر ، فرأت جمجمة ، فصرخت ثم رجعت منيبة ، فدخل عليها نساؤها فقلن ما هذا ؟ فقالت : بكى قلبي لذكر الموت لما رأيت جماجم خوف القبور، ثم قالت : أخرجن من عندي فلا تأتين منكن امرأة إلا امرأة ترغب في خدمة الله عز وجل ثم أقبلت على العبادة حتى ماتت .
500- 
وبإسناده عن عيسى الخواص أن رجلا من الصدر الأول دخل المقابر ، فمر بجمجمة بادية من بعض القبور ، فحزن حزنا شديدا ، ثم واراها ، ثم التفت فلم ير إلا القبور ، فحدث نفسه فقال : لو كشفت عن بعضهم فسألته ما رأى قال فأتى في منامه فقيل له : لا تغتر بتشييد القبور من فوقهم ، فإن القوم بليت خدودهم في التراب فمن بين مسرور ينتظر ثواب الله عز وجل وبين مغموم آسفا على عقابه ، فإياك والغفله عما رأيت ، فاجتهد الرجل بعد ذلك اجتهادا شديدا حتى مات .
501- 
وبإسناده عن جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : رأى رجل جمجمة إنسان فحدث نفسه بشيء فخر ساجدا نادما مما حدث به نفسه فقيل له : ارفع رأسك فأنت أنت وأنا أنا .
502- 
وعن جعفر قال : سمعت أبا عمران الجوني يقول : نودي ارفع رأسك فإنك ابن آدم وأنا الله ، تتوب ، وأعود إليك ، فصلِّ .
503- 
خرج ابن ماجه والترمذي من حديث هانىء مولى عثمان قال : كان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته ، فقيل له : تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا ؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القبر أول منازل الاخرة فإن نجا منه فما بعده ايسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه " .
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظراً قطُّ إلا والقبر أفظع منه " .
504- 
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث البراء بن عازب قال : بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر بجماعة فقال علام اجتمع هؤلاء ؟ قيل : على قبر يحفرونه . قال : فبدى بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثى عليه قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع ، فبكى حتى بل الثرى من دموعه ثم أقبل إلينا فقال : " أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا " .
505- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال : مات أخ لنا فلما وضع في القبر جاء صلة بن أشيم حتى أخذ بناحية الثوب ثم قال :
إن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً
506- 
وبإسناده عن خالد بن هلال الوزان قال : قال عبد الله بن رواحة : لا يغرنك الحياة فقدم ، أحذر إن للقبر شأناً ، إن فيه لما يحاذر ذو اللب ، وإن كان ذا نهى أو معاناً ، إنني موقن يا بني عاجل قد لبسو في الأكفانا فإذا ما وضعت في ظلم إلى اللحد ولويت من مكاني مكاناً برجائي البشرى ونور وإلا لقيتني في القبر سقوه وهوانا .
507- 
وبإسناده عن حجاج الأسود قال : رأيت في منامي كأني دخلت المقابر فإذا أنا بأهل القبور في قبورهم ، وقد انشقت الارض عنهم ، منهم النائم على التراب ، ومنهم النائم على الريحان ، ومنهم كهيئت المبتسم في نومه ومنهم من قد أشرق لونه ومنهم حائل اللون ؛ رب لوشئت سويت بينهم في الكرامة ، فناداني مناد من ناحية القبور : يا حجاج هذه منازل الأعمال فاستيقظت من كلمته فزعا فبكيت لما رأيت ذلك في منامي .
508- 
وعن سلمه البصري قال : وقف رجل على قبر قد بني بناء حسنا ، فجعل يتعجب من حسنه ، فلما كان في ليلة أتاه آت في منامه فوقف عليه ، وإذا رجل قد انمحت آثار وجهه فقال شعرا :
أعجبك القبر وحسن البناء والجسم فيه قد حواه البلاء
فاسأل الأموات عن حالهم ينبأك عن ذا ك ذهاب الجلاء
قال : ثم ولا فاتبعته ، فدخل الجبان ، فأتى ذلك القبر ، فانساب فيه .
509- 
وعن سلمة البصري أيضا قال : رأيت مربع بن مسرور العابد في منامي ، وكان كثير الذكر لله ، كثير الذكر للموت ، طويل الإجتهاد ، قال : قلت: كيف رأيت موضعك ؟ فقال : ليس يعلم ما في القبور داخله إلا الإله وساكن الأجداث ، ثم ولى وتركني .
510- 
وبإسناده عن روح بن سلمه الوراق قال : رأيت إبراهيم المجملي في منامي فقلت : في أي الحالات أنت في الاخرة ؟ قال : فبكى ثم قال : ما أطول غموم الموتى في قبورهم . قلت : فأنت كيف حالك ؟ قال: خير حال مرت إلى رضا الله بفضله علي ومنته قال : وكان إبراهيم قد صام .
511- 
يقال له وسيم قال : حدثتني امرأة من أهلي عابدة ، وكانت أصيبت بابن لها فما ترقأ لها دمعة قالت فرأيته بعد الحول في منامي كأنه جالس في قبره في أكفانه ، وقد سقطت في حرفته ، فقلت : هذا ابني والله فدنوت منه كالفزعة من منظره فقلت : يا بني كيف ترى مكانك ؟ فقطب وجهه ثم قال شعرا :
أعجبك القبر وحسن البناء و الجسم فيه قد حواه البلاء
فاسأل الاموات عن حالهم ينبأك عن ذاك ذهاب الجلاء
ثم تمدد في قبره فنظرت الى خط أسود لبس ثم انزو ولا رسن وتطابق القبر قال : فاستيقظت والله وأنا وجلة مما رأيت .
512-
وعن الفضل بن مهلهل أخي الفضل وكان من العابدين قال : كان جليس لنا حسن التخشع والعبادة ، يقال له المجيب وكان من أجمل الرجال فصلى حتى انقطع عن القيام ، وصام حتى أسود ، ثم مرض فمات ، وكان محمد بن المضر الحارثي له صديقا ومات محمد قبله قال : فرأيت محمداً في منامه بعد موت مجيب فقلت : ما فعل أخوك مجيب قال لحق بعمله فكيف وجهه ذاك الحسن قال : أبلاه والله التراب قال : وقلت : كيف وأنت تقول لحق بعمله ؟ قال : يا أخي علمت أن الأجساد في القبور تبلى وأن الأعمال في الآخرة تحيا قلت : يبلون حتى لايبقى منهم شيء ثم يجيؤن يوم القيامة ، إي والله يا أخي يبلون حتى يصيرون رفاتا ثم يحييون عند الصيحة كأسرع من اللهم وأنشد بعضهم :
ما حال من سكن الثرى ما حاله أمسى وقد رثت هناك حباله
أمسى ولا روح الحياة تصيبه أبدا ولا لطف الحبيب يناله
أمسى وقد درست محاسن وجهه وتفرقت في قبره أوصاله
واستدلت منه المجالس عبرة وتقسمت من بعده أمواله
مازالت الأيام تلعب بالفتى والمال يذهب صفوه وحلاله
513- 
وروى البراء بإسناده عن الفضيل بن عياض قال : رأيت رجلاً يبكي ، قلت : وما يبكيك ؟ قال : أبكاني كلامه قلت : ما هو ؟ قال : كنا وقوفاً في المقابر فأنشدوا :
أتيت القبور فسألناها أين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه وأين القوي إذا ما قدر
ففاتوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك في ما مضى معتبر
تروح وتغدو وأبلاك الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
514- 
وقد روي عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار أنه قال : أتيت القبور فناديتها فذكر الأبيات الثلاثة ثم قال : فهتف بي هاتف ، تفانوا هناك فما من مخبر وبادوا جميعاً وباد الخبر فذكر الأبيات الثلاثة أيضاً .
515- 
وروى ابن البراء أيضاً بإسناده أن قبراً أصيبت عليه هذه الأبيات مكتوبة :
الموت أخرجني من دار مملكتي فالتراب مضجعي من بعد ترفي
لله عبد رأى قبري فأعبره وخاف من دهره رب التصاريف
استغفر الله من جرمي ومن حنقي وأسأل الله فوزي يوم توفيقي
هكذا مصير بني الدنيا وإن نعموا فيها وغرهم طول التساويف
وروى ابن أبي الدنيا بإسناد له أنه قرأ على قبر بشيراز :
ذهب الأحبة بعد طول تودد ونأى المزار فأسلموك وأتشعوا
خذلوك أفقر ما تكون بغربة لم يؤنسوك وكربك لم يدفعوا
قضى القضاء وصرت صاحب حفرة عند الأحبة عرضوا وتصدعوا
وبإسناد له قال قرىء على قبر بمقابر البصرة مكتوب :
يا غافل القلب عند ذكر المنيات عما قليل ستثوى بين أموات
فاذكر محلك قبل الحلول به وتب إلى الله من لهو وملذات
إن الحمام له وقت إلى أحد فاذكر مصائب أيام وساعات
لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها قد حان للموت ياذا اللب أن يأتي
وقرىء على قبر آخر :
ستعرض عن ذكري وتنسى مودتي ويحدث بعدي للخليل خليل
وقرىء على قبر آخر بالأيلة :
إذا ما نقصت يوماً من العيش مدتي فإن غناء الباكيات قليل
الموت بحر غالب موجه تضيق فيه حيلة السابح نفسي إلى قال ، فاسمع مقالة من خبير :
ما صاحب الإنسان في قبره مثل التقى والعمل الصالح
وقرىء على قبر :
بادر شبابك قبل وقت رحيله واعمل ليومك يا أخا الأشراف
وقرىء على قبر بالأيلة :
ليس للميت في قبره فطر ولا أضحى ولا عشر ، نأى على الأهل على قربه كذاك مصيري قرىء على قبر بالأيلة :
أنا البعيد القريب الدار منظره بين الجنادل والأحجار
وقرىء على قبر ببعض الفلوات :
رحمه الله من بكى لغريب فقد عفى غبر القبر فمحى الحسن والصفاء
وقرىء على قبر :
أنا في القبر وحيد قد تبرأ الأهل مني أسلموني لذنوبي ، خفت إن لم يعف عني
وقرىء على حائط مقبرة :
يا أيها الواقف بالقبور بين أناس غيب حضور
قد سكنوا في خرب مغمورين بين الثرى وجندل الصخر ينظرون صيحة النشور
ولا تك عن مصيرنا في غفلة غداً إلى منزلنا تصير
وفي كتاب " العجائب " ليشكر الحافظ :
قرىء على قبر بطبرستان مكتوب :
أما ترون محلي غداً تصيرون على أبلى التراب شبابي
وكلكم سواء سبيلكم كسبيلي سبيل من كان قبلي
ووجد على قبر مكتوب :
وقفت على الأحبة حين صفت قبورهم كأفراس الرهان
فلما أن بكيت وفاض دمعي رأت عيناي بينهم مكاني
وقرىء على قبر :
ولقد وقفت كما وقفت وقد نظرت فما اعتبرت
حصل لنفسك منزلاً قبل الحصول كما حصلت
وأوصى بعض الوزراء أن يكتب على قبره :
أيها المغرور في الدنيا بعز يقينه ، وبأهل وبمال وبقصر تبتنيه ، كم عليها قد سحبنا ذيل سلطان منيته ، يحسب الأقدار تجري بخلود ترتجيه ، إذا طواك الموت طياً فاعتبرنا نحن فيه .
516 - 
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين حدثني أبو عمر الضمري حدثني عبد الله بن صدقة بن مرداس البكري عن أبيه عن شيخ حدثه بقرية من بلاد أنطابلس قال : كان ثلاثة إخوة : أمير يصحب السلطان ويؤمر على المدائن والجلوس ، وتاجر موسر مطاع من ناحيته ، وزاهد قد تخلى لنفسه وتخلى لعبادة ربه . قال : فحضرت العابد الوفاة فاجتمع عنده أخوانه فقال لهما إذا مت فغسلاني وكفناني وادفناني على نشز من الأرض واكتبا على قبري :
وكيف يلذ العيش من هو عالم بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منه مظلمة لعباده ويجزيه بالخير الذي هو فاعله
فإذا أنتما فعلتما ذلك فأتياني كل يوم لعلكما أن تتعظا . قال : ففعلا ذلك ، فكان أخوه يركب في جنده حتى يقف على القبر فيقرأ ما على عليه ويبكي فلما كان اليوم الثالث وأراد أن ينصرف سمع هدة من داخل القبر ، كاد أن ينصدع لها قلبه، فانصرف مذعوراً فزعاً فلما كان من الليل رأى [ أخاه ] في منامه فقال له أي أخي ما الذي سمعت من قبرك ؟ قال تلك هدة المقمعة قيل لي رأيت : مظلوما ، فلم تنصره ، فأصبح مهموما فدعا أخاه وخاصته وقال : ما أرى أراد بما أوصى أن يكتب على قبره غيري ، وإني أشهدكم أن لا أقيم بين ظهرانيكم أبدا ، قال : فترك الإمارة ولزم الكتابة وكتب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك ، فكتب أن خلوه وما أراد ، فحضرته الوفاة وهو في جبل مع بعض الرعاه فبلغ أخاه فأتاه فقال له إذا مت فادفني إلى جنب أخي وأكتب على قبري :
وكيف يلذ العيش من كان موقنا بأن المنايــا بغتة ستعاجـله
فتسلبـــه ملكـا عظيمـا وتسكنه البيت الذي هو أهله
ثم تعاهدني ثلاثة بعد موتي ، وادعو الله لي لعل الله أن يرحمني ، ومات ففعل به أخوه ذلك فلما كان في اليوم الثالث وأراد أن ينصرف سمع وجبة في قبره كاد أن يذهل عقله ، فرجع حزينا قلقا . فلما كان في الليل إذا بأخيه في منامه قد أتاه قال . فقلت له : أي أخي أتيتنا زائرا قال : يا أخي هيهات بعد المزار فلا مزار ، وأطمأنت بنا الدار قلت : يا أخي كيف أنت ؟ قال : بخير ما أجمع التوبة لكل خير . قال : فكيف أخي ؟ قال : ذلك مع الأئمه الأبرار . قلت : وما أمرنا وراءكم . قال : من قدم شيئا وجده ؛ فاغتنم وجدك قبل نقلك ، فأصبح أخوه معتزلا ففرق ماله وقسمه وباعه ، وأقبل على طاعة ربه ، ونشأ له ابن كأهنأ الشباب وجها وجمالاً فأقبل على المكاسب والتجارة حتى بلغ منها الغاية ، وحضرت الوفاة أباه وقال له : إذا مت تذكر القبور والتفكر في أحوالهم .
الباب الثاني عشر
في استحباب تذكر القبور والتفكير في أحوالهم وذكر أحوال السلف في ذلك
517- 
خرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " استحيوا من الله حق الحياء قالوا : إنا نستحي والحمد لله , قال ليس ذلك ولكن الإستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى , وأن تحفظ البطن وما حوى , ولتذكر الموت والبلى , ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء " .
518- 
وخرج الطبراني نحوه من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه مسلم : أنه قال ذلك على المنبر والناس حوله وقال فيه " وليذكر القبور والبلى " , فما زال يردد ذلك عليهم حتى سمعهم يبكون حول المنبر ". وخرجه أيضاً بنحوه من حديث الحكم بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ويروى نحوه من حديث الحسن مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
519- 
وخرج الترمذي والحاكم من من حديث أسماء بنت عميس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بئس العبد عبد تخيل واختال , ونسي الكثير المتعالي , بئس العبد عبد تجبر واعتداء ونسى الجبار الأعلى , بئس العبد عبد سهى ولهى ونسي المقابر والبلى , بئس العبد عبد عتى وطغى , ونسي المبتدىء والمنتهى , بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين , بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات , بئس العبد عبد طمع يقوده , بئس العبد عبد هوى يضله , وبئس العبد عبد رغب يذله " .
وخرج الطبراني من حديث نعيم بن همار الغطفاني نحوه .
520- 
وخرج ابن أبى الدنيا بإسناد عن الضحاك قال : قال رجل يا رسول الله من أزهد الناس ؟ قال : "من لم ينس القبر والبلى , وترك فضل الدنيا [ الدنية ] وآثر ما يبقى على ما يفنى , ولم يعد غداً من أيامه , وعد نفسه من أهل القبور " .
521-
وخرج الترمذي من حديث ابن عمر قال : " أخذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, ]وعد نفسك من أهل [ ". وخرج البخاري أوله.
522- 
وروى ابن أبي الدنيا بإسناد عن أبي سريج الشامي قال : قال عمر بن عبد العزيز لرجل من جلسائه : يا فلان قد أرقت الليل متفكراً , قال : فيما يا أمير المؤمنين ؟ قال في القبر وساكنه , لو رأيت بعد ثالثه في القبر لاستوحشت من قربه بعد طوال الأنس منك بناحيته , ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام , ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الرائحة وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الرائحة ونقاء الثوب قال : ثم شهق شهقة خر مغشياً .
523- 
وعن محمد بن كعب القرظي قال : بعثت إلى عمر بن عبد العزيز فقدمت إليه فأدمت النظر إليه فقال : يا ابن كعب إنك لتنظر إلي نظراً ماكنت تنظره إليَّ بالمدينة قلت : أجل يا أمير المؤمنين , يعجبني ما حال من لونك وما حال من جسمك قال : فكيف بك يا ابن كعب لو رأيتني بعد ثالثة في القبر , وقد ثبتت عيناي على وجنتي , وخرج الصديد والدود من منخري , لكنت لي أشد نكرة .
524- 
وعن وهب بن الورد قال : بلغنا أن رجلاً فقيهاً دخل على عمر بن عبد العزيز فقال : سبحان الله ,كأنه تعجب من أمره الذي هو عليه , وقال له : تغيرت بعدنا ! فقال له : وبينت ذلك فعلاً ، فقال له : الأمر أعظم من ذلك , فقال له : يافلان فكيف لو رأيتني بعد ثلاث , وقد أدخلت قبري ، وقد خرجت الحدقتان فسالت على الخدين وتقلصت الشفتان عن الأسنان , وانفتح الفم , ونتأ البطن فعلا الصدر , وخرج الصديد من الدبر .
525- 
وعن شبية ابن أبي حمزة قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض مدائن الشام : أما بعد فكم للتراب في جسد ابن آدم من مأكل , وكم للدود فيه من طريق مخترق , وإني أحذركم ونفسي - أيها الناس - العرض على عز وجل .
526- 
وروى أبو نعيم الحافظ بإسناده أن عمر بن عبد العزيز شيع مرة جنازة من أهله , ثم أقبل على أصحابه ووعظهم , فذكر الدنيا فذمها وذكر أهلها , وتنعمهم فيها , وما صاروا إليه بعدها من القبور , فكان من كلامه أنه قال : إذا مررت بهم فنادهم إن كنت مناديا , وادعهم إن كنت داعياً ومر بعسكرهم , وانظر إلى تقارب منازلهم , سل غنيهم : ما بقي من غناه ؟ وسل فقيرهم : ما بقي من فقره ؟ واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون ، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون ، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنع بها الديدان تحت الأكفان ، وأكلت اللحان وعفرت الوجوه ، ومحت المحاسن ، وكسرت الفقارة ، وبانت الأعضاء ، ومزقت الأشلاء ، وأين حجابهم وقبابهم ؟ وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم وكنوزهم [ وكأنهم ] ما وطئوا فراشاًولا وضعوا هنا متكأ ، ولا غرسوا شجراً ولا أنزلوهم من اللحد قراراً ، أليسوا في منازل الخلوات؟
أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء ، قد حيل بينهم وبين العمل ، وفارقوا الأحبة ، وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية ، وأجسادهم من أعناقهم بائنة ، أو وصالهم ممزقة ، وقد سالت الحدق على الوجنات ، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً ، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ، ففرقت أعضاءهم ، ثم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً ، فقد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السعة إلى المضائق ، قد تزوجت نساءهم ، وترددت في الطرق أبناؤهم ، وتوزعت القرابات ديارهم وقراهم ، فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناظر فيه المتنعم بلذته ، يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد ؟ وأين ثمارك الينعة ؟ وأين رقاق ثيابك وأين طيبك ونحورك ، وأين كسوتك لصيفك ولشتاءك ؟؟ أما رأيته قد زل به الأمر ، فلما يدفع عن نفسه دخلاً وهو يرشح عرقاً ويتلمظ عطشاً ، يتقلب في سكرات الموت وغمراته ، جاء الأمر من السماء ، وجاء غالب القدر والقضاء ، هيهات : يا مغمض الوالد والأخ والولد ، وغاسله ، يا مكفن الميت ويا مدخله في القبر ، وراجعاً عنه ، ليت شعري بأي خديك بدأ البلى يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت ، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي .
ثم انصرف فما عاش بعد ذلك إلا جمعة .
527- 
وقد روي عنه من وجوه متعددة أنه قال في آخر خطبة خطبها - رحمة الله عليه - " ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ، ثم يرمها بعدكم الباقون كذلك حتى يرد إلى خير الوارثين ، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً قد قضى نحبه فتودعونه ، وتدعونه في صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد ، قد فارقه الأحباب وخلع الأسباب وسكن التراب ، وواجه الحساب ، غنياً عما خلف ، فقيراً إلى ما قدم .
وكان ينشد هذه الأبيات :
من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخالف الشين والشعثا
و يألف الظل كي تبقى بشاشته فكيف يسكن يوماً راغماً جدثاً
في ظل مقفرة غبراء مظلمة يطيل تحت الثرا في غمه اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
528- 
وروى ابن أبي الدنيا أن محمد بن واسع دخل على بلال بن أبي بردة فسأله عن القدر فقال له : جيرانك من أهل القبور فكر فيهم فإن فيهم شغلاً عن القدر .
529- 
وعن مغيث الأسود الزاهد قال : زوروا القبور كل يوم تفكركم .
530- 
وقال النصر بن المنذر لإخوانه : زوروا الآخرة بقلوبكم ، وشاهدوا الموقف بتوهمكم ، وتوسدوا القبور بقلوبكم ، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة ، فاختار لنفسه [ امرؤ ] ما أحب من المنافع والضرر .
531- 
وقال أحمد بن أبي الحواري : سمعت مضر بن عيسى يقول : رحم الله قوماً زاروا إخوانهم بقلوبهم في قبورهم وهم قيام في ديارهم ، يشيرون إلى زيارتهم بالفكر في أحوالهم .
532- 
وعن عبد الله بن المبارك : مر برجل راهب عند مقبرة ومزبلة ، فناداه . فقال : يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر : كنز الأموال وكنز الرجال .
533- 
وقال ابن أبي الدنيا : ثنا محمد الصبغي قال : انتفض غنام بن علي يوماً وهو مع أصحابه فقال له بعضهم : ما الذي أصابك ؟ قال : ذكرت اللحد .
534- 
قال : وحدثنا محمد بن أحمد قال : قال هشام الدستوائي : ربما ذكرت الميت إذا كفن في أكفانه فأعظ نفسي .
535- 
ومما يروى لابن المبارك :
إن الذي دفن الأباعد و الأقربين صاعداً فصاعداً
عساك يوماً تذكر الملاحدا يا من يرمي أن يكون خالدا
شربت فاعلمه حديداً بارداً لا بد تلقى طيباً و زائداً
536- 
قال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحسين بن عبد الرحمن :
لبيك لأهوال القيامة من بكى و لا تنسين القبر يوما و لا البلى
كفى حزناً يوماً ترى فيه مكرما كرامته أن يرتدوا جسمه الثرى
الباب الثالث عشر
في ذكر كلمات منتخبة من كلام السلف الصالح في الاتعاظ بالقبور ، وما ورد عنهم من ذلك من منظوم ومنثور
537- 
قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : كان أبو بكر الصديق يقول في خطبته : أين الوضاءة الحسنة وجوههم ، المعجبون بشبابهم ، الذين كانوا لا يعطون الغلبة في مواطن الحرب ، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان قد تضعضع بهم ، وصاروا في ظلمات القبور الوحا الوحا النجا النجا .
538- 
وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن أنه مر به شاب ، وعليه بردة له حسنة فقال : ابن آدم معجب بشبابه ، معجب بجماله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك لاقيت عملك ، ويحك ذا وقلبك ، فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم .
539- 
وعن عبد الله بن العيزار قال : لابن آدم بيتان : بيت على ظهر الأرض ، و بيت في بطن الأرض فعمل للذي على ظهر الأرض فزخرفة وزينة ، وجعل فيها أبواباً للشمال ، وأبواباً للجنوب ، وصنع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه ، ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض فأخر به ، فأتى عليه آت فقال : أرأيت هذا الذي أراك قد أصلحته ، كم تقيم فيه ؟ قال : لا أدري . قال فالذي قد أخربته كم تقيم فيه قال : فيه مقامي ، قال : تقر بهذا على نفسك وأنت رجل يعقل ؟!
540- 
وعن الحسن قال : يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط : يوم تبيت مع أهل القبور ولم تبت ليلة قبلها ، وليلة صبيحتها يوم القيامة ويوم يأتيك البشير من الله تعالى ، إما بالجنة أو النار ، ويوم تعطى كتابك بيمينك وإما بشمالك .
541- 
وعن عمر بن ذر أنه كان يقول في مواعظه : لو علم أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية لجدوا واجتهدوا في أيامهم الخالية خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار .
542- 
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال : القبر منزل بين الدنيا والآخرة ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
543-
وعن الحسن قال : أوذنوا بالرحيل ، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون وقال رجل لبعض السلف : أوصني قال : عسكر الموتى ينتظرونك .
544- 
وكان أبو عمران الجوني يقول : لا يغرنكم من ربكم طول النسية ، وحسن الطلب ، فإن أخذه أليم شديد حتى تبقى وجوه أولياء الله بين أطباق التراب إنما هم محبوسون لبقية آجالكم حتى يبعثهم الله إلى جنته وثوابه .
545- 
وعن محمد بن واسع قال : كل يوم ينتقل منا إلى المقابر ثلاثة ، وكأنك بهذا الأمر قد عم أحزناً حتى يلحق منا ولنا .
546- 
شهد الحسن جنازة فاجتمع عليه الناس ، فقال : اعملوا لمثل هذا اليوم - رحمكم الله - فإنما هم إخوانكم يقدمونكم ، وأنتم بالأثر ، أيها المخلف بعد أخيه إنك الميت غداً ، والباقي بعدك ، والميت في أثرك أولاً بأول حتى توافوا جميعاً قد عمكم الموت واستويتم جميعاً في كربة وعصصة ، ثم تخليتم إلى القبور ، ثم تنتشرون جميعاً ثم تعرضون على ربكم عز وجل .
547- 
وقال صفوان بن عمرو : ذكروا النعيم فسموا أناساً ، فقال رجل : أنعم الناس أجساداً في التراب قد أميت ، وبقي ينتظر الثواب .
548- 
وقال مسروق : ما من بيت خير للمؤمن من لحده قد استراح من أمر الدنيا أو من عذاب الله.
549- 
وقال بشر بن الحارث : نعم المنزل القبر لمن أطاع الله .
550- 
وقال الفضل بن غسان : مر برجل بقبر محفور فقال : المقيل للمؤمن هذا
قال : ونظر رجل إلى القبور فقال : أصبح هؤلاء زاهدين فيما نحن فيه راغبون .
551- 
وعن عقبة البزار قال : رأى أعرابي جنازة فأقبل يقول : هنيئاً يا صاحبها فقلت : علام تهنئه ؟‍ قال : كيف لا أهنىء من يذهب به إلى حبس جواد كريم نزله عظيم ، عفوه جسيم ، قال كأني لم أسمع القول إلا تلك الساعة .
552- 
قال ابن أبي الدنيا ]ثنا ] أبو مالك البجلي عن أبي معاوية قال : ما لقيني مالك بن مغول إلا قال لي : لا تغرنك الحياة واحذر القبر إن للقبر شأناً .
553- 
قال : وحدثنا أحمد بن محمد الازدي ثنا خالد بن أحمد بن أسد قال : أخذت بيدي على جبلة يوماً فأتينا أبا العتاهية فوجدناه في الحرم فانتظرناه فلم يلبث أن جاء فدخل عليه إبراهيم بن مقاتل بن سهل وكان جميلاً فتأمله أبو العتاهية وقال متمثلاً :
يا حسان الوجوه سوف تموتون وتبلى الوجوه تحت التراب
فأقبل علي بن جبلة فقال :
أكتب يا مربي شبابه للتراب سوف يأكل البلى بعض الثياب
يا ذوي الوجوه الحسان المصونات وأجسامها الغضاض الرطاب
أكثروا من نعيمها أو أقلوا سوف تهدونها لعفر التراب
قد نعتك الأيام نعياً صحيحاً تفارق الإخوان والأصحاب
فقال أبوالعتاهية : قل يا حامد ، قلت : معك ومع أبي الحسن ، قال : نعم فقلت :
يا مقيمين رحلوا للذهاب أشفير القبور و حطوا الركاب
نعموا الأوجه الحسان فما صونكموها إلا بعفر التراب
و ألبسوا ناعم الثياب ففي الحفر تعرون من جميع الثياب
قد ترون الشباب كيف يموتون إذا استنضروا بماء الشباب
554- 
قال : وحدثني محمد بن خلف قال : سمعت أبي قال : رجعنا من ميت مع ابن السماك يقول :
تمر أقاربي جنبات قبري كأن أقاربي لا يعرفوني
وذووا الأموال يقتسمون مالي ولا يألون أن جحدوا ديوني
قد أخذوا سهامهم و عاشوا فبالله ما أسرع ما نسوني
555- 
قال : وأنشدني أبو جعفر القرشي :
تناجيك أجداث وهن سكوت وساكنها تحت التراب خفوت
يا جامع الدنيا لغير بلاغة لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
556- 
قال : وأنشدني الثقفي من قوله :
أما ترى الموت ما ينفك مختطفاً من كل ناحية نفساً ينجو بها
قد يعضت أملاً كانت تؤمله وقام في الحي ناعيها وباكيها
وأسكنوا الترب تبلى فيه أعظمهم بعد النضارة ثم الله يحييها
وصار ما جمعوا فيها وما ادخروا بين الأقارب يحويه أدابيها
فاختر لنفسك من أيام مدتها واستغفر الله لما أسلفته فيها
557- 
ولما انصرف الناس من جنازة داود الطائي رحمه الله أنشد السماك رحمه الله .
انصرف الناس إلى دورهم وغودر الميت في رمسه
مرتهن النفس بأعماله لا يرتجي الإطلاق من حبسه
لنفسه صالح أعماله و ما سواها فعلى نفسه
قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها لله درك ماذا تستر الحفر
ففيهم لك يا مغرور موعظة وفيهم لك يا مغتر معتبر
558- 
قال أبو العتاهية :
رويدك يا ذا القصر في شرفاته فإنه عنه تسحب و تدعج
ولا بد من بيت انقطاع ووحشة وإن غرك البيت الأنيق المبهج
وقال بعضهم :
كم ببطن الأرض ثاو من وزير و أمير وصغير الشأن وعبد خامد الذكر حقير
شملت قبور القوم في يوم قصير و لم تعرف غنياً من فقير
تقدمين تزود قريباً من فعالك إنما قرين الغنى في القبر ما كان يفعل
إن كنت مشغولاً بشيء فلا يكن بغير الذي يرضى الله تشتغل
ما صاحب الإنسان من بعد موته إلى قبره إلا الذي كان يعمل
إنما الإنسان ضيف لأهله يقيم قليلاً عندهم ثم يرحل
تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه في خامس عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وثمان مائة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمد الشهير بابن القطعة الحنفي غفر الله له ولجميع المسلمين ، والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1.صحيح مسلم مقدمة محمد فؤاد عبد الباقي ومقدمة الإمام مسلم رحمه الله

    مقدمة محمد فؤاد عبد الباقي     مقدمة الإمام مسلم رحمه الله كِتَابُ الْإِيمَانَ كِتَابِ الطَّهَارَةِ كِتَابُ الْحَيْضِ كِتَابُ الص...