20. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر
بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
عَلَى
مُعَاوِيَةَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَلَمْ يَكُنْ عُبَيْدُ اللَّهِ يُجِلُّهُ،
فَلَمَّا رَأَى مُعَاوِيَةُ الْأَحْنَفَ رَحَّبَ بِهِ وَعَظَّمَهُ وَأَجَلَّهُ
وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ الْقَوْمُ فَأَثْنَوْا
عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا
لَكَ يَا أَبَا بَحْرٍ لَا تَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ: إِنْ تَكَلَّمْتُ خَالَفْتُ
الْقَوْمَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: انْهَضُوا فَقَدْ عَزَلْتُهُ عَنْكُمْ،
فَاطْلُبُوا وَالِيًا تَرْضَوْنَهُ. فَمَكَثُوا أَيَّامًا يَتَرَدَّدُونَ إِلَى
أَشْرَافِ بَنِي أُمَيَّةَ، يَسْأَلُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَلَّى
عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ
مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: مَنِ اخْتَرْتُمْ ؟ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ وَالْأَحْنَفُ
سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ غَيْرَ أَهْلِ بَيْتِكَ فَرَاءٍ
رَأْيَكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ أَعَدْتُهُ إِلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: قَالَ الْأَحْنَفُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ وَلَّيْتَ
عَلَيْنَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَإِنَّا لَا نَعْدِلُ بِعُبَيْدِ اللَّهِ
أَحَدًا، وَإِنَّ وَلَّيْتَ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِمْ فَانْظُرْ لَنَا فِي
ذَلِكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ أَعَدْتُهُ إِلَيْكُمْ. ثُمَّ إِنَّ
مُعَاوِيَةَ أَوْصَى عُبَيْدَ اللَّهِ بِالْأَحْنَفِ خَيْرًا، وَقَبَّحَ رَأْيَهُ
فِي مُبَاعَدَتِهِ، فَكَانَ الْأَحْنَفُ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَصَّ أَصْحَابِ عُبَيْدِ
اللَّهِ، وَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ لَمْ يَفِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ غَيْرُ
الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ.
قِصَّةُ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُفَرِّغٍ الْحِمْيَرِيِّ مَعَ ابْنَيْ
زِيَادٍ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعَبَّادٍ
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى
وَغَيْرِهِ، أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ مَعَ عَبَّادِ بْنِ
زِيَادٍ بِسِجِسْتَانَ، فَاشْتَغَلَ عَنْهُ بِحَرْبِ التُّرْكِ، وَضَاقَ
عَلَى
النَّاسِ عَلَفُ الدَّوَابِّ، فَقَالَ ابْنُ مُفَرِّغٍ شِعْرًا يَهْجُو بِهِ
عَبَّادَ بْنَ زِيَادٍ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَقَالَ:
أَلَا لَيْتَ اللِّحَى كَانَتْ حَشِيشًا فَنَعْلِفُهَا خُيُولَ الْمُسْلِمِينَا
وَكَانَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ كَبِيرَهَا جِدًّا، فَبَلَغَهُ
ذَلِكَ فَغَضِبَ، وَتَطَلَّبَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ، وَقَالَ فِيهِ قَصَائِدَ
يَهْجُوهُ بِهَا كَثِيرَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا أَوْدَى مُعَاوِيَةُ بْنُ حَرْبٍ فَبَشِّرْ شِعْبَ قَعْبِكَ بِانْصِدَاعِ
فَأَشْهَدُ أَنَّ أُمَّكَ لَمْ تُبَاشِرْ أَبَا سُفْيَانَ وَاضِعَةَ الْقِنَاعِ
وَلَكِنْ كَانَ أَمْرًا فِيهِ لَبْسٌ عَلَى وَجِلٍ شَدِيدٍ وَارْتِيَاعِ
وَقَالَ أَيْضًا:
أَلَا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ مُغَلْغَلَةً مِنَ الرَّجُلِ الْيَمَانِي
أَتَغْضَبُ أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ عَفٌّ وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِي
فَأَشْهَدُ أَنَّ رَحْمَكَ مِنْ زِيَادٍ كَرَحْمِ الْفِيلِ مِنْ وَلَدِ الْأَتَانِ
فَكَتَبَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ إِلَى أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ وَافِدٌ
عَلَى مُعَاوِيَةَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، فَقَرَأَهَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، وَاسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلْهُ، وَلَكِنْ
أَدِّبْهُ وَلَا تَبْلُغْ بِهِ الْقَتْلَ. فَلَمَّا رَجَعَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى
الْبَصْرَةِ اسْتَحْضَرَهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَجَارَ بِوَالِدِ زَوْجَةِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ الْجَارُودِ، وَكَانَتِ ابِنْتُهُ
بَحْرِيَّةُ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأَجَارَهُ وَآوَاهُ إِلَى دَارِهِ،
وَجَاءَ الْمُنْذِرُ مُسَلِّمًا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، وَبَعَثَ عُبَيْدُ
اللَّهِ الشُّرَطَ إِلَى دَارِ الْمُنْذِرِ، فَجَاءُوا بِابْنِ مُفَرِّغٍ،
فَأُوقِفَ بَيْنَ
يَدَيْهِ،
فَقَالَ الْمُنْذِرُ: إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ. فَقَالَ: يَمْدَحُكَ وَيَمْدَحُ
أَبَاكَ فَتَرْضَى عَنْهُ، وَيَهْجُونِي وَيَهْجُو أَبِي ثُمَّ تُجِيرُهُ عَلَيَّ
؟ ! ثُمَّ أَمَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِابْنِ مُفَرِّغٍ فَسُقِيَ دَوَاءً مُسْهِلًا،
وَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ، وَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي
الْأَسْوَاقِ وَهُوَ يَسْلَحُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ
بِهِ فَنُفِيَ إِلَى سِجِسْتَانَ، إِلَى عِنْدِ أَخِيهِ عَبَّادٍ، فَقَالَ ابْنُ
مُفَرِّغٍ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ:
يَغْسِلُ الْمَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَوْلِي رَاسِخٌ مِنْكَ فِي الْعِظَامِ
الْبَوَالِي
وَكَلَّمَ الْيَمَانِيُّونَ مُعَاوِيَةَ فِي أَمْرِ ابْنِ مُفَرِّغٍ، وَأَنَّهُ
إِنَّمَا بَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ لِيَقْتُلَهُ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى
ابْنِ مُفَرِّغٍ فَأَحْضَرَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بَكَى وَشَكَى
إِلَى مُعَاوِيَةَ مَا فَعَلَ بِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
إِنَّكَ هَجَوْتَهُ، أَلَسْتَ الْقَائِلَ كَذَا ؟ أَلَسْتَ الْقَائِلَ كَذَا ؟
فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَذَكَرَ أَنَّ الْقَائِلَ ذَلِكَ
هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ أَخُو مَرْوَانَ، وَأَحَبَّ أَنْ
يُسْنِدَهَا إِلَيَّ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَكَمِ وَمَنَعَهُ الْعَطَاءَ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
زِيَادٍ وَأَنْشَدَ ابْنُ مُفَرِّغٍ مَا قَالَهُ فِي الطَّرِيقِ فِي مُعَاوِيَةَ
يُخَاطِبُ رَاحِلَتَهُ:
عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
لَعَمْرِي لَقَدْ نَجَّاكِ مِنْ هُوَّةِ الرَّدَى إِمَامٌ وَحَبْلٌ لِلْأَنَامِ
وَثِيقُ
سَأَشْكُرُ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ حُسْنِ نِعْمَةٍ وَمِثْلِي بِشُكْرِ
الْمُنْعِمِينَ حَقِيقُ
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمَا لَوْ كُنَّا نَحْنُ الَّذِينَ هَجَوْتَنَا لَمْ
يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
ثُمَّ
خَيَّرَهُ أَيُّ الْبِلَادِ أُعْجِبُ إِلَيْهِ يُقِيمُ بِهَا، فَاخْتَارَ
الْمَوْصِلَ فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي
الْقَدْومِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَالْمُقَامِ بِهَا، فَأَذِنَ لَهُ.
ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ رَكِبَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ
فَاسْتَرْضَاهُ، فَرَضِيَ عَنْهُ، وَأَنْشَدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
لَأَنْتَ زِيَادَةٌ فِي آلِ حَرْبٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِحْدَى بَنَانِي
أَرَاكَ أَخًا وَعَمًّا وَابْنَ عَمٍّ وَلَا أَدْرِي بِغَيْبٍ مَا تَرَانِي
فَقَالَ لَهُ عُبَيْدٌ: أَرَاكَ وَاللَّهِ شَاعِرَ سُوءٍ. ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُ،
وَأُعِيدَ إِلَيْهِ مَا كَانَ مُنِعَ مِنَ الْعَطَاءِ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ
الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ النُّعْمَانُ
بْنُ بَشِيرٍ وَقَاضِيهَا شُرَيْحٌ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
زِيَادٍ وَقاضِيهَا هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى سِجِسْتَانَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى
كَرْمَانَ شَرِيكُ بْنُ الْأَعْوَرِ الْحَارِثِيُّ، مِنْ قِبَلِ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ زِيَادٍ.
ذِكْرُ
مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ
ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ.
وَالصَّحِيحُ قَبْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
الْحُطَيْئَةُ الشَّاعِرُ
وَاسْمُهُ جَرْوَلُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُؤَيَّةَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ قُطَيْعَةَ بْنِ عَبْسٍ، أَبُو مُلَيْكَةَ، الشَّاعِرُ الْمُلَقَّبُ
بِالْحُطَيْئَةِ لِقَصَرِهِ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَأَسْلَمَ فِي زَمَنِ
الصِّدِّيقِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْهِجَاءِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ هَجَا أَبَاهُ
وَأُمَّهُ، وَخَالَهُ وَعَمَّهُ، وَنَفْسَهُ وَعِرْسَهُ. فَمِمَّا قَالَ فِي
أُمِّهِ قَوْلُهُ:
تَنَحِّي فَاقْعُدِي عَنِّي بَعِيدًا أَرَاحَ اللَّهُ مِنْكِ الْعَالَمِينَا أَغِرْبَالًا
إِذَا اسْتُودِعْتِ سِرًّا
وَكَانَونًا عَلَى الْمُتَحَدِّثِينَا جَزَاكِ اللَّهُ شَرًّا مِنْ عَجُوزٍ
وَلَقَّاكِ الْعُقُوقَ مِنَ الْبَنِينَا
وَقَالَ فِي أَبِيهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ:
لَحَاكَ اللَّهُ ثُمَّ لَحَاكَ حَقًّا أَبًا وَلَحَاكَ مِنْ عَمٍّ وَخَالِ
فَنِعْمَ
الشَّيْخُ أَنْتَ لَدَى الْمَخَازِي وَبِئْسَ الشَّيْخُ أَنْتَ لَدَى الْمَعَالِي
وَمِمَّا قَالَ فِي نَفْسِهِ يَذُمُّهَا:
أَبَتْ شَفَتَايَ الْيَوْمَ إِلَّا تَكَلُّمًا بِشَرٍّ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا
قَائِلُهْ
أَرَى لِي وَجْهًا شَوَّهَ اللَّهُ خَلْقَهُ فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ
حَامِلُهْ
وَقَدْ شَكَاهُ النَّاسُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فَأَحْضَرَهُ وَحَبَسَهُ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ
شَكَاهُ لِعُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ يَهْجُوهُ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ
الطَّاعِمُ الْكَاسِي
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَرَاهُ هَجَاكَ، أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ طَاعِمًا
كَاسِيًا ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَا يَكُونُ هِجَاءٌ
أَشَدَّ مِنْ هَذَا. فَبَعَثَ عُمَرُ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَسَأَلَهُ
عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَجَاهُ وَلَكِنْ سَلَحَ
عَلَيْهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ حَبَسَهُ عُمَرُ، وَقَالَ: يَا خَبِيثُ،
لَأَشْغَلَنَّكَ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ شَفَعَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ، فَأَخْرَجَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا يَهْجُوَ النَّاسَ
وَاسْتَتَابَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ لِسَانَهُ، فَشَفَعُوا
فِيهِ حَتَّى أَطْلَقَهُ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ
عُثْمَانَ الْحِزَامِيٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ حَدَّثَنِي عَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَ
عُمَرُ بِإِخْرَاجِ الْحُطَيْئَةِ مِنَ الْحَبْسِ، وَقَدْ كَلَّمَهُ فِيهِ عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ
وَغَيْرُهُ،
فَأُخْرِجَ وَأَنَا حَاضِرٌ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ زُغْبِ الْحَوَاصِلِ لَا مَاءٌ وَلَا
شَجَرُ
غَادَرْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ فَارْحَمْ هَدَاكَ مَلِيكُ النَّاسِ
يَا عُمَرُ
أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ أَلْقَى إِلَيْكَ مَقَالِيدَ
النُّهَى الْبَشَرُ
لَمْ يُؤْثِرُوكَ بِهَا إِذْ قَدَّمُوكَ لَهَا لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِكَ
الْإِثَرُ
فَامْنُنْ عَلَى صِبْيَةٍ بِالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ بَيْنَ الْأَبَاطِحِ
يَغْشَاهُمْ بِهَا الْقَدْرُ
نَفْسِي فِدَاؤُكَ كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمُ مِنْ عَرْضِ دَاوِيَّةٍ يَعْمَى
بِهَا الْخُبُرُ
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ
بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا
أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَعْدَلَ مِنْ رَجُلٍ يَبْكِي عَلَى تَرْكِهِ
الْحُطَيْئَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَرَادَ قَطْعَ لِسَانِ الْحُطَيْئَةِ
لِئَلَّا يَهْجُوَ بِهِ النَّاسَ، فَأَجْلَسَهُ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَجِيءَ
بِالْمُوسَى، فَقَالَ النَّاسُ: لَا يَعُودُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَشَارُوا إِلَيْهِ قُلْ: لَا أَعُودُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: النِّجَاءَ.
فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ عُمَرُ: ارْجِعْ يَا حُطَيْئَةُ. فَرَجَعَ، فَقَالَ
لَهُ: كَأَنِّي بِكَ عِنْدَ شَابٍّ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ كَسَرَ لَكَ نُمْرُقَةً،
وَبَسَطَ لَكَ أُخْرَى، وَقَالَ: يَا حُطَيْئَةُ، غَنِّنَا. فَانْدَفَعْتَ
تُغَنِّيهِ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ. قَالَ أَسْلَمُ: فَرَأَيْتُ الْحُطَيْئَةَ
بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَدْ كَسَرَ لَهُ
نُمْرُقَةً، وَبَسَطَ لَهُ أُخْرَى، وَقَالَ: يَا حُطَيْئَةُ، غَنِّنَا.
فَانْدَفَعَ حُطَيْئَةُ يُغَنِّي،
فَقُلْتُ
لَهُ: يَا حُطَيْئَةُ، أَتَذْكُرُ يَوْمَ عُمَرَ حِينَ قَالَ لَكَ مَا قَالَ ؟
فَفَزِعَ وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَرْءَ، لَوْ كَانَ حَيًّا مَا
فَعَلْنَا هَذَا. فَقَلَتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ
كَذَا وَكَذَا، فَكُنْتَ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
قَالَ عُمَرُ لِلْحُطَيْئَةِ: دَعْ قَوْلَ الشِّعْرِ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ.
قَالَ: لِمَ ؟ قَالَ: هُوَ مَأْكَلَةُ عِيَالِي، وَنَمْلَةٌ عَلَى لِسَانِي.
قَالَ: فَدَعِ الْمِدْحَةَ الْمُجْحِفَةَ. قَالَ: وَمَا هِيَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: تَقُولُ: بَنُو فُلَانٍ أَفْضَلُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ.
امْدَحْ وَلَا تُفَضِّلْ. فَقَالَ: أَنْتَ أَشْعَرُ مِنِّي يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْ مَدِيحِهِ الْجَيِّدِ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُ:
أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ لَا أَبَا لِأَبِيكُمُ مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا
الْمَكَانَ الَّذِي سَدُّوا
أُولَئِكَ قَوْمِي إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنَا وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفُوا
وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
وَإِنْ كَانَتِ النَّعْمَاءُ فِيهِمْ جَزَوْا بِهَا وَإِنْ أَنْعَمُوا لَا
كَدَّرُوهَا وَلَا
كَدُّوا
قَالُوا: وَلَمَّا احْتُضِرَ الْحُطَيْئَةُ قِيلَ لَهُ: أَوْصِ. فَقَالَ:
أُوصِيكُمْ بِالشِّعْرِ. ثُمَّ قَالَ:
الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لَا
يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ وَالشِّعْرُ لَا يَسْطِيعُهُ مَنْ
يَظْلِمُهْ
يُرِيدُ
أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمُنْتَظَمِ ": تُوُفِّيَ الْحُطَيْئَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَذَكَرَ
أَيْضًا فِيهَا وَفَاةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْقِشْبِ
وَاسْمُهُ جُنْدَبُ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ الْأَزْدِيُّ،
أَبُو مُحَمَّدٍ، حَلِيفُ بَنِي الْمُطَّلِبِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بُحَيْنَةَ،
وَهِيَ أُمُّهُ بُحَيْنَةُ بِنْتُ الْأَرَتِّ، وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ
الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَصَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ نَاسِكًا صَوَّامًا قَوَّامًا،
وَكَانَ مِمَّنْ يَسْرُدُ صَوْمَ الدَّهْرِ كُلِّهِ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ يَنْزِلُ بَطْنَ رِيمٍ عَلَى ثَلَاثِينَ مِيلًا مِنَ
الْمَدِينَةِ. وَمَاتَ فِي عَمَلِ مَرْوَانَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، مَا
بَيْنَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ إِلَى ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَالْعَجَبُ أَنَّ
ابْنَ الْجَوْزِيِّ نَقَلَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، ثُمَّ إِنَّهُ
ذَكَرَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، يَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَأَبِيهِ، لَهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " حَدِيثٌ،
وَهُوَ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ، وَلَهُ فِي " الْمُسْنَدِ " حَدِيثٌ
فِي
صَوْمِ
عَاشُورَاءَ، وَحَدِيثُ غُسْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي دَارِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَخَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ
قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ مِنَ الْأَمِيرِ. وَحَمَلَ لِوَاءَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ،
وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ. وَلَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجِرَّاحِ، وَمَعَهُ
ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَأَصَابَهُمْ ذَلِكَ
الْجَهْدُ الْكَثِيرُ، فَنَحَرَ لَهُمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ تِسْعَ جَزَائِرَ،
حَتَّى وَجَدُوا تِلْكَ الدَّابَّةَ عَلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، فَأَكَلُوا مِنْهَا،
وَأَقَامُوا عَلَيْهَا شَهْرًا حَتَّى سَمِنُوا.
وَكَانَ قَيْسٌ سَيِّدًا مُطَاعًا كَرِيمًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا، وَلَّاهُ عَلِيٌّ
نِيَابَةَ مِصْرَ، وَكَانَ يُقَاوِمُ بِدَهَائِهِ وَخَدِيعَتِهِ وَسِيَاسَتِهِ لِمُعَاوِيَةَ
وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلَمْ يَزَلْ مُعَاوِيَةُ يَعْمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى
عَزَلَهُ عَلِيٌّ عَنْ مِصْرَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ، فَاسْتَخَفَّهُ مُعَاوِيَةُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخَذَ
مِنْهُ مِصْرَ كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَأَقَامَ قَيْسٌ عِنْدَ عَلِيٍّ،
فَشَهِدَ مَعَهُ صِفِّينَ وَالنَّهْرَوَانَ، وَلَزِمَهُ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ
صَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ
جَاءَهُ لِيُبَايِعَهُ، كَمَا بَايَعَهُ أَصْحَابُهُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَدِمَ قَيْسُ بْنُ
سَعْدٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ ;
لِيُبَايِعَهُ
كَمَا بَايَعَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَأَنْتَ يَا قَيْسُ
تُلْجِمُ عَلَيَّ مَعَ مَنْ أَلْجَمَ ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّ
أَنْ لَا تَأْتِيَ هَذَا الْيَوْمَ إِلَّا وَقَدْ ظَفِرَ بِكَ ظُفْرٌ مِنْ
أَظَافِرِي مُوجِعٌ. فَقَالَ لَهُ قَيْسٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ كُنْتُ كَارِهًا
أَنْ أَقُومَ فِي هَذَا الْمُقَامِ فَأُحَيِّيَكَ بِهَذِهِ التَّحِيَّةِ. فَقَالَ
لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَلِمَ ؟ وَهَلْ أَنْتَ إِلَّا حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ ؟
فَقَالَ لَهُ قَيْسٌ: وَأَنْتَ يَا مُعَاوِيَةُ كُنْتَ صَنَمًا مِنْ أَصْنَامِ
الْجَاهِلِيَّةِ، دَخَلَتْ فِي الْإِسْلَامِ كَارِهًا، وَخَرَجْتَ مِنْهُ
طَائِعًا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُمَّ غَفْرًا، مُدَّ يَدَكَ. فَقَالَ لَهُ
قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ شِئْتَ زِدْتَ وَزِدْتُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قَالَتْ عَجُوزٌ لِقَيْسٍ: أَشْكُو إِلَيْكَ
قِلَّةَ الْجِرْذَانِ. فَقَالَ قَيْسٌ: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْكِنَايَةَ !
امْلَئُوا بَيْتَهَا خُبْزًا وَلَحْمًا وَسَمْنًا وَتَمْرًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَكَانَتْ لَهُ صَحْفَةٌ يُدَارُ بِهَا حَيْثُ دَارَ، وَكَانَ
يُنَادِي لَهُ مُنَادٍ: هَلُمُّوا إِلَى اللَّحْمِ وَالثَّرِيدِ. وَكَانَ أَبُوهُ
وَجَدُّهُ مِنْ قَبْلِهِ يَفْعَلَانِ كَفِعْلِهِ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: بَاعَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ
أَرْضًا بِتِسْعِينَ أَلْفًا، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ
أَرَادَ الْقَرْضَ فَلْيَأْتِ. فَأَقْرَضَ مِنْهَا خَمْسِينَ أَلْفًا وَأَطْلَقَ
الْبَاقِيَ، ثُمَّ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَلَّ عُوَّادُهُ، فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ
قُرَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي عَتِيقٍ أُخْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: إِنِّي أَرَى
قِلَّةَ عُوَّادِي فِي مَرَضِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرَى ذَلِكَ
مِنْ
أَجْلِ مَا لِي عَلَى النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ. فَبَعَثَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ
مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِصَكِّهِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ،
فَوَهَبَهُمْ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى:
مَنْ كَانَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَلَيْهِ دِينٌ فَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ. فَمَا
أَمْسَى حَتَّى كُسِرَتْ عَتَبَةُ بَابِهِ مِنْ كَثْرَةِ الْعُوَّادِ، وَكَانَ
يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي مَالًا وَفَعَالًا، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ
الْفَعَالُ إِلَّا بِالْمَالِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: اقْتَرَضَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا جَاءَ لِيُوَفِّيَهُ إِيَّاهَا قَالَ لَهُ قَيْسٌ:
إِنَّا قَوْمٌ إِذَا أَعْطَيْنَا أَحَدًا شَيْئًا لَا نَرْجِعُ فِيهِ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: اخْتَلَفَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي
أَكْرَمِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ.
وَقَالَ الْآخَرُ: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ الْآخَرُ: عَرَابَةُ الْأَوْسِيُّ.
فَتَمَارَوْا فِي ذَلِكَ حَتَّى ارْتَفَعَ ضَجِيجُهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ،
فَقَالَ لَهُمْ رَجُلٌ: فَلْيَذْهَبْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَى صَاحِبِهِ
الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ أَكْرَمُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلْيَنْظُرْ مَا يُعْطِيهِ
وَلْيُحْكَمْ عَلَى الْعَيَانِ. فَذَهَبَ صَاحِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ
إِلَيْهِ، فَوَجَدَهُ قَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ لِيَذْهَبَ إِلَى
ضَيْعَةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، ابْنُ سَبِيلٍ
وَمُنْقَطَعٌ بِهِ. قَالَ: فَأَخْرَجَ رِجْلَهُ مِنَ الْغَرْزِ وَقَالَ: ضَعْ
رِجْلَكَ وَاسْتَوِ عَلَيْهَا، فَهِيَ لَكَ بِمَا عَلَيْهَا، وَخُذْ مَا فِي
الْحَقِيبَةِ وَلَا تُخْدَعَنَّ عَنِ السَّيْفِ، فَإِنَّهُ مِنْ سُيُوفِ عَلِيٍّ.
فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ بِنَاقَةٍ عَظِيمَةٍ، وَإِذَا فِي الْحَقِيبَةِ
أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَمَطَارِفُ مِنْ خَزٍّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأَجَلُّ
ذَلِكَ سَيْفُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمَضَى صَاحِبُ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ إِلَيْهِ، فَوَجَدَهُ
نَائِمًا، فَقَالَتْ لَهُ الْجَارِيَةُ: مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: ابْنُ
سَبِيلٍ وَمُنْقَطَعٌ بِهِ. قَالَتْ: فَحَاجَتُكَ أَيْسَرُ مِنْ إِيقَاظِهِ، هَذَا
كِيسٌ فِيهِ سَبْعُمِائَةِ دِينَارٍ مَا فِي دَارِ قَيْسٍ مَالٌ غَيْرُهُ الْيَوْمَ،
وَاذْهَبْ إِلَى مَوْلَانَا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ، فَخُذْ لَكَ نَاقَةً
وَعَبْدًا، وَاذْهَبْ رَاشِدًا. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَيْسٌ مِنْ رَقْدَتِهِ
أَخْبَرَتْهُ الْجَارِيَةُ بِمَا صَنَعَتْ، فَأَعْتَقَهَا شُكْرًا عَلَى
صَنِيعِهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: هَلَّا أَيْقَظْتِنِي حَتَّى أُعْطِيَهُ مَا
يَكْفِيهِ، فَلَعَلَّ الَّذِي أَعْطَيْتِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَوْقِعَ حَاجَتِهِ.
وَذَهَبَ صَاحِبُ عَرَابَةَ الْأَوْسِيِّ إِلَيْهِ، فَوَجَدَهُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ
مَنْزِلِهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَبْدَيْنِ، وَقَدْ
كُفَّ بَصَرُهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَرَابَةُ. فَقَالَ: قُلْ. فَقَالَ: ابْنُ
سَبِيلٍ وَمُنْقَطَعٌ بِهِ. قَالَ: فَخَلَّى عَنِ الْعَبْدَيْنِ ثُمَّ صَفَّقَ
بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَ: أَوَّهْ أَوَّهْ، وَاللَّهِ
مَا أَصْبَحْتُ وَلَا أَمْسَيْتُ وَقَدْ تَرَكَتِ الْحُقُوقُ مِنْ مَالِ عَرَابَةَ
شَيْئًا، وَلَكِنْ خُذْهُمَا. يَعْنِي الْعَبْدَيْنِ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ
لِأَفْعَلَ. فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَأْخُذْهُمَا فَهُمَا حُرَّانِ فَإِنْ شِئْتَ
فَأَعْتِقْ، وَإِنْ شِئْتَ فَخُذْ. وَأَقْبَلَ يَلْتَمِسُ الْحَائِطَ بِيَدِهِ،
قَالَ: فَأَخَذَهُمَا وَجَاءَ بِهِمَا. قَالَ: فَحَكَمَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ
ابْنَ جَعْفَرٍ قَدْ جَادَ بِمَالٍ عَظِيمٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ
لَهُ، إِلَّا أَنَّ السَّيْفَ أَجَلُّهَا، وَأَنَّ قَيْسًا أَحَدُ الْأَجْوَادِ ;
حَكَّمَ مَمْلُوكَتَهُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَاسْتِحْسَانِهِ مَا
فَعَلَتْهُ، وَعِتْقِهِ لَهَا وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ
أَسْخَى الثَّلَاثَةِ عَرَابَةُ الْأَوْسِيُّ ; لِأَنَّهُ جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: قَسَّمَ
سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَالَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، وَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ
فَمَاتَ بِهَا، فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَجَاءَ
أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَا: إِنَّ أَبَاكَ قَسَّمَ
مَالَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ هَذَا الْوَلَدِ إِذْ كَانَ حَمْلًا،
فَاقْسِمُوا لَهُ مَعَكُمْ. فَقَالَ قَيْسٌ: إِنِّي لَا أُغَيِّرُ مَا فَعَلَهُ
سَعْدٌ، وَلَكِنَّ نَصِيبِي لَهُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ
مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ لَا يَزَالُ هَكَذَا
رَافِعًا أُصْبُعَهُ الْمُسَبِّحَةَ. يَعْنِي يَدْعُو.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ، ثَنَا أَبُو
رَافِعٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي
النَّارِ ". لَكُنْتُ مِنْ أَمْكَرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: دُهَاةُ الْعَرَبِ حِينَ ثَارَتِ الْفِتْنَةُ خَمْسَةٌ ;
مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَقَيْسُ
بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، وَكَانَا مَعَ عَلِيٍّ، وَكَانَ
الْمُغِيرَةُ مُعْتَزِلًا بِالطَّائِفِ حَتَّى حَكَمَ الْحَكَمَانِ، فَصَارَ إِلَى
مُعَاوِيَةَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ
عَلَى مِصْرَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ
نَائِبَ عُثْمَانَ بَعْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا
عَلَى
مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ بِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، فَلَمَّا دَخَلَهَا
سَارَ فِيهَا سِيرَةً حَسَنَةً وَضَبَطَهَا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ
وَثَلَاثِينَ، فَثَقُلَ أَمْرُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،
فَكَاتَبَاهُ لِيَكُونَ مَعَهُمَا عَلَى عَلِيٍّ فَامْتَنَعَ، وَأَظْهَرَ
لِلنَّاسِ مُنَاصَحَتَهُ لَهُمَا، فَشَاعَ الْخَبَرُ حَتَّى بَلَغَ عَلِيًّا فَعَزَلَهُ،
وَبَعَثَ إِلَى مِصْرَ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، فَمَاتَ الْأَشْتَرُ فِي
الرَّمْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا، فَبَعَثَ عَلِيٌّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي
بَكْرٍ، فَخَفَّ أَمْرُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو، فَلَمْ يَزَالَا حَتَّى
أَخَذَا مِنْهُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
وَأُحْرِقَ فِي جِيفَةِ حِمَارٍ، وَسَارَ قَيْسٌ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ سَارَ
إِلَى عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ، فَكَانَ مَعَهُ فِي حُرُوبِهِ حَتَّى قُتِلَ عَلِيٌّ،
ثُمَّ عَلَى مُقَدِّمَةِ الْحَسَنِ، فَلَمَّا بَايَعَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ سَاءَ
قَيْسًا ذَلِكَ، وَامْتَنَعَ مِنْ طَاعَةِ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى
الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي وَفْدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ،
فَبَايَعَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مُعَاتَبَةٍ، وَكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ، ثُمَّ
أَكْرَمَهُ مُعَاوِيَةُ وَقَدَّمَهُ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ مَعَ
الْوُفُودِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ إِذْ قَدِمَ كِتَابُ مَلِكِ الرُّومِ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، وَفِيهِ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِسَرَاوِيلِ أَطْوَلِ رَجُلٍ مِنَ
الْعَرَبِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِقَيْسٍ: مَا أَظُنُّنَا إِلَّا قَدِ احْتَجْنَا
إِلَى سَرَاوِيلِكَ. وَكَانَ قَيْسٌ مَدِيدُ الْقَامَةِ جِدًّا، لَا يَصِلُ
أَطْوَلُ الرِّجَالِ إِلَى صَدْرِهِ، فَقَامَ قَيْسٌ فَتَنَحَّى، ثُمَّ خَلَعَ
سَرَاوِيلَهُ، فَأَلْقَاهَا إِلَى مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ، مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا، هَلَّا ذَهَبْتَ إِلَى مَنْزِلِكَ
ثُمَّ أَرْسَلْتَ بِهَا إِلَيْنَا. فَأَنْشَأَ قَيْسٌ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ:
أَرَدْتُ بِهَا كَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ
شُهُودُ
وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ سَرَاوِيلُ عَادِيٌّ نَمَتْهُ ثَمُودُ
وَإِنِّي مِنَ الْحَيِّ الْيَمَانِي لَسَيِّدٌ وَمَا النَّاسُ إِلَّا سَيِّدٌ
وَمَسُودُ
فَكِدْهُمْ
بِمِثْلِي إِنَّ مِثْلِي عَلَيْهِمُ شَدِيدٌ وَخَلْقِي فِي الرِّجَالِ مَزِيدُ
وَفَضَّلَنِي فِي النَّاسِ أَصْلِي وَوَالِدِي وَبَاعٌ بِهِ أَعْلُو الرِّجَالَ
مَدِيدُ
قَالَ: فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ أَطْوَلَ رَجُلٍ فِي الْوَفْدِ، فَوَضَعَهَا عَلَى
أَنْفِهِ فَوَقَعَتْ بِالْأَرْضِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ بَعَثَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِرَجُلَيْنِ
مِنْ جَيْشِهِ يَزْعُمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَقْوَى الرُّومِ، وَالْآخَرَ أَطْوَلُ
الرُّومِ، فَإِنْ كَانَ فِي جَيْشِكَ مَنْ يَفُوقُهُمَا فِي قُوَّةِ هَذَا وَطُولِ
هَذَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْأَسَارَى كَذَا وَكَذَا وَمَنَ التُّحَفِ كَذَا
وَكَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَيْشِكَ مَنْ يُشْبِهُهُمَا فَهَادِنِي ثَلَاثَ
سِنِينَ. فَلَمَّا حَضَرَا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ قَالَ: مَنْ لِهَذَا الْقَوِيِّ ؟
فَقَالُوا: مَا لَهُ إِلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ ; إِمَّا مُحَمَّدُ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. فَجِيءَ بِمُحَمَّدِ ابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ
النَّاسُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَتَعْلَمُ فِيمَ أُرْسَلْتُ
إِلَيْكَ ؟ قَالَ: لَا. فَذَكَرَ لَهُ أَمْرَ الرُّومِيِّ وَشِدَّةَ بِأُسِهِ.
فَقَالَ لَهُ: مَا تُرِيدُ ؟ فَقَالَ: تَجْلِسُ لِي أَوْ أَجْلِسُ لَكَ،
وَتُنَاوِلُنِي يَدَكَ أَوْ أُنَاوِلُكَ يَدِي، فَأَيُّنَا قَدَرَ عَلَى أَنْ
يُقِيمَ الْآخَرَ مِنْ مَكَانِهِ غَلَبَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ غُلِبَ. فَقَالَ لَهُ:
مَاذَا تُرِيدُ ; تَجْلِسُ أَوْ أَجْلِسُ ؟ فَقَالَ لَهُ الرُّومِيُّ: بَلِ
اجْلِسْ أَنْتَ. فَجَلَسَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَعْطَى الرُّومِيَّ
يَدَهُ، فَاجْتَهَدَ الرُّومِيُّ بِكُلِّ مَا يَقَدْرُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ
أَنْ يُزِيلَهُ مِنْ مَكَانَهِ أَوْ يُحَرِّكَهُ لِيُقِيمَهُ، فَلَمْ يَقَدِرْ
عَلَى ذَلِكَ، وَلَا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَغَلَبَ الرُّومِيَّ عِنْدَ
ذَلِكَ، وَظَهَرَ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْوُفُودِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ أَنَّهُ
قَدْ غَلَبَ، ثُمَّ قَامَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالَ
لِلرُّومِيِّ:
اجْلِسْ لِي. فَجَلَسَ وَأَعْطَى مُحَمَّدًا يَدَهُ، فَمَا لَبِثَ أَنْ أَقَامَهُ
سَرِيعًا، وَرَفَعَهُ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَسُرَّ
بِذَلِكَ مُعَاوِيَةُ سُرُورًا عَظِيمًا، وَنَهَضَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، فَتَنَحَّى
عَنِ النَّاسِ، ثُمَّ خَلَعَ سَرَاوِيلَهُ، وَأَعْطَاهَا لِذَلِكَ الرُّومِيِّ
الطَّوِيلِ، فَلَبِسَهَا فَبَلَغَتْ إِلَى ثَدْيَيْهِ وَأَطْرَافُهَا تَخُطُّ
بِالْأَرْضِ، فَاعْتَرَفَ الرُّومُ بِالْغَلَبِ، وَبَعَثَ مَلِكُهُمْ مَا كَانَ
الْتَزَمَهُ لِمُعَاوِيَةَ، وَعَاتَبَ الْأَنْصَارُ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ فِي
خَلْعِهِ سَرَاوِيلَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، فَقَالَ ذَلِكَ الشِّعْرُ
الْمُتَقَدِّمَ مُعْتَذِرًا بِهِ إِلَيْهِمْ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَلْزَمَ
لِلْحُجَّةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى الرُّومِ، وَأَقْطَعَ لِمَا حَاوَلُوهُ.
وَرَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ رَجُلًا ضَخْمًا جَسِيمًا صَغِيرَ
الرَّأْسِ، لَهُ لِحْيَةٌ فِي ذَقَنِهِ، وَكَانَ إِذَا رَكِبَ الْحِمَارَ خَطَّتْ
رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ
بِالْمَدِينَةِ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَتَبِعْنَاهُ فِي ذَلِكَ.
مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَكَانَ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ
أَغْصَانَ الشَّجَرَةِ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يُبَايِعُ النَّاسَ تَحْتَهَا، وَكَانَتْ مِنَ السَّمُرِ، وَهِيَ
الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [
الْفَتْحِ: 18 ]. وَقَدْ وَلَّاهُ عُمَرُ إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ، فَحَفَرَ بِهَا
النَّهْرَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ، فَيُقَالُ: نَهْرُ مَعْقِلٍ. وَلَهُ بِهَا
دَارٌ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: دَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى
مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ
مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ لَمْ أَكُنْ عَلَى حَالَتِي هَذِهِ لَمْ
أُحَدِّثْكَ بِهِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنِ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ
رَعِيَّةً فَلَمْ يُحِطْهَا بْنصِيحَةٍ، لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ،
وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ ".
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَاسْمِ أَبِيهِ
عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ قَدْ بَسَطْنَا أَكْثَرَهَا فِي كِتَابِنَا "
التَّكْمِيلِ "، وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي "
تَارِيخِهِ "، وَالْأَشْهُرُ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ،
وَهُوَ مِنَ الْأَزْدِ، ثُمَّ مِنْ دَوْسٍ. وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ شَمْسٍ. وَقِيلَ: عَبْدَ نِهْمٍ. وَقِيلَ: عَبْدَ غَنْمٍ.
وَيُكَنَّى بِأَبِي الْأُسُودِ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ. وَكَنَّاهُ
بِأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْتُ هُرَيْرَةً وَحْشِيَّةً، فَأَخَذْتُ أَوْلَادَهَا،
فَقَالَ لِي أَبِي: مَا هَذِهِ فِي حِجْرِكَ ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَنْتَ
أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَثَبَتَ
فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " يَا أَبَا هِرٍّ ". وَثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ
لَهُ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ".
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ الْكَلْبِيِّ وَالطَّبَرَانِيُّ: وَاسْمُ
أُمِّهِ مَيْمُونَةُ بِنْتُ صُبَيْحِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي صَعْبِ بْنِ
هُنَيَّةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. أَسْلَمَتْ وَمَاتَتْ مُسْلِمَةً.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْكَثِيرَ الطَّيِّبَ، وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْ أَبَى
بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَبَصْرَةَ
بْنِ أَبِي بَصْرَةَ، وَالْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ،
وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلَائِقُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ، قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي "
التَّكْمِيلِ "، كَمَا ذَكَرَهُمْ شَيْخُنَا فِي " تَهْذِيبِهِ ".
قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَى عَنْهُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ أَوْ
أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ: كَانَ يَنْزِلُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ
إِسْلَامُهُ سَنَةَ خَيْبَرَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ لَهُ بِذِي
الْحُلَيْفَةِ دَارٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ آدَمَ اللَّوْنِ، بَعِيدَ مَا
بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، ذَا ضَفِيرَتَيْنِ، أَفْرَقَ الثَّنِيَّتَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي خَلْدَةَ
خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
أَبِي
الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِمَّنْ أَنْتَ ؟ "
فَقُلْتُ: مِنْ دَوْسٍ. فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: " مَا
كُنْتُ أَرَى أَنَّ فِي دَوْسٍ رَجُلًا فِيهِ خَيْرٌ ".
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ،
عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: جِئْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ بَعْدَ مَا
فَرَغُوا مِنَ الْقِتَالِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، ثَنَا
الدَّرَاوَرْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي خُثَيْمُ بْنُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا فَصَلَّيْتُ
الصُّبْحَ وَرَاءَ سِبَاعٍ، فَقَرَأَ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى سُورَةَ "
مَرْيَمَ "، وَفِي الثَّانِيَةِ " وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ".
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَيْلٌ لِأَبِي فُلَانٍ. لِرَجُلٍ
كَانَ بِأَرْضِ الْأَزْدِ، كَانَ لَهُ مِكْيَالَانِ ; مِكْيَالٌ يَكْتَالُ بِهِ
لِنَفْسِهِ، وَمِكْيَالٌ يَبْخَسُ بِهِ النَّاسَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ضَلَّ غُلَامٌ لَهُ فِي
اللَّيْلَةِ الَّتِي اجْتَمَعَ فِي صَبِيحَتِهَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ جَعَلَ يُنْشِدُ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ
نَجَّتِ
فَلَمَّا
قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ:
" هَذَا غُلَامُكَ ". فَقَالَ: هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَقَدْ لَزِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَلَمْ يُفَارِقْهُ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ،
وَكَانَ أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ مِنْهُ، وَتَفَقَّهَ عَنْهُ،
وَكَانَ يَلْزَمُهُ عَلَى شِبَعِ بَطْنِهِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - وَقَدْ تَمَخَّطَ يَوْمًا فِي قَمِيصٍ لَهُ مِنْ
كَتَّانٍ -: بَخٍ بَخٍ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الْكَتَّانِ ! لَقَدْ
رَأَيْتُنِي أَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْحُجَرِ مِنَ الْجُوعِ،
فَيَمُرُّ الْمَارُّ فَيَقُولُ: بِهِ جُنُونٌ. وَمَا بِي إِلَّا الْجُوعُ،
وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كُنْتُ أَعْتَمِدُ بِكَبِدِي
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ،
وَلَقَدْ كُنْتُ أَسْتَقْرِئُ أَحَدَهُمُ الْآيَةَ وَأَنَا أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُ،
وَمَا بِي إِلَّا أَنْ يَسْتَتْبِعَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ فَيُطْعِمُنِي شَيْئًا.
وَذَكَرَ حَدِيثَ اللَّبَنِ مَعَ أَهْلِ الصُّفَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي
ذِكْرِ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ
عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أُذَيْنَةَ السُّحَيْمِيُّ الْأَعْمَى، حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ
لَنَا: وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِنًا يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا
أَحَبَّنِي. قُلْتُ: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ: إِنَّ
أُمِّي كَانَتِ امْرَأَةً مُشْرِكَةً، وَإِنِّي كُنْتُ أَدْعُوهَا إِلَى
الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا، فَأَسْمَعَتْنِي
فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي
كُنْتُ
أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ، وَإِنِّي
دَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ
يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ "
فَخَرَجْتُ أَعْدُو أُبَشِّرُهَا بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَتَيْتُ الْبَابَ إِذَا هُوَ مُجَافٍ، وَسَمِعْتُ
خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، وَسَمِعْتُ خَشْفَ رِجْلٍ - يَعْنِي وَقْعَهَا - فَقَالَتْ:
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كَمَا أَنْتَ. ثُمَّ فَتَحَتِ الْبَابَ، وَقَدْ لَبِسَتْ
دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَقَالَتْ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَرَجَعْتُ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ
كَمَا بَكَيْتُ مِنَ الْحُزْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْشِرْ، فَقَدِ
اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ، وَقَدْ هَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ
الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا
وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْهُمْ إِلَيْهِمَا ".
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ مُؤْمِنٍ يَسْمَعُ بِي وَلَا
يَرَانِي أَوْ يَرَى أُمِّي إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّنِي وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ،
مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةِ بْنِ عَمَّارٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
مُحَبَّبٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَقَدْ شَهَرَ اللَّهُ ذِكْرَهُ بِمَا
قَدَّرَهُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْخَبَرِ عَنْهُ، الَّذِي رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
عِنْدَ الْخُطْبَةِ، عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فِي الْمَحَافِلِ الْكَثِيرَةِ
الْمُتَعَدِّدَةِ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، وَهَذَا قَدَّرَهُ اللَّهُ
وَيَسَّرَهُ مِنْ شَهْرِ ذِكْرِهِ، وَمَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَقَالَ
هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثَنَا سَعِيدٌ، ثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ،
عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: " إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ، أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ،
وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ آذَيْتُهُ أَوْ شَتَمْتُهُ أَوْ جَلْدَتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ
قُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ لَقَدْ رَفَعَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمًا الدِّرَّةَ لِيَضْرِبَنِي بِهَا، لَأَنْ يَكُونُ ضَرَبَنِي
بِهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ; ذَلِكَ بِأَنِّي أَرْجُو أَنْ
أَكُونَ مُؤْمِنًا، وَأَنْ يُسْتَجَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دَعْوَتُهُ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا
أَنْسَاهُ. فَقَالَ: " ابْسُطْ رِدَاءَكَ ". فَبَسَطْتُهُ، ثُمَّ قَالَ:
" ضُمَّهُ ". فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ حَدِيثًا بَعْدُ. رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّكُمْ
تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً
مِسْكِينًا، أَصْحَبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ،
وَكَانَتِ
الْأَنْصَارُ
يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَحَضَرْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا، فَقَالَ: " مَنْ بَسَطَ
رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضُهُ إِلَيْهِ، فَلَنْ يَنْسَى
شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي ". فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ حَتَّى قَضَى
حَدِيثَهُ، ثُمَّ قَبَضْتُهَا إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا نَسِيتُ
شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْهُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَهُ
طُرُقٌ أُخَرُ عَنْهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا كَانَ خَاصًّا بِتِلْكَ
الْمَقَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَمْ يَنْسَ مِنْهَا شَيْئًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ
نَسِيَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي " الصَّحِيحِ
"، حَيْثُ نَسِيَ حَدِيثَ: " لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ ". مَعَ
حَدِيثِهِ " لَا يُورِدُ مُمَرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ ". وَقِيلَ: إِنَّ
هَذَا كَانَ عَامًّا فِي تِلْكَ الْمَقَالَةِ وَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ
بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ: " لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ أَلَّا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ ;
لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، إِنَّ أَسْعَدَ النَّاسِ
بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
عَمْرِو ابْنِ أَبِي عَمْرٍو بِهِ.
وَقَالَ
ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ
قَالَ:حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ فِي النَّاسِ، وَأَمَّا الْآخَرُ
فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَهَذَا الْوِعَاءُ الَّذِي كَانَ لَا يَتَظَاهَرُ بِهِ هُوَ الْفِتَنُ
وَالْمَلَاحِمُ، وَمَا وَقَعَ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ وَمَا
سَيَقَعُ، الَّتِي لَوْ أَخْبَرَ بِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا لَبَادَرَ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ إِلَى تَكْذِيبِهِ، وَرَدُّوا مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، كَمَا
قَالَ: لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّكُمْ تَقْتُلُونَ إِمَامَكُمْ وَتَقْتَتِلُونَ
فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالسُّيُوفِ لَمَا صَدَّقْتُمُونِي. وَقَدْ يَتَمَسَّكُ
بِهَذَا الْحَدِيثِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الْبَاطِلَةِ،
وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ، وَيُسْنِدُونَ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْجِرَابِ
الَّذِي لَمْ يَقُلْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ
كَانَ فِي هَذَا الْجِرَابِ الَّذِي لَمْ يُخْبِرْ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمَا
مِنْ مُبْطِلٍ - مَعَ تَضَادِّ أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ - إِلَّا وَيَدَّعِي
شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَكُلُّهُمْ يَكْذِبُونَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَبُو
هُرَيْرَةَ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ فَمَنْ عَلِمَهُ مِنْ بَعْدِهِ ؟ ! وَإِنَّمَا
كَانَ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ قَدْ أَخْبَرَ بِهَا
هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِي
كِتَابِ " الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ ".
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ،
ثَنَا أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ كَاتِبُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ مَرْوَانَ
دَعَا أَبَا هُرَيْرَةَ - وَأَقْعَدَهُ خَلْفَ السَّرِيرِ - وَجَعَلَ
مَرْوَانُ
يَسْأَلُ وَجَعَلْتُ أَكْتُبُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوَلِ دَعَا
بِهِ - وَأَقْعَدَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ - فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ
الْكِتَابِ، فَمَا زَادَ وَلَا نَقْصَ، وَلَا قَدَّمَ وَلَا أَخَّرَ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَغَيْرُهُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ أَحْفَظِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ بِأَفْضَلِهِمْ. وَقَالَ
الرَّبِيعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ
فِي دَهْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، ثَنَا الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ:
تَوَاعَدَ النَّاسُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي إِلَى قُبَّةٍ مِنْ قِبَابِ مُعَاوِيَةَ،
فَاجْتَمَعُوا فِيهَا، فَقَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَحَدَّثَهُمْ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ،
عَنْ أَخِيهِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ
أَكْثَرُ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو ; فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زُرْعَةَ
الرُّعَيْنِيُّ، ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ
يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ:
لَتَتْرُكَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ
رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ.
وَقَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: لَتَتْرُكَنَّ الْحَدِيثَ أَوْ لَأُلْحِقَنَّكَ
بِأَرْضِ الْقِرَدَةِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا مُسْهِرٍ
يَذْكُرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَحْوًا مِنْهُ، وَلَمْ
يُسْنِدْهُ. وَهَذَا مَحْمُولٌ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ خَشِيَ مِنَ
الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَضَعُهَا النَّاسُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَأَنَّهُمْ
يَتَّكِلُونَ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ أَحَادِيثِ الرُّخْصِ، أَوْ أَنَّ الرَّجُلَ
إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ رُبَّمَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِهِ بَعْضُ
الْغَلَطِ أَوِ الْخَطَأِ فَيَحْمِلُهَا النَّاسُ عَنْهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عُمَرَ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، فَقَالَ
مُسَدَّدٌ: ثَنَا خَالِدٌ الطَّحَّانُ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَبَلَغَ عُمَرَ حَدِيثِي، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ
فَقَالَ: كُنْتَ مَعَنَا يَوْمَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ فُلَانٍ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ
لِمَ سَأَلَتْنِي عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ سَأَلْتُكَ ؟ قُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ: " مَنْ كَذَبَ
عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". قَالَ:
إِمَّا لَى فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ - يَعْنِي
ابْنَ زِيَادٍ - ثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ - وَكَانَ يَبْتَدِئُ
حَدِيثَهُ
بِأَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو
الْقَاسِمِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -:مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ وَجْهٍ
آخَرَ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَجْلَانَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأُحَدِّثُ أَحَادِيثَ
لَوْ تَكَلَّمْتُ بِهَا فِي زَمَانِ عُمَرَ - أَوْ عِنْدَ عُمَرَ - لَشَجَّ
رَأْسِي.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ،
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَقُولَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى قُبِضَ عُمَرُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِيمَا يُعْمَلُ بِهِ.
قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفَكُنْتُ مُحَدِّثَكُمْ بِهَذِهِ
الْأَحَادِيثِ وَعُمَرُ حَيٌّ ؟ ! أَمَا وَاللَّهِ إِذًا لَأَيْقَنْتُ أَنَّ
الْمِخْفَفَةَ سَتُبَاشِرُ ظَهْرِي.
فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: اشْتَغِلُوا بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ
كَلَامُ اللَّهِ. وَلِهَذَا لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى إِلَى الْعِرَاقِ قَالَ
لَهُ: إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا لَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ دَوِيٌّ بِالْقُرْآنِ
كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَدَعْهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَا تَشْغَلْهُمْ
بِالْأَحَادِيثِ، وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ عُمَرَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ
يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ
تَبِعَ جِنَازَةً فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا
فَلَهُ قِيرَاطَانِ، الْقِيرَاطُ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ ". فَقَالَ لَهُ ابْنُ
عُمَرُ: أَبَا هِرٍّ، انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ حَتَّى انْطَلَقَ بِهِ
إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ
أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "
مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ
دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ " ؟ ؟ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.فَقَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْغَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرْسُ الْوَدِيِّ وَلَا صَفْقٌ بِالْأَسْوَاقِ،
إِنِّي إِنَّمَا كُنْتُ أَطْلُبُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَلِمَةً يُعَلِّمُنِيهَا، أَوْ أَكْلَةً يُطْعِمُنِيهَا. فَقَالَ لَهُ
ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ يَا أَبَا هِرٍّ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمَنَا بِحَدِيثِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي جِنَازَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَمْشِي
أَمَامَهَا وَيُكْثِرُ التَّرَحُّمَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: كَانَ مِمَّنْ يَحْفَظُ
حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ رَوَى أَنَّ عَائِشَةَ تَأَوَّلَتْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَوَهَّمَتْهُ فِي بَعْضِهَا. وَفِي " الصَّحِيحِ "
أَنَّهَا عَابَتْ عَلَيْهِ سَرْدَ الْحَدِيثِ. أَيِ الْإِكْثَارَ مِنْهُ فِي
السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ
الْكِنْدِيُّ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
سَعِيدٍ،
عَنْ سَعِيدٍ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَكْثَرَتِ الْحَدِيثَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ.
قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا كَانَتْ تَشْغَلُنِي عَنْهُ الْمُكْحُلَةُ
وَالْخِضَابُ، وَلَكِنِّي أَرَى ذَلِكَ شَغَلَكَ عَمَّا اسْتَكْثَرْتُ مِنْ
حَدِيثِي. قَالَتْ: لَعَلَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ الشَّامِيُّ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ أَتَى
أَبَا هُرَيْرَةَ فِي حُلَّةٍ يَتَبَخْتَرُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ،
إِنَّكَ تُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَهَلْ سَمِعْتَهُ يَقُولُ فِي حُلَّتِي هَذِهِ شَيْئًا ؟ قَالَ:
وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتُؤْذُونَنَا، وَلَوْلَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ
الْكِتَابِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ مَا حَدَّثْتُكُمْ
بِشَيْءٍ، سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَيْنَمَا هُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي
حُلَّةٍ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا حَتَّى
تَقُومَ السَّاعَةُ ". فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَانَ مِنْ
قَوْمِكَ. أَوْ: مِنْ رَهْطِكَ. شَكَّ أَبُو يَعْلَى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي كَثِيرُ
بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ
يَقُولُ لِمَرْوَانَ: وَاللَّهِ مَا أَنْتَ وَالٍ، وَإِنَّ الْوَالِيَ لَغَيْرُكَ
فَدَعْهُ - يَعْنِي حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْفِنُوا الْحَسَنَ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّكَ تَدَخَّلُ فِيمَا لَا
يَعْنِيكَ، إِنَّمَا تُرِيدُ بِهَذَا إِرْضَاءَ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْكَ. يَعْنِي
مُعَاوِيَةَ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ مُغْضَبًا، فَقَالَ: يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ قَالُوا: إِنَّكَ أَكْثَرْتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ. وَإِنَّمَا قَدِمْتَ قَبْلَ
وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ. فَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: نَعَمْ، قَدِمْتُ وَاللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ سَنَةَ
سَبْعٍ،
وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ زِدْتُ عَلَى الثَّلَاثِينَ سَنَةً سَنَوَاتٍ، وَأَقَمْتُ
مَعَهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، أَدُورُ مَعَهُ فِي بُيُوتِ نِسَائِهِ وَأَخْدِمُهُ،
وَأَنَا وَاللَّهِ يَوْمَئِذٍ مُقِلٌّ، وَأُصَلِّي خَلْفَهُ وَأَغْزُو وَأَحُجُّ
مَعَهُ، فَكُنْتُ وَاللَّهِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِهِ، قَدْ وَاللَّهِ
سَبَقَنِي قَوْمٌ - بِصُحْبَتِهِ وَالْهِجْرَةِ - مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ،
فَكَانُوا يَعْرِفُونَ لُزُومِي لَهُ، فَيَسْأَلُونِي عَنْ حَدِيثِهِ، مِنْهُمْ
عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَلَا وَاللَّهِ مَا
يَخْفَى عَلَيَّ كُلُّ حَدَثٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةٌ، وَكُلُّ صَاحِبٍ لَهُ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ
صَاحِبَهُ فِي الْغَارِ، وَغَيْرُهُ قَدْ أَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَنْ يُسَاكِنَهُ. يُعَرِّضُ
بِأَبِي مَرْوَانَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
لِيَسْأَلْنِي أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ
عِنْدِي مِنْهُ عِلْمًا جَمًّا وَمَقَالًا. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ
مَرْوَانُ يَقْصُرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَتَّقِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَخَافُهُ
وَيَخَافُ جَوَابَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِمَرْوَانَ: إِنِّي أَسْلَمْتُ
وَهَاجَرْتُ اخْتِيَارًا وَطَوْعًا، وَأَحْبَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبًّا شَدِيدًا، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الدَّارِ وَمَوْضِعُ
الدَّعْوَةِ، أَخْرَجْتُمُ الدَّاعِيَ مِنْ أَرْضِهِ، وَآذَيْتُمُوهُ
وَأَصْحَابَهُ، وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُكُمْ عَنْ إِسْلَامِي إِلَى الْوَقْتِ
الْمَكْرُوهِ إِلَيْكُمْ. فَنَدِمَ مَرْوَانُ عَلَى كَلَامِهِ لَهُ وَاتَّقَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ - يَعْنِي عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ
بْنِ
الْعَوَّامِ - قَالَ: قَالَ لِي أَبِي الزُّبَيْرُ: أَدْنِنِي مِنْ هَذَا
الْيَمَانِيِّ - يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ - فَإِنَّهُ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَأَدْنَيْتُهُ
مِنْهُ، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، وَجَعَلَ الزُّبَيْرُ يَقُولُ:
صَدَقَ، كَذَبَ، صَدَقَ، كَذَبَ. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَهْ، مَا قَوْلُكَ: صَدَقَ،
كَذَبَ ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَشُكُّ، وَلَكِنَّ
مِنْهَا مَا وَضَعَهُ عَلَى مَوَاضِعِهِ، وَمِنْهَا مَا وَضَعَهُ عَلَى غَيْرِ
مَوَاضِعِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي أَنَسِ
بْنِ أَبِي عَامِرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِذْ
دَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا نَدْرِي هَذَا
الْيَمَانِيُّ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْكُمْ، أَمْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا لَمْ يَقُلْ ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: وَاللَّهِ مَا نَشُكُّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَعَلِمَ
مَا لَمْ نَعْلَمْ، إِنَّا كُنَّا قَوْمًا أَغْنِيَاءَ، لَنَا بُيُوتَاتٌ
وَأَهْلُونَ، وَكُنَّا نَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ، ثُمَّ نَرْجِعُ، وَكَانَ مِسْكِينًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا
أَهْلَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ يَدُهُ مَعَ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، فَمَا نَشُكُّ
أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ، وَسَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ. وَقَدْ
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بْنحْوِهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ ؟ ! فَقَالَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ،
وَإِنِّي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَعْنِي: مَا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ.
وَقَالَ
مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الدَّارِمِيُّ، ثَنَا مَرْوَانُ الدِّمَشْقِيُّ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ،
حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ قَالَ: قَالَ لَنَا بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ:
اتَّقُوا اللَّهَ وَتَحَفَّظُوا مِنَ الْحَدِيثِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا
نُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحَدِّثُنَا عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، ثُمَّ يَقُومُ
فَأَسْمَعُ بَعْضَ مَنْ كَانَ مَعَنَا يَجْعَلُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَعْبٍ، وَحَدِيثَ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَجْعَلُ مَا قَالَهُ كَعْبٌ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَالَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَعْبٍ، فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَتَحَفَّظُوا فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: أَبُو هُرَيْرَةَ
كَانَ يُدَلِّسُ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَكَانَ شُعْبَةُ يُشِيرُ بِهَذَا
إِلَى حَدِيثِهِ: " مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صِيَامَ لَهُ ".
فَإِنَّهُ لَمَّا حُوقِقَ عَلَيْهِ قَالَ: أَخْبَرَنِيهِ مُخْبِرٌ، وَلَمْ
أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا
يَدَعُونَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
قَالَ: مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ بِكُلِّ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ
فِي أَحَادِيثِ
أَبِي
هُرَيْرَةَ شَيْئًا، وَمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَّا مَا كَانَ
مِنْ حَدِيثِ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ. وَقَدِ انْتَصَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ لِأَبِي
هُرَيْرَةَ، وَرَدَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. وَقَدْ
قَالَ مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ طَائِفَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَالْجُمْهُورُ
عَلَى خِلَافِهِمْ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنَ الصِّدْقِ
وَالْحِفْظِ وَالدِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ
عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ.
قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبَّاسٍ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ،
وَامْرَأَتُهُ ثُلُثَهُ، وَابْنَتُهُ ثُلُثَهُ، يَقُومُ هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ
هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا وَهَذَا.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:أَوْصَانِي خَلِيلِي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ
شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوَتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي
أُجَزِّئُ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجُزْءٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ،
وَجُزْءٌ أَنَامُ فِيهِ، وَجُزْءٌ أَتَذَكَّرُ فِيهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ عُثْمَانَ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: كَانَ
لِأَبِي هُرَيْرَةَ مَسْجِدٌ فِي مُخْدَعِهِ، وَمَسْجِدٌ فِي بَيْتِهِ، وَمَسْجِدٌ
فِي حُجْرَتِهِ، وَمَسْجِدٌ عَلَى بَابِ دَارِهِ، إِذَا خَرَجَ صَلَّى فِيهَا
جَمِيعِهَا،
وَإِذَا دَخَلَ صَلَّى فِيهَا جَمِيعِهَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ
عَشْرَةَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ، وَيَقُولُ: أُسَبِّحُ عَلَى قَدْرِ دِيَتِي.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي
مَيْسَرَةَ قَالَ: كَانَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ صَيْحَتَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ،
أَوَّلَ النَّهَارِ يَقُولُ: ذَهَبَ اللَّيْلُ وَجَاءَ النَّهَارُ، وَعُرِضَ آلُ
فِرْعَوْنَ عَلَى النَّارِ. وَإِذَا كَانَ الْعَشِيُّ يَقُولُ: ذَهَبَ النَّهَارُ
وَجَاءَ اللَّيْلُ، وَعُرِضَ آلُ فِرْعَوْنَ عَلَى النَّارِ. فَلَا يَسْمَعُ
أَحَدٌ صَوْتَهُ إِلَّا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: ثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ
زِيَادِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَا تَغْبِطَنَّ فَاجِرًا
بِنِعْمَةٍ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ طَالِبًا حَثِيثًا طَلَبُهُ ; جَهَنَّمُ
كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 97 ].
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ
صَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمًا، فَلَمَّا سَلَّمَ رَفْعَ صَوْتَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ قَوَامًا، وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا،
بَعْدمَا كَانَ أَجِيرًا لِابْنةِ غَزْوَانَ عَلَى شِبَعِ بَطْنِهِ وَحُمُولَةِ
رِجْلِهِ. ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، إِنْ كَانَتْ
إِجَارَتِي مَعَهُمْ إِلَّا عَلَى كِسْرَةٍ يَابِسَةٍ،
وَعُقْبَةٍ
فِي لَيْلَةٍ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ، ثُمَّ زَوَّجَنِيهَا اللَّهُ، فَكُنْتُ
أَرْكَبُ إِذَا رَكِبُوا، وَأَخْدِمُ إِذَا نَزَلُوا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا
سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: نَشَأَتُ يَتِيمًا، وَهَاجَرَتُ مِسْكِينًا، وَكُنْتُ أَجِيرًا لِابْنةِ
غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي وَعُقْبَةِ رِجْلِي، أَحْدُو بِهِمْ إِذَا رَكِبُوا،
وَأَحْتَطِبُ إِذَا نَزَلُوا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ
قَوَامًا وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجَوْزَجَانِيُّ: ثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ
نُصَيْرٍ، ثَنَا هِلَالُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو
ذَرٍّ: بَابٌ مِنَ الْعِلْمِ نَتَعَلَّمُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَلْفِ
رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا، وَبَابٌ نُعَلِّمُهُ - عَمِلْنَا بِهِ أَوْ لَمْ نَعْمَلْ
بِهِ - أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ مِائَةِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا. وَقَالَا: سَمِعَنَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا جَاءَ
طَالِبَ الْعِلْمِ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ
". وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي
سُجُودِهِ أَنْ يَزْنِيَ أَوْ يَسْرِقَ أَوْ يَكْفُرَ أَوْ يَعْمَلَ بِكَبِيرَةٍ.
فَقِيلَ لَهُ: أَتَخَافُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: مَا يُؤَمِّنُنِي وَإِبْلِيسُ حَيٌّ،
وَمُصَرِّفُ الْقُلُوبِ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ ؟
وَقَالَتْ
لَهُ ابْنَتُهُ: يَا أَبَتِ، إِنَّ الْبَنَاتَ يُعَيِّرْنَنِي يَقُلْنَ: لِمَ لَا
يَحْلِيكِ أَبُوكِ بِالذَّهَبِ ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، قُولِي لَهُنَّ: إِنَّ
أَبِي يَخْشَى عَلَيَّ حَرَّ اللَّهَبِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُمْتُ لَهُ
وَهُوَ يُسَبِّحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَانْتَظَرْتُهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ
دَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - قَالَ:
وَمَا أُرِيدُ إِلَّا الطَّعَامَ - قَالَ: فَأَقْرَأَنِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ
" آلِ عِمْرَانَ "، فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَهُ دَخَلَ وَتَرَكَنِي عَلَى
الْبَابِ فَأَبْطَأَ، فَقُلْتُ: يَنْزِعُ ثِيَابَهُ ثُمَّ يَأْمُرُ لِي بِطَعَامٍ.
فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ قُمْتُ فَمَشَيْتُ، فَاسْتَقْبَلَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَنِي فَقَالَ: "
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّ خُلُوفَ فَمِكَ اللَّيْلَةَ لَشَدِيدٌ ".
فَقُلْتُ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ ظَلَلْتُ صَائِمًا وَمَا أَفْطَرْتُ
بَعْدُ، وَمَا أَجِدُ مَا أُفْطِرُ عَلَيْهِ. قَالَ: " فَانْطَلَقَ ".
فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَى بَيْتَهُ، فَدَعَا جَارِيَةً لَهُ سَوْدَاءَ،
فَقَالَ: " ائْتِينَا بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ ". فَأَتَتْنَا بِقَصْعَةٍ
فِيهَا وَضُرٌ مِنْ طَعَامٍ، أَرَاهُ شَعِيرًا قَدْ أُكِلَ وَبَقِيَ فِي
جَوَانِبِهَا بَعْضُهُ وَهُوَ يَسِيرٌ، فَسَمَّيْتُ وَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ،
فَأَكَلْتُ حَتَّى شَبِعْتُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِابْنَتِهِ: لَا تَلْبَسِي الذَّهَبَ، فَإِنِّي أَخْشَى
عَلَيْكِ حَرَّ اللَّهَبِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ
طُرُقٍ.
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ
حَرْبٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ
هَذِهِ الْكُنَاسَةَ مَهْلَكَةُ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ. يَعْنِي الشَّهَوَاتِ
وَمَا يَأْكُلُونَهُ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَعَاهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ، فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ،
فَقَالَ: أَتَكْرَهُ الْعَمَلَ، وَقَدْ عَمِلَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ - أَوْ
قَالَ: قَدْ طَلَبَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ؟ - قَالَ: مَنْ ؟ قَالَ: يُوسُفُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُوسُفُ نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ،
وَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ بْنُ أُمَيْمَةَ، فَأَخْشَى ثَلَاثًا وَاثْنَتَيْنِ.
فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلَا قُلْتَ خَمْسًا ؟ قَالَ: أَخْشَى أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ
عِلْمٍ، وَأَقْضِيَ بِغَيْرِ حُكْمٍ، وَأَنْ يُضْرَبَ ظَهْرِي، وَيُنْتَزَعَ مَا
لِي، وَيُشْتَمَ عِرْضِي.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَلَا تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ
الْغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ ؟ " فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ أَنْ
تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ. قَالَ: فَنَزَعْتُ نَمِرَةً عَلَى
ظَهْرِي، فَبَسَطْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى
الْقَمْلِ يَدِبُّ عَلَيْهَا، فَحَدَّثَنِي حَتَّى إِذَا اسْتَوْعَبَ حَدِيثَهُ
قَالَ: " اجْمَعْهَا إِلَيْكَ فَصُرَّهَا ". فَأَصْبَحْتُ لَا أُسْقِطُ
حَرْفًا مِمَّا حَدَّثَنِي.
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: كَيْفَ تَصُومُ
؟ قَالَ: أَصُومُ أَوَّلَ الشَّهْرِ ثَلَاثًا، فَإِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ كَانَ لِي
أَجْرُ شَهْرِي.
وَقَالَ
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ فِي سَفَرٍ وَمَعَهُ قَوْمٌ، فَلَمَّا نَزَلُوا وَضَعُوا
السُّفْرَةَ وَبَعَثُوا إِلَيْهِ لِيَأْكُلَ مَعَهُمْ فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ.
فَلَمَّا كَادُوا أَنْ يَفْرَغُوا مِنْ أَكْلِهِمْ جَاءَ فَجَعَلَ يَأْكُلُ،
فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِهِمُ الَّذِي أَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ،
فَقَالَ لَهُمْ: أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، قَدْ وَاللَّهِ أَخْبَرَنِي
أَنَّهُ صَائِمٌ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " صَوْمُ شَهْرِ
الصَّبْرِ وَصَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ
". وَقَدْ صُمْتُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَأَنَا
مُفْطِرٌ فِي تَخْفِيفِ اللَّهِ، صَائِمٌ فِي تَضْعِيفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمرٍو، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ
هُوَ وَأَصْحَابٌ لَهُ إِذَا صَامُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالُوا:
نُظَهِّرُ صِيَامَنَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحِدَادُ، حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ الشَّحَّامُ أَبُو سَلَمَةَ، ثَنَا فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ قَالَ: كَانَ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلٌ لِي مِنْ بَطْنِي،
إِنْ أَشْبَعْتُهُ كَظَّنِي، وَإِنْ أَجَعْتُهُ أَضْعَفَنِي.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ
عَزَّ
وَجَلَّ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ مَرَّةٍ،
وَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ دِيَتِي.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ لَهُ
خَيْطٌ فِيهِ اثَنَا عَشَرَ أَلْفَ عُقَدْةٍ يُسَبِّحُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَلْفَا عُقَدْةٍ، فَلَا يَنَامُ حَتَّى يُسَبِّحَ بِهِ. وَهُوَ
أَصَحُّ مِنَ الَّذِي قَبِلَهُ.
وَلِمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بَكَى فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقَالَ: مَا
أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى بُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ
زَادِي، وَإِنِّي أَصْبَحْتُ فِي صُعُودٍ مُهْبِطٍ عَلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ، لَا
أَدْرِي إِلَى أَيِّهِمَا يُؤْخَذُ بِي.
وَرَوَى قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا زَوَّقْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ
وَحَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ فَالدَّمَارُ عَلَيْكُمْ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ بِجِنَازَةٍ قَالَ: رُوحُوا فَإِنَّا غَادُونَ، أَوِ
اغْدُوَا فَإِنَّا رَائِحُونَ، مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ، وَغَفْلَةٌ سَرِيعَةٌ،
يَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَيَبْقَى الْآخِرُ لَا عَقْلَ لَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ لَيْثُ بْنُ خَالِدٍ
الْبَلْخِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّدُوسِيُّ
قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا يَزِيدَ الْمَدِينِيَّ يَقُولُ: قَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى
مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَقَامِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: وَيْلٌ
لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، وَيْلٌ لَهُمْ مِنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ
; يَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِالْهَوَى وَيَقْتُلُونَ بِالْغَضَبِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أُسَامَةَ
بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: كَانَتْ لِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَمَرَةً، فَأَفْطَرْتُ عَلَى خَمْسٍ،
وَتَسَحَّرْتُ بِخَمْسٍ، وَأَبْقَيْتُ خَمْسًا لِفِطْرِي.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ
- يَعْنِي الْعَبْدِيَّ - عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
كَانَتْ لَهُمْ زِنْجِيَّةٌ قَدْ غَمَّتْهُمْ بِعَمَلِهَا، فَرَفَعَ عَلَيْهَا
يَوْمًا السَّوْطَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا الْقِصَاصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَأَغْشَيْتُكِ
بِهِ، وَلَكِنْ سَأَبِيعُكِ مِمَّنْ يُوَفِّينِي ثَمَنَكِ أَحْوَجَ مَا أَكُونُ
إِلَيْهِ، اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مَرِضَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ
أَعُودُهُ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اشْفِ أَبَا هُرَيْرَةَ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا
تُرْجِعْهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى
النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَى أَحَدِهِمْ مِنَ الذَّهَبِ
الْأَحْمَرِ.
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ سِتًّا، فَإِنْ
كَانَتْ نَفْسُ أَحَدِكُمْ فِي يَدِهِ فَلْيُرْسِلْهَا، فَلِذَلِكَ أَتَمَنَّى
الْمَوْتَ أَخَافُ أَنْ تُدْرِكَنِي ; إِذَا أُمِّرَتِ السُّفَهَاءُ،
وَبِيعَ
الْحُكْمُ، وَتُهُوِّنُ بِالدَّمِ، وَقُطَّعَتِ الْأَرْحَامُ، وَكَثُرَتِ
الْجَلَاوِزَةُ، وَنَشَأَ نَشْءٌ يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
زِيَادٍ الْقُرَظِيِّ، أَنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيَّ،
حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَقْبَلَ فِي السُّوقِ يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ
- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ - فَقَالَ: أَوْسِعِ
الطَّرِيقَ لِلْأَمِيرِ يَا ابْنَ أَبِي مَالِكٍ. فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ
يَكْفِي هَذَا. فَقَالَ: أَوْسِعِ الطَّرِيقَ لِلْأَمِيرِ وَالْحُزْمَةُ عَلَيْهِ.
وَلَهُ فَضَائِلُ وَمَنَاقِبُ وَمَآثِرُ وَكَلَامٌ حَسَنٌ وَمَوَاعِظُ جَمَّةٌ،
أَسْلَمَ كَمَا قَدَّمْنَا عَامَ خَيْبَرَ، فَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ إِلَّا حِينَ بَعَثَهُ مَعَ
الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَوَصَّاهُ بِهِ، فَجَعَلَهُ
الْعَلَاءُ مُؤَذِّنًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا
تَسْبِقْنِي بِآمِينَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ إِمَارَتِهِ، وَقَاسَمَهُ مَعَ جُمْلَةِ
الْعُمَّالِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ، أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ
بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اسْتَأْثَرْتَ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ
أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّ كِتَابِهِ ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَسْتُ
بِعَدُوِّ اللَّهِ وَلَا عَدُوِّ كتَابِهِ، وَلَكِنِّي عَدُوُّ مَنْ عَادَاهُمَا.
فَقَالَ: فَمِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ ؟ قَالَ: خَيْلٌ
نُتِجَتْ،
وَغَلَّةٌ وَرَقِيقٌ لِي، وَأَعْطِيَةٌ تَتَابَعَتْ عَلَيَّ. فَنَظَرُوا
فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ دَعَاهُ عُمَرُ
لِيَسْتَعْمِلَهُ، فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: تَكْرَهُ الْعَمَلَ،
وَقَدْ طَلَبَهُ مَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْكَ ؟ طَلَبَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. فَقَالَ: إِنَّ يُوسُفَ نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ ابْنِ
نَبِيٍّ، وَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ بْنُ أُمَيْمَةَ وَأَخْشَى ثَلَاثًا
وَاثْنَتَيْنِ. قَالَ عُمَرُ: فَهَلَّا قُلْتَ خَمْسَةً ؟ قَالَ: أَخْشَى أَنْ
أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَقْضِيَ بِغَيْرِ حُكْمٍ، أَوْ يُضْرَبَ ظَهْرِي،
وَيُنْتَزَعَ مَالِي، وَيُشْتَمُ عِرْضِي.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ أَغْرَمَهُ فِي الْعِمَالَةِ الْأُولَى اثْنَيْ
عَشَرَ أَلْفًا، فَلِهَذَا امْتَنَعَ فِي الثَّانِيَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ:
كَانَ مُعَاوِيَةُ يَبْعَثُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَإِذَا غَضِبَ
عَلَيْهِ عَزَلَهُ وَوَلَّى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَإِذَا جَاءَ أَبُو
هُرَيْرَةَ إِلَى مَرْوَانَ حَجَبَهُ عَنْهُ، فَعَزَلَ مَرْوَانَ وَرَجَعَ أَبُو
هُرَيْرَةَ، فَقَالَ لِمَوْلَاهُ: مَنْ جَاءَكَ فَلَا تَرُدَّهُ، وَاحَجُبْ
مَرْوَانَ. فَلَمَّا جَاءَ مَرْوَانُ دَفَعَ الْغُلَامُ فِي صَدْرِهِ، فَمَا
دَخَلَ إِلَّا بَعْدَ جُهْدٍ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: إِنَّ الْغُلَامَ حَجَبَنَا
عَنْكَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّكَ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ لَا
تَغْضَبَ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ مَرْوَانَ هُوَ الَّذِي كَانَ
يَسْتَنِيبُ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ كَانَ يَكُونُ
عَنْ إِذْنِ مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: كَانَ
مَرْوَانُ رُبَّمَا
اسْتَخْلَفَ
أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَيَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيَلْقَى الرَّجُلَ
فَيَقُولُ: الطَّرِيقَ، قَدْ جَاءَ الْأَمِيرُ. يَعْنِي نَفْسَهُ، وَكَانَ يَمُرُّ
بِالصِّبْيَانِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِاللَّيْلِ لُعْبَةَ الْأَعْرَابِ، فَلَا
يَشْعُرُونَ بِهِ حَتَّى يُلْقِي نَفْسَهُ بَيْنَهُمْ وَيَضْرِبُ بِرِجْلَيْهِ
كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ، فَيَفْزَعُ الصِّبْيَانُ مِنْهُ وَيَفِرُّونَ. قَالَ أَبُو
رَافِعٍ: وَرُبَّمَا دَعَانِي أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى عَشَائِهِ بِاللَّيْلِ،
فَيَقُولُ: دَعِ الْعِرَاقَ لِلْأَمِيرِ - يَعْنِي قِطَعَ اللَّحْمِ - قَالَ:
فَأَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ ثَرِيدٌ بِزَيْتٍ.
وَقَالَ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ كَاتِبُ مَرْوَانَ: بَعَثَ مَرْوَانُ إِلَى أَبِي
هُرَيْرَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَعْثَ إِلَيْهِ: إِنِّي
غَلِطْتُ وَلَمْ أُرِدْكَ بِهَا، وَإِنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ غَيْرَكَ. فَقَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: قَدْ أَخْرَجْتُهَا، فَإِذَا خَرَجَ عَطَائِي فَخُذْهَا مِنْهُ.
وَكَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهَا. وَإِنَّمَا أَرَادَ مَرْوَانُ اخْتِبَارَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ،
ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ إِذَا أَعْطَى أَبَا هُرَيْرَةَ سَكَتَ،
وَإِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ تَكَلَّمَ.
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ جَاءَهُ شَابٌّ فَقَالَ:
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا، فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي،
فَجَاءَنِي بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ، فَأَكَلْتُ نَاسِيًا. فَقَالَ: طُعْمَةٌ
أَطْعَمَكَهَا اللَّهُ، لَا عَلَيْكَ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ دَارًا لِأَهْلِي
فَجِيءَ بِلَبَنِ لَقْحَةٍ، فَشَرِبْتُهُ نَاسِيًا. قَالَ: لَا عَلَيْكَ. قَالَ:
ثُمَّ نِمْتُ، فَاسْتَيْقَظْتُ، فَشَرِبْتُ مَاءً - وَفِي
رِوَايَةٍ:
وَجَامَعْتُ نَاسِيًا - فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّكَ يَا ابْنَ أَخِي لَمْ
تَعَوَّدِ الصِّيَامَ.
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ، أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَكَى، فَقِيلَ
لَهُ: مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ: عَلَى قِلَّةِ الزَّادِ وَشِدَّةِ الْمَفَازَةِ،
وَأَنَا عَلَى عَقَبَةِ هُبُوطٍ ; إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى نَارٍ،
فَمَا أَدْرِي إِلَى أَيِّهِمَا أَصِيرُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: دَخَلَ
مَرْوَانُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ:
شَفَاكَ اللَّهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اللَّهُمَّ
إِنِّي أُحِبُّ لِقَاءَكَ فَأَحِبَّ لِقَائِي. قَالَ: فَمَا بَلَغَ مَرْوَانُ
أَصْحَابَ الْقَطَا حَتَّى مَاتَ أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ
جَابِرٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اللَّهُمَّ
لَا تُدْرِكْنِي سَنَةَ سِتِّينَ. قَالَ: فَتُوُفِّيَ فِيهَا أَوْ قَبْلَهَا
بِسَنَةٍ. وَهَكَذَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَى عَائِشَةَ فِي رَمَضَانَ،
وَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ
أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَهُمَا فِيهَا. كَذَا قَالَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ أُمَّ
سَلَمَةَ تَأَخَّرَتْ بَعْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ:
إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: ثَمَانٍ - وَقِيلَ: سَبْعٍ
- وَخَمْسِينَ. وَالْمَشْهُورُ تِسْعٌ
وَخَمْسِينَ. قَالُوا: وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ نَائِبُ الْمَدِينَةِ وَفِي الْقَوْمِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَخَلْقٌ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي دَارِهِ بِالْعَقِيقِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَكَتَبَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِوَفَاةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنِ انْظُرْ وَرَثَتَهُ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ، وَاصْرِفْ إِلَيْهِمْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَحْسِنْ جِوَارَهُمْ، وَاعْمَلْ إِلَيْهِمْ مَعْرُوفًا ; فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ نَصَرَ عُثْمَانَ، وَكَانَ مَعَهُ فِي الدَّارِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
سَنَةُ
سِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَدِينَةَ سُورِيَّةَ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا دَخَلَ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ جَزِيرَةَ رُودِسَ
وَهَدَمَ مَدِينَتَهَا. وَفِيهَا أَخَذَ مُعَاوِيَةُ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ مِنَ
الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا صُحْبَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى
دِمَشْقَ. وَفِيهَا مَرِضَ مُعَاوِيَةُ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فِي
رَجَبٍ مِنْهَا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِخْنَفٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّ
مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَرِضَ مَرْضَتَهُ الَّتِي هَلَكَ فِيهَا، دَعَا ابْنَهُ
يَزِيدَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَ الرِّحْلَةَ وَالرِّجَالَ،
وَوَطَّأْتُ لَكَ الْأَشْيَاءَ، وَذَلَّلْتُ لَكَ الْأَعْدَاءَ، وَأَخْضَعْتُ لَكَ
أَعْنَاقَ الْعَرَبِ، وَإِنِّي لَا أَتَخَوَّفُ أَنْ يُنَازِعَكَ هَذَا الْأَمْرَ
الَّذِي اسْتَتَبَّ لَكَ إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ ; الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ - كَذَا قَالَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ قَبْلَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بِسَنَتَيْنِ كَمَا
قَدَّمْنَا - فَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَرَجُلٌ قَدْ وَقَذَتْهُ الْعِبَادَةَ،
وَإِذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ غَيْرُهُ بَايَعَكَ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَإِنَّ
أَهْلَ الْعِرَاقِ لَا يَدْعُونَهُ حَتَّى يُخْرِجُوهُ، فَإِنْ
خَرَجَ
عَلَيْكَ فَظَفِرْتَ بِهِ فَاصْفَحْ عَنْهُ، فَإِنَّ لَهُ رَحِمًا مَاسَّةً،
وَحَقًّا عَظِيمًا، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي بَكْرٍ فَرَجُلٌ إِنْ رَأَى أَصْحَابَهُ
صَنَعُوا شَيْئًا صَنَعَ مِثْلَهُ، لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا فِي النِّسَاءِ
وَاللَّهْوِ، وَأَمَّا الَّذِي يَجْثُمُ لَكَ جُثُومَ الْأَسَدِ، وَيُرَاوِغُكَ
رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ، وَإِذَا أَمْكَنَتْهُ فُرْصَةٌ وَثَبَ، فَذَاكَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ، فَإِنْ هُوَ فَعَلَهَا بِكَ فَقَدَرْتَ عَلَيْهِ فَقَطِّعْهُ إِرْبًا
إِرْبًا.
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: فَحِينَ حَضَرَتْ مُعَاوِيَةَ الْوَفَاةُ كَانَ يَزِيدُ فِي
الصَّيْدِ، فَاسْتَدْعَى مُعَاوِيَةُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ -
وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ دِمَشْقَ - وَمُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ فَأَوْصَى
إِلَيْهِمَا أَنْ يُبَلِّغَا يَزِيدَ السَّلَامَ وَيَقُولَا لَهُ يَتَوَصَّى
بِأَهْلِ الْحِجَازِ، وَإِنْ سَأَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْ
يَعْزِلَ عَنْهُمْ عَامِلًا وَيُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ آخَرَ فَلْيَفْعَلْ، فَعَزْلُ
وَاحِدٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ يُسَلَّ عَلَيْكَ مِائَةُ أَلْفِ سَيْفٍ،
وَأَنْ يَتَوَصَّى بِأَهْلِ الشَّامِ خَيْرًا، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ أَنْصَارَهُ،
وَأَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَلَسْتُ أَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ قُرَيْشٍ سِوَى
ثَلَاثَةٍ ; الْحُسَيْنِ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ - وَلَمْ يَذْكُرْ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا أَصَحُّ - فَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ
فَقَدْ وَقَذَتْهُ الْعِبَادَةُ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَرَجُلٌ خَفِيفٌ،
وَأَرْجُو أَنْ يَكْفِيَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنْ قَتَلَ أَبَاهُ وَخَذَلَ
أَخَاهُ، وَإِنَّ لَهُ رَحِمًا مَاسَّةً وَحَقًّا عَظِيمًا، وَقَرَابَةً مِنْ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَظُنُّ أَهْلَ الْعِرَاقِ
تَارِكِيهِ حَتَّى يُخْرِجُوهُ، فَإِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَاصْفَحْ عَنْهُ،
فَإِنِّي لَوْ أَنِّي صَاحِبُهُ عَفَوْتُ عَنْهُ، وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ
فَإِنَّهُ خَبٌّ ضَبٌّ، فَإِنْ شَخَصَ لَكَ فَالْبَدْ لَهُ إِلَّا
أَنْ
يَلْتَمِسَ مِنْكَ صُلْحًا، فَإِنْ فَعَلَ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَاصْفَحْ عَنْ
دِمَاءِ قَوْمِكَ مَا اسْتَطَعْتَ.
وَكَانَ مَوْتُ مُعَاوِيَةَ لِاسْتِهْلَالِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ
هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقِيلَ: لِلنِّصْفِ مِنْهُ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ.
وَقِيلَ: يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْهُ. قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ هَلَكَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِ اسْتِقْلَالًا مِنْ جُمَادَى سَنَةَ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ حِينَ بَايَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بِأَذْرُحَ، فَذَلِكَ
تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَ نَائِبًا فِي الشَّامِ
عِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ
سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَمَانِيًا وَسَبْعِينَ
سَنَةً. وَقِيلَ: خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ
فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ تَرْجَمَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو السِّكِّينِ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى: حَدَّثَنِي عَمُّ أَبِي
زَحْرُ بْنُ حِصْنٍ، عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مِنْهَبٍ قَالَ: كَانَتْ هِنْدُ
بِنْتُ عُتْبَةَ عِنْدَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَكَانَ
الْفَاكِهُ مِنْ فِتْيَانِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ لَهُ بَيْتٌ لِلضِّيَافَةِ يَغْشَاهُ
النَّاسُ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، فَخَلَا ذَلِكَ الْبَيْتُ يَوْمًا، فَاضْطَجَعَ
الْفَاكِهُ وَهِنْدُ فِيهِ فِي وَقْتِ الْقَائِلَةِ، ثُمَّ خَرَجَ الْفَاكِهُ
لِبَعْضِ شَأْنِهِ، وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَغْشَاهُ، فَوَلَجَ
الْبَيْتَ، فَلَمَّا رَأَى الْمَرْأَةَ
وَلَّى هَارِبًا، وَأَبْصَرَهُ الْفَاكِهُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْبَيْتِ، فَأَقْبَلَ إِلَى هِنْدَ فَضَرَبَهَا بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي كَانَ عِنْدَكِ ؟ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، وَلَا انْتَبَهْتُ حَتَّى أَنْبَهْتَنِي أَنْتَ. فَقَالَ لَهَا: الْحَقِي بِأَبِيكِ. وَتَكَلَّمَ فِيهَا النَّاسُ، فَقَالَ لَهَا أَبُوهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيكِ، فَأَنْبِئِينِي نَبَأَكِ، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ عَلَيْكِ صَادِقًا دَسَسْتُ إِلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ فَيَنْقَطِعُ عَنْكِ الْقَالَةُ، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا حَاكَمْتُهُ إِلَى بَعْضِ كُهَّانِالْيَمَنِ. فَحَلَفَتْ لَهُ بِمَا كَانُوا يَحْلِفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ عَلَيْهَا. فَقَالَ عُتْبَةُ لِلْفَاكِهِ: يَا هَذَا، إِنَّكَ قَدْ رَمَيْتَ ابْنَتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَحَاكِمْنِي إِلَى بَعْضِ كُهَّانِ الْيَمَنِ. فَخَرَجَ الْفَاكِهُ فِي بَعْضِ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَخَرَجَ عُتْبَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِهِنْدَ وَنِسْوَةٍ مَعَهَا، فَلَمَّا شَارَفُوا الْبِلَادَ وَقَالُوا: غَدًا نَرِدُ عَلَى الْكَاهِنِ. تَنَكَّرَتْ حَالُ هِنْدَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُوهَا: يَا بُنَيَّةُ، قَدْ أَرَى مَا بِكِ مِنْ تَنَكُّرِ الْحَالِ، وَمَا ذَاكَ عِنْدَكِ إِلَّا لِمَكْرُوهٍ فَأَلَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُشْتَهَرَ فِي النَّاسِ مَسِيرُنَا ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ يَا أَبَتَاهُ مَا هَذَا الَّذِي تَرَاهُ مِنِّي لِمَكْرُوهٍ وَقْعَ مِنِّي، وَإِنِّي لَبَرِيئَةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي تَرَاهُ مِنَ الْحُزْنِ وَتَغَيُّرِ الْحَالِ هُوَ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَأْتُونَ هَذَا الْكَاهِنَ، وَهُوَ بَشَرٌ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَا آمَنُهُ أَنْ يَسِمَنِي مَيْسَمًا يَكُونُ عَلَيَّ سُبَّةً فِي
الْعَرَبِ. فَقَالَ لَهَا أَبُوهَا: لَا تَخَافِي فَإِنِّي سَوْفَ أَخْتَبِرُهُ وَأَمْتَحِنُهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي شَأْنِكِ وَأَمْرِكِ، فَإِنْ أَخْطَأَ فِيمَا أَمْتَحِنُهُ بِهِ لَمْ أَدَعْهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِكِ. ثُمَّ إِنَّهُ انْفَرَدَ عَنِ الْقَوْمِ - وَكَانَ رَاكِبًا مُهْرًا - حَتَّى تَوَارَى عَنْهُمْ خَلْفَ رَابِيَةٍ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، ثُمَّ صَفَّرَ لَهُ حَتَّى أَدْلَى، ثُمَّ أَخَذَ حَبَّةَ بُرٍّ، فَأَدْخَلَهَا فِي إِحْلِيلِ الْمُهْرِ، وَأَوْكَى عَلَيْهَا بِسَيْرٍ، فَلَمَّا وَرَدُوا عَلَى الْكَاهِنِ أَكْرَمَهُمْ وَنَحَرَ لَهُمْ، فَلَمَّا تَغَدُّوا قَالَ لَهُ عُتْبَةُ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكَ فِي أَمْرٍ، وَلَكِنْ لَا أَدْعُكَ تَتَكَلَّمُ فِيهِ حَتَّى تُبَيِّنَ لَنَا مَا خَبَّأْتُ لَكَ، فَإِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئًا، فَانْظُرْ مَا هُوَ. قَالَ الْكَاهِنُ: ثَمَرَةٌ فِي كَمَرَةٍ. قَالَ: أُرِيدُ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا. قَالَ: حَبَّةٌ مِنْ بُرٍّ فِي إِحْلِيلِ مُهْرٍ. قَالَ: صَدَقْتَ، فَخُذْ لِمَا جِئْنَاكَ لَهُ، انْظُرْ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ. فَأَجْلَسَ النِّسَاءَ خَلْفَهُ، وَهِنْدُ مَعَهُمْ لَا يَعْرِفُهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ فَيَضْرِبُ كَتِفَهَا وَيَقُولُ: انْهَضِي. حَتَّى دَنَا مِنْ هِنْدَ، فَضَرَبَ كَتِفَهَا وَقَالَ: انْهَضِي، غَيْرَ رَسْحَاءَ، وَلَا زَانِيَةٍ، وَلَتَلِدِنَّ مَلِكًا يُقَالُ لَهُ: مُعَاوِيَةُ. فَوَثَبَ إِلَيْهَا الْفَاكِهُ فَأَخْذَ بِيَدِهَا، فَنَتَرَتْ يَدَهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَالَتْ لَهُ إِلَيْكَ عَنِّي، وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَكَ وِسَادَةٌ، وَاللَّهِ لَأَحْرِصَنَّ عَلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَلِكُ مِنْ غَيْرِكَ. فَتَزَوَّجَهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَجَاءَتْ مِنْهُ بِمُعَاوِيَةَ.
وَهَذِهِ
تَرْجَمَةُ مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَيَّامِهِ،
وَدَوْلَتِهِ، وَمَا وَرَدَ فِي مَنَاقِبِهِ وَفَضَائِلِهِ
هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، خَالُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَاتِبُ وَحْيِ رَسُولِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ. وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ.
أَسْلَمَ مُعَاوِيَةُ عَامَ الْفَتْحِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَسْلَمْتُ
يَوْمَ الْقَضِيَّةِ، وَلَكِنْ كَتَمْتُ إِسْلَامِي مِنْ أَبِي، ثُمَّ عَلِمَ
بِذَلِكَ فَقَالَ لِي: هَذَا أَخُوكَ يَزِيدُ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ عَلَى دِينِ
قَوْمِهِ. فَقُلْتُ لَهُ: لَمْ آلُ نَفْسِي جُهْدًا. قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَلَقَدْ
دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ وَإِنِّي لَمُصَدِّقٌ بِهِ، ثُمَّ لَمَّا دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ
أَظْهَرْتُ إِسْلَامِي، فَجِئْتُهُ فَرَحَّبَ بِي، وَكَتَبْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَشَهِدَ مَعَهُ حُنَيْنًا، وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنَ
الْإِبِلِ، وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَزَنَهَا لَهُ بِلَالٌ.
وَشَهِدَ الْيَمَامَةَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ
مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَقَدْ يَكُونُ لَهُ شِرْكٌ
فِي قَتْلِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي طَعَنَهُ وَحْشِيٌّ، وَجَلَّلَهُ أَبُو
دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ بِالسَّيْفِ.
وَكَانَ
أَبُوهُ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَفَرَّدَ فِيهِمْ
بِالسُّؤْدَدِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمَ حَسُنَ بَعْدَ ذَلِكَ
إِسْلَامُهُ، وَكَانَ لَهُ مَوَاقِفُ شَرِيفَةٌ، وَآثَارٌ مَحْمُودَةٌ فِي يَوْمِ
الْيَرْمُوكِ وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ.
وَصَحِبَ مُعَاوِيَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكَتَبَ الْوَحْيَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ الْكُتَّابِ، وَرَوَى عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً فِي "
الصَّحِيحَيْنِ "، وَغَيْرَهُمَا مِنَ " السُّنَنِ " وَ "
الْمَسَانِيدِ "، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَينِ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: كَانَ مُعَاوِيَةُ طَوِيلًا أَبْيَضَ
جَمِيلًا، إِذَا ضَحِكَ انْقَلَبَتْ شَفَتُهُ الْعُلْيَا، وَكَانَ يُخَضِّبُ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْأَدَمِيُّ، ثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ رَبٍّ قَالَ: رَأَيْتُ
مُعَاوِيَةَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ كَأَنَّهَا الذَّهَبُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَبْيَضَ طَوِيلًا، أَجْلَحَ أَبْيَضَ الرَّأْسِ
وَاللِّحْيَةِ، يُخَضِّبُهُمَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَقَدْ أَصَابَتْهُ لَقْوَةٌ
فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَكَانَ يَسْتُرُ وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ
عَبْدًا دَعَا لِي بِالْعَافِيَةِ، فَقَدْ رُمِيتُ فِي أَحْسَنِي وَمَا يَبْدُو
مِنِّي، وَلَوْلَا هَوَايَ فِي يَزِيدَ لَأَبْصَرْتُ رُشْدِي. وَكَانَ حَلِيمًا
وَقُورًا رَئِيسًا سَيِّدًا فِي النَّاسِ، كَرِيمًا عَادِلًا شَهْمًا.
وَقَالَ
الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: رَأَى بَعْضُ مُتَفَرِّسِي
الْعَرَبِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّ هَذَا
الْغُلَامَ سَيَسُودُ قَوْمَهُ. فَقَالَتْ هِنْدُ: ثَكِلْتُهُ إِنْ كَانَ لَا
يَسُودُ إِلَّا قَوْمَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: رَأَيْتُ هِنْدَ بِمَكَّةَ
كَأَنَّ وَجْهَهَا فِلْقَةُ قَمَرٍ، وَخَلْفَهَا مِنْ عَجِيزَتِهَا مِثْلُ
الرَّجُلِ الْجَالِسِ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ يَلْعَبُ، فَمَرَّ رَجُلٌ، فَنَظَرَ
إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى غُلَامًا إِنْ عَاشَ لَيَسُودَنَّ قَوْمَهُ.
فَقَالَتْ هِنْدُ: إِنْ لَمْ يَسُدْ إِلَّا قَوْمَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ. وَهُوَ
مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي سَيْفٍ قَالَ: نَظَرَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمًا إِلَى
مُعَاوِيَةَ وَهُوَ غُلَامٌ، فَقَالَ لِهِنْدَ: إِنَّ ابَنِي هَذَا لَعَظِيمُ
الرَّأْسِ، وَإِنَّهُ لَخَلِيقٌ أَنْ يَسُودَ قَوْمَهُ. فَقَالَتْ هِنْدُ: قَوْمَهُ
فَقَطْ ؟ ! ثَكِلْتُهُ إِنْ لَمْ يَسُدِ الْعَرَبَ قَاطِبَةً. وَكَانَتْ هِنْدُ
تَحْمِلُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَتَقُولُ:
إِنَّ بُنَيَّ مُعْرِقٌ كَرِيمُ مُحَبَّبٌ فِي أَهْلِهِ حَلِيمُ لَيْسَ بِفَحَّاشٍ
وَلَا لَئِيمُ
وَلَا بِطُخْرُورٍ وَلَا سَئُومُ صَخْرُ بَنِي فَهْرٍ بِهِ زَعِيمُ
لَا يُخْلِفُ الظَّنَّ وَلَا يَخِيمُ
قَالَ:
فَلَمَّا وَلَّى عُمَرُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ مَا وَلَّاهُ مِنَ الشَّامِ،
خَرَجَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِنْدَ: كَيْفَ رَأَيْتِ
صَارَ ابْنُكِ تَابِعًا لِابْنِي ؟ فَقَالَتْ: إِنِ اضْطَرَبَ حَبْلُ الْعَرَبِ
فَسَتَعْلَمُ أَيْنَ يَقَعُ ابْنُكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ ابْنِي.
فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَنَةَ بِضْعَ عَشْرَةَ، وَجَاءَ
الْبَرِيدُ إِلَى عُمَرَ بِمَوْتِهِ، رَدَّ عُمَرُ الْبَرِيدَ إِلَى الشَّامِ بِوِلَايَةِ
مُعَاوِيَةَ مَكَانَ أَخِيهِ يَزِيدَ، ثُمَّ عَزَّى أَبَا سُفْيَانَ فِي ابْنِهِ
يَزِيدَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ وَلَّيْتَ مَكَانَهُ ؟ قَالَ:
أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَتْ هِنْدُ لِمُعَاوِيَةَ فِيمَا كَتَبَتْ بِهِ إِلَيْهِ: وَاللَّهِ يَا
بُنَيَّ، إِنَّهُ قَلَّ أَنْ تَلِدَ حُرَّةٌ مِثْلَكَ، وَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ
قَدِ اسْتَنْهَضَكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَاعْمَلْ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَحْبَبْتَ
وَكَرِهْتَ. وَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ سَبَقُونَا وَتَأَخَّرْنَا، فَرَفَعَهُمْ سَبْقُهُمْ، وَقَصَّرَ
بِنَا تَأَخُّرُنَا، فَصَارُوا قَادَةً، وَصِرْنَا أَتْبَاعًا، وَقَدْ وَلَّوْكَ
جَسِيمًا مِنْ أُمُورِهِمْ فَلَا تُخَالِفْهُمْ، فَإِنَّكَ تَجْرِي إِلَى أَمَدٍ
فَنَافِسْ فِيهِ، فَإِنْ بَلَغْتَهُ أَوْرَثَتْهُ عَقِبَكَ.
فَلَمْ يَزَلْ مُعَاوِيَةُ نَائِبًا عَلَى الشَّامِ فِي الدَّوْلَةِ
الْعُمَرِيَّةِ وَالْعُثْمَانِيَّةِ مُدَّةَ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَافْتَتَحَ فِي
سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ جَزِيرَةَ قُبْرُسَ، وَسَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ
قَرِيبًا
مِنْ
سِتِّينَ سَنَةً فِي أَيَّامِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ، وَلَمْ تَزَلِ الْفُتُوحَاتُ
وَالْجِهَادُ قَائِمًا عَلَى سَاقِهِ فِي أَيَّامِهِ فِي بِلَادِ الرُّومِ
وَالْفِرِنْجِ وَغَيْرِهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ مَا كَانَ، لَمْ يَقَعْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ فَتْحٌ
بِالْكُلِّيَّةِ، لَا عَلَى يَدَيْهِ وَلَا عَلَى يَدَيْ عَلِيٍّ، وَطَمِعَ فِي
مُعَاوِيَةَ مَلِكُ الرُّومِ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ أَخْسَأَهُ وَأَذَلَّهُ،
وَقَهَرَ جُنْدَهُ وَدَحَاهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَلِكُ الرُّومِ اشْتِغَالَ
مُعَاوِيَةَ بِحَرْبِ عَلِيٍّ تَدَانَى إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ فِي جُنُودٍ
عَظِيمَةٍ، وَطَمِعَ فِيهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ وَتَرْجِعْ إِلَى بِلَادِكَ يَا لَعِينُ لَأَصْطَلِحَنَّ أَنَا وَابْنُ
عَمِّي عَلَيْكَ وَلَأُخْرِجَنَّكَ مِنْ جَمِيعِ بِلَادِكَ، وَلَأُضَيِّقَنَّ
عَلَيْكَ الْأَرْضَ بِمَا رَحُبَتْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ خَافَ مَلِكُ الرُّومِ
وَانْكَفَّ، وَبَعَثَ يَطْلُبُ الْهُدْنَةَ.
ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ التَّحْكِيمِ مَا كَانَ، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ إِلَى
وَقْتِ اصْطِلَاحِهِ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ، فَانْعَقَدَتِ
الْكَلِمَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَاجْتَمَعَتِ الرَّعَايَا عَلَى بَيْعَتِهِ فِي
سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ كَمَا قَدَّمْنَا، فَلَمْ يَزَلْ مُسْتَقِلًّا
بِالْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا
وَفَاتُهُ، وَالْجِهَادُ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ قَائِمٌ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ
عَالِيَةٌ، وَالْغَنَائِمُ تَرِدُ إِلَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ، وَالْمُسْلِمُونَ
مَعَهُ فِي رَاحَةٍ وَعَدْلٍ وَصَفْحٍ وَعَفْوٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ
عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ:قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَلَاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ.
قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: تُؤَمِّرُنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ
كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ
الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ
يَدَيْكَ. قَالَ: " نَعَمْ ". وَذَكَرَ الثَّالِثَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ
أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِابْنَتِهِ الْأُخْرَى عَزَّةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ. وَاسْتَعَانَ عَلَى
ذَلِكَ بِأُخْتِهَا أُمِّ حَبِيبَةَ، فَقَالَ: " إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ
لِي " وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَذَكَرْنَا
أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَاعْتِذَارَهُمْ عَنْهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْكُتَّابِ بَيْنَ
يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْوَحْيَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ
" مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ الْوَضَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْيَشْكُرِيِّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ:كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَاءَ فَقُلْتُ: مَا جَاءَ إِلَّا
إِلَيَّ. فَاخْتَبَأْتُ عَلَى بَابٍ، فَجَاءَنِي فَحَطَأَنِي حَطْأَةً ثُمَّ
قَالَ: " اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ ". وَكَانَ يَكْتُبُ
الْوَحْيَ. قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَأْكُلُ.
فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّهُ
يَأْكُلُ. فَقَالَ: " اذْهَبْ فَادْعُهُ ". فَأَتَيْتُهُ الثَّانِيَةَ
فَقِيلَ: إِنَّهُ يَأْكُلُ. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: " لَا أَشْبَعَ اللَّهُ
بَطْنَهُ ". قَالَ: فَمَا شَبِعَ بَعْدَهَا.
وَقَدِ
انْتَفَعَ مُعَاوِيَةُ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. أَمَّا
فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَمَّا صَارَ فِي الشَّامِ أَمِيرًا، كَانَ يَأْكُلُ فِي
الْيَوْمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، يُجَاءُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا لَحْمٌ كَثِيرٌ وَبَصَلٌ
فَيَأْكُلُ مِنْهَا، وَيَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ سَبْعَ أَكَلَاتٍ بِلَحْمٍ، وَمِنَ
الْحَلْوَى وَالْفَاكِهَةِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَشْبَعُ،
وَإِنَّمَا أَعْيَى. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ وَمَعِدَةٌ يَرْغَبُ فِيهَا كُلُّ
الْمُلُوكِ.
وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَدِ أَتْبَعَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْحَدِيثِ
الَّذِي رَوَاهُ هُوَ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا عَبْدٍ
سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ أَوْ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ أَهْلًا،
فَاجْعَلْ ذَلِكَ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا عِنْدَكَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ". فَرَكَّبَ مُسْلِمٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهَذَا
الْحَدِيثِ فَضِيلَةً لِمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يُورِدْ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْمُسَيَّبُ بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:أَتَى جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ مُعَاوِيَةَ السَّلَامَ،
وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا ; فَإِنَّهُ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى كِتَابِهِ
وَوَحْيِهِ، وَنِعْمَ الْأَمِينُ.
ثُمَّ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمانَ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ وَجَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتَشَارَ جِبْرِيلَ فِي اسْتِكْتَابِهِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: اسْتَكْتِبْهُ
فَإِنَّهُ أَمِينٌ. وَلَكِنْ فِي الْأَسَانِيدِ إِلَيْهِمَا غَرَابَةٌ.
ثُمَّ
أَوْرَدَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ غَرَائِبَ كَثِيرَةً، وَكَذَا عَنْ غَيْرِهِ
أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ الْأَقْمَرِ الزُّبَيْدِيِّ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الصَّيْدَلَانِيُّ، ثَنَا السَّرِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُمِّ حَبِيبَةَ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَقَّ الْبَابَ دَاقٌّ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْظُرُوا مَنْ هَذَا
". قَالُوا: مُعَاوِيَةُ. قَالَ: " ائْذَنُوا لَهُ ". فَدَخَلَ
وَعَلَى أُذُنِهِ قَلَمٌ لَمْ يُخَطَّ بِهِ، فَقَالَ: " مَا هَذَا الْقَلَمُ
عَلَى أُذُنِكَ يَا مُعَاوِيَةُ ؟ " قَالَ: قَلَمٌ أَعْدَدْتُهُ لِلَّهِ
وَلِرَسُولِهِ. فَقَالَ: " جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ نَبِيِّكَ خَيْرًا،
وَاللَّهِ مَا اسْتَكْتَبْتُكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَا أَفْعَلُ مِنْ
صَغِيرَةٍ وَلَا كَبِيرَةٍ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، كَيْفَ بِكَ لَوْ
قَمَّصَكَ اللَّهُ قَمِيصًا ؟ ". يَعْنِي الْخِلَافَةَ. فَقَامَتْ
أُمُّ
حَبِيبَةَ، فَجَلَسَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ
اللَّهَ مُقَمِّصُهُ قَمِيصًا ؟ ! قَالَ: " نَعَمْ، وَلَكِنْ فِيهِ هَنَاتٌ
وَهَنَاتٌ وَهَنَاتٌ ". فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَادْعُ اللَّهَ
لَهُ. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِهِ بِالْهُدَى، وَجَنِّبْهُ الرَّدَى،
وَاغْفِرْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ". قَالَ الطَّبَرَانِيُّ:
تَفَرَّدَ بِهِ السَّرِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ
بْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ
نَحْوَهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ بَعْدَ هَذَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً
مَوْضُوعَةً، وَالْعَجَبُ مِنْهُ مَعَ حِفْظِهِ وَاطِّلَاعِهِ كَيْفَ لَا
يُنَبِّهُ عَلَيْهَا وَعَلَى نَكَارَتِهَا وَضَعْفِ رِجَالِهَا. وَاللَّهُ
الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وَقَدْ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَأَنَسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ مَرْفُوعًا: " الْأُمَنَاءُ ثَلَاثَةٌ
; جِبْرِيلُ، وَأَنَا، وَمُعَاوِيَةُ ". وَلَا يَصِحُّ مِنْ جَمِيعِ
وُجُوهِهِ. وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " الْأُمَنَاءُ سَبْعَةٌ ;
الْقَلَمُ، وَاللَّوْحُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَجِبْرِيلُ، وَأَنَا،
وَمُعَاوِيَةُ ". وَهَذَا أَنْكَرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْلَهُ،
وَأَضْعَفُ إِسْنَادًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ، يَعْنِي ابْنَ
صَالِحٍ،
عَنْ يُونُسَ بْنِ سَيْفٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي رُهْمٍ، عَنِ
الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا إِلَى السَّحُورِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ:
" هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ ". ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ:
" اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ
الْعَذَابَ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَسَدُ بْنُ مُوسَى، وَبِشْرُ بْنُ
السَّرِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ،
بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ. وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ السَّرِيِّ: وَأَدْخِلْهُ
الْجَنَّةَ ".
وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ، مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْ
مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ وَالْحَسَنُ بْنُ
مُوسَى الْأَشْيَبُ قَالَا: ثَنَا أَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ، ثَنَا
جَبَلَةُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ
مَسْلَمَةَ
بْنَ مُخَلَّدٍ، وَقَالَ الْأَشْيَبُ: قَالَ أَبُو هِلَالٍ: أَوْ عَنْ رَجُلٍ،
عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ. وَقَالَ سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ: أَوْ حَدَّثَهُ
مَسْلَمَةُ عَنْ رَجُلٍ، أَنَّهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ يَأْكُلُ، فَقَالَ لِعَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ: إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ هَذَا لَمِخْضَدٌ. قَالَ: أَمَا إِنِّي
أَقُولُ لَكَ هَذَا، وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ، وَمَكِّنْ لَهُ فِي
الْبِلَادِ، وَقِهِ الْعَذَابَ ". وَقَدْ أَرْسَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ،
مِنْهُمُ ; الزُّهْرِيُّ وَعُرْوَةُ بْنُ رُوَيْمٍ وَحَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ
الرَّحَبِيُّ الْحِمْصِيُّ، وَيُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا أَبُو زُرْعَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ الدِّمَشْقِيَّانِ قَالَا: ثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، ثَنَا
سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ الْمُزَنِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: " اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ
الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ ". قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ:
وَهَذَا غَرِيبٌ، وَالْمَحْفُوظُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ
الَّذِي تَقَدَّمَ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي
مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
عُمَيْرَةَ الْمُزَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
يَقُولُ
لِمُعَاوِيَةَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَاهْدِهِ
وَاهْدِ بِهِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ، ثَنَا الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ
يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ الْأَزْدِيِّ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ مُعَاوِيَةَ
فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي مُسْهِرٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ
رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمانَ
الْحَرَّانِيُّ، كَمَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَأَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ
سَعِيدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
عُمَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الطَّاطَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ
يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِمُعَاوِيَةَ فَقَالَ: "
اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْعِلْمَ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَاهْدِهِ
وَاهْدِ بِهِ ". وَقَدْ رَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ وَصَفْوَانُ بْنُ
صَالِحٍ وَعِيسَى بْنُ هِلَالٍ وَأَبُو الْأَزْهَرِ، عَنْ مَرْوَانَ
الطَّاطَرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَبَا إِدْرِيسَ فِي إِسْنَادِهِ. وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدَانَ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ
الرَّمْلِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي
عُمَيْرَةَ
الْمُزَنِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَذَكَرَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا
وَاهْدِ بِهِ ". قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَوْلُ الْجَمَاعَةِ هُوَ
الصَّوَابُ. وَقَدِ اعْتَنَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَطْنَبَ
فِيهِ وَأَطْيَبَ وَأَطْرَبَ، وَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ،
فَرَحِمَهُ اللَّهُ، كَمْ لَهُ مِنْ مَوْطِنٍ قَدْ بَرَّزَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ
مِنَ الْحُفَّاظِ وَالنُّقَّادِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
حَلْبَسٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: لَمَّا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ عَنِ الشَّامِ، وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ، قَالَ
النَّاسُ: عَزَلَ عُمَيْرًا وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: لَا
تَذْكُرُوا مُعَاوِيَةَ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اهْدِ بِهِ ".
تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَعَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ
ضَعِيفٌ. هَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ فِي مُسْنَدِ عُمَيْرِ بْنِ
سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ رِوَايَةِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَيَكُونُ الصَّوَابُ: فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَذْكُرُوا
مُعَاوِيَةَ إِلَّا بِخَيْرٍ. لِيَكُونَ عُذْرًا لَهُ فِي تَوْلِيَتِهِ لَهُ.
وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ
أَبِي السَّائِبِ، وَهُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ
الْوَلِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ وَلَّى مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالُوا: وَلَّى حَدَثَ
السِّنِّ. فَقَالَ: تَلُومُونَنِي فِي وِلَايَتِهِ، وَأَنَا سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ
هَادِيًا، وَاهْدِ بِهِ ". وَهَذَا مُنْقَطِعٌ يُقَوِّيهِ مَا قَبْلَهُ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، ثَنَا
نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ سَابُورَ، ثَنَا
مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بُسْرٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي أَمْرٍ، فَقَالَ: " أَشِيرُوا عَلَيَّ
". فَقَالَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ: " ادْعُوا
مُعَاوِيَةَ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: أَمَا كَانَ فِي رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَيْنِ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ
مَا يُتْقِنُونَ أَمْرَهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِ قُرَيْشٍ ؟ ! فَقَالَ: "
ادْعُوَ لِي مُعَاوِيَةَ ". فَدُعِيَ لَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحْضِرُوهُ
أَمْرَكُمْ وَأَشْهِدُوهُ أَمْرَكُمْ، فَإِنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ " وَرَوَاهُ
بَعْضُهُمْ عَنْ نُعَيْمٍ، وَزَادَ: " وَحَمِّلُوهُ أَمْرَكُمْ ". ثُمَّ
سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مَوْضُوعَةً، بِلَا شَكٍّ، فِي فَضْلِ
مُعَاوِيَةَ، أَضْرَبْنَا عَنْهَا صَفْحًا، وَاكْتَفَيْنَا بِمَا أَوْرَدْنَاهُ
مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمُسْتَجَادَاتِ، عَمَّا سِوَاهَا
مِنَ الْمَوْضَعَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ.
ثُمَّ
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي فَضْلِ مُعَاوِيَةَ حَدِيثُ
أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ كَاتِبَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي "
صَحِيحِهِ ". وَبَعْدَهُ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ: اللَّهُمَّ عَلِّمْ
مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ ". وَبَعْدَهُ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ:
" اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ".
قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ: ذِكْرُ مُعَاوِيَةَ
بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، ثَنَا الْمُعَافَى، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: أَوْتَرَ
مُعَاوِيَةُ بَعْدَ الْعَشَاءِ بِرَكْعَةٍ، وَعِنْدَهُ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ،
فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، ثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، ثَنَا ابْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ لَكَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
مُعَاوِيَةَ ؟ مَا أَوْتَرَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ ! قَالَ: أَصَابَ، إِنَّهُ
فَقِيهٌ.
ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، ثَنَا ابْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي
التَّيَّاحِ قَالَ:
سَمِعْتُ
حُمْرَانَ عَنْ أَبَانٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ:إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً
لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْنَاهُ
يُصَلِّيهِمَا، وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا. يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ
الْعَصْرِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: ذِكْرُ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ: وَقَالَ عَبْدَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، ثَنَا يُونُسُ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:جَاءَتْ هِنْدُ
بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ
الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ
خِبَائِكَ، ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ
أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ. فَقَالَ: " وَأَيْضًا
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ". فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي
لَهُ عِيَالَنَا ؟ قَالَ: " لَا، بِالْمَعْرُوفِ ". فَالْمِدْحَةُ فِي
قَوْلِهِ: " وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ". وَهُوَ أَنَّهُ
كَانَ يَوَدُّ أَنَّ هِنْدَ وَأَهْلَهَا وَكُلَّ
كَافِرٍ
يَذِلُّوا فِي حَالِ كُفْرِهِمْ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعِزُّوا،
فَأَعَزَّهُمُ اللَّهُ يَعْنِي أَهْلَ خِبَائِهَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، ثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ عَمْرُو
بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّي يُحَدِّثُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ
أَخَذَ الْإِدَاوَةَ بَعْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَتَبِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا - وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَدِ اشْتَكَى -
فَبَيْنَمَا هُوَ يُوَضِّئُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ،
فَقَالَ: " يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ وُلِّيتَ أَمْرًا فَاتَّقِ اللَّهَ
وَاعْدِلْ ". قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي سَأُبْتَلَى
بِعَمَلٍ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
ابْتُلِيتُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
الدُّنْيَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمَذَانِيِّ سَعِيدِ بْنِ زُنْبُورِ بْنِ
ثَابِتٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ
حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بِهِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: اتَّبَعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ، فَلَمَّا تَوَضَّأَ نَظَرَ
إِلَيَّ فَقَالَ: " يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ وُلِّيتَ أَمْرًا فَاتَّقِ اللَّهَ
وَاعْدِلْ ". فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي مُبْتَلًى بِعَمَلٍ ; لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى وُلِّيتُ.
وَرَوَاهُ غَالِبٌ الْقَطَّانُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ
يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ:
صَبَبْتُ
يَوْمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضُوءَهُ،
فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ فَقَالَ: " أَمَا إِنَّكَ سَتَلِي أَمْرَ أُمَّتِي
بَعْدِي، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَاقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزْ عَنْ
مُسِيئِهِمْ ". وَقَالَ: فَمَا زِلْتُ أَرْجُو حَتَّى قُمْتُ مَقَامِي هَذَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ بِسَنَدِهِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ
مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ مَا حَمَلَنِي عَلَى الْخِلَافَةِ إِلَّا قَوْلُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ
مَلَكْتَ فَأَحْسِنْ ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ هَذَا ضَعِيفٌ، إِلَّا أَنَّ لِلْحَدِيثِ شَوَاهِدَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ: ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا
رَاقَدٌ فِي كَنِيسَةِ يُوحَنَّا - وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَسْجِدٌ يُصَلَّى فِيهَا -
إِذِ انْتَبَهْتُ مِنْ نَوْمِي، فَإِذَا أَنَا بِأَسَدٍ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيَّ،
فَوَثَبْتُ إِلَى سِلَاحِي، فَقَالَ الْأَسَدُ: مَهْ، إِنَّمَا أُرْسِلْتُ
إِلَيْكَ بِرِسَالَةٍ لِتُبَلِّغَهَا. قُلْتُ: وَمَنْ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ: اللَّهُ
أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ لِتُبَلِّغَ مُعَاوِيَةَ السَّلَامَ، وَتُعْلِمَهُ أَنَّهُ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ مُعَاوِيَةُ ؟ قَالَ: مُعَاوِيَةُ
بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْقَرَاطِيسِيِّ،
عَنِ الْمُعَلَى بْنِ الْوَلِيدِ الْقَعْقَاعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ
الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ
الْغَسَّانِيِّ. وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَلَعَلَّ الْجَمِيعَ
مَنَامٌ، وَيَكُونُ
قَوْلُهُ:
إِذِ انْتَبَهْتُ مِنْ نَوْمِي. مُدْرَجًا لَمْ يَضْبِطْهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ
يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَدِمَ عُمَرُ الْجَابِيَةَ فَنَزَعَ شُرَحْبِيلَ،
وَأَمَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِالْمَسِيرِ إِلَى مِصْرَ، وَبَقِيَ الشَّامُ
عَلَى أَمِيرَيْنِ ; أَبِي عُبَيْدَةَ وَيَزِيدَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو
عُبَيْدَةَ، فَاسْتَخْلَفَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ ثُمَّ تُوُفِّيَ يَزِيدُ،
فَأَمَّرَ مُعَاوِيَةَ مَكَانَهَ، ثُمَّ نَعَاهُ عُمَرُ لِأَبِي سُفْيَانَ،
فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، احْتَسِبْ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ:
مَنْ أَمَّرْتَ مَكَانَهُ ؟ قَالَ: مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ: وَصَلَتْكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ رَحِمٌ. فَكَانَ عَلَى الشَّامِ مُعَاوِيَةُ، وَعُمَيْرُ بْنُ
سَعْدٍ، حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسَ
وَاسْتَخْلَفَ مُعَاذًا، فَمَاتَ مُعَاذٌ، وَاسْتَخْلَفَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي
سُفْيَانَ فَمَاتَ، وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ، فَأَقَرَّهُ عُمَرُ،
وَوَلَّى عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِلَسْطِينَ وَالْأُرْدُنَّ، وَمُعَاوِيَةَ
دِمَشْقَ وَبَعْلَبَكَّ وَالْبَلْقَاءَ، وَوَلَّى سَعِيدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ
حِذْيَمٍ حِمْصَ، ثُمَّ جَمَعَ الشَّامَ كُلَّهَا لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى الشَّامِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: أَفْرَدَ عُمرُ مُعَاوِيَةَ بِإِمْرَةِ
الشَّامِ وَجَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ
شَهْرٍ
ثَمَانِينَ دِينَارًا. وَالصَّوَابُ أَنَّ الَّذِي جَمَعَ لِمُعَاوِيَةَ الشَّامَ
كُلَّهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَمَّا عُمَرُ إِنَّمَا وَلَّاهُ بَعْضَ
أَعْمَالِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا عُزِّيَتْ هِنْدُ فِي يَزِيدَ بْنِ
أَبِي سُفْيَانَ - وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا - قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ قَدْ جَعَلَ
مُعَاوِيَةَ أَمِيرًا مَكَانَهُ. فَقَالَتْ: أَوَ مِثْلُ مُعَاوِيَةَ يُجْعَلُ
خَلَفًا مِنْ أَحَدٍ ؟ ! فَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْعَرَبَ اجْتَمَعَتْ
مُتَوَافِرَةً، ثُمَّ رُمِيَ بِهِ فِيهَا لَخَرَجَ مِنْ أَيِّ أَعْرَاضِهَا شَاءَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: ذُكِرَ مُعَاوِيَةُ عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: دَعُوا فَتَى
قُرَيْشٍ وَابْنَ سَيِّدِهَا، إِنَّهُ لَمَنْ يَضْحَكُ فِي الْغَضَبِ وَلَا
يُنَالُ مِنْهُ إِلَّا عَلَى الرِّضَا، وَمَنْ لَا يَأْخُذُ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ
إِلَّا مِنْ تَحْتِ قَدْمَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ
الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ بَحْرٍ، عَنْ شَيْخٍ لَهُ
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الشَّامَ تَلَقَّاهُ مُعَاوِيَةُ
فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ عُمَرَ قَالَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ الْمَوْكِبِ
الْعَظِيمِ ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَعَ مَا
بَلَغَنِي مِنْ طُولِ وُقُوفِ ذَوِي الْحَاجَاتِ بِبَابِكَ ؟ قَالَ: مَعَ مَا
بَلَغَكَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ تَفْعَلُ هَذَا ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا بِأَرْضٍ جَوَاسِيسُ الْعَدُوِّ فِيهَا كَثِيرَةٌ،
فَيَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ مَنْ عِزِّ السُّلْطَانِ مَا يُرْهِبُهُمْ بِهِ، فَإِنْ
أَمَرْتَنِي فَعَلْتُ، وَإِنْ نَهَيْتَنِي انْتَهَيْتُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
يَا
مُعَاوِيَةُ، مَا سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا تَرَكْتَنِي فِي مِثْلِ رَوَاجِبِ
الضِّرْسِ، لَئِنْ كَانَ مَا قُلْتَ حَقًّا، إِنَّهُ لَرَأْيُ أَرِيبٍ، وَلَئِنْ
كَانَ بَاطِلًا إِنَّهُ لَخَدِيعَةُ أَدِيبٍ. قَالَ: فَمُرْنِي يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَحْسَنَ مَا صَدَرَ الْفَتَى عَمَّا أَوْرَدْتَهُ فِيهِ !
فَقَالَ عُمَرُ: لِحُسْنِ مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ جَشَّمْنَاهُ مَا
جَشَّمْنَاهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ تَلَقَّى عُمَرَ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ
وَمُعَاوِيَةُ فِي مَوْكِبٍ كَثِيفٍ، فَاجْتَازَ بِعُمَرَ وَهُوَ وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَاكِبَانِ عَلَى حِمَارٍ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمَا،
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ جَاوَزْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَرَجَعَ، فَلَمَّا
رَأَى عُمَرَ تَرَجَّلَ، وَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ مَا ذَكَرْنَا، فَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: مَا أَحْسَنَ مَا صَدَرَ عَمَّا أَوْرَدْتَهُ فِيهِ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! فَقَالَ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَشَّمْنَاهُ مَا
جَشَّمْنَاهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ " الزُّهْدِ ":
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنْ
أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ، وَهُوَ أَبْيَضُ
أَوْ أَبَضُّ النَّاسِ وَأَجْمَلُهُمْ، فَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ مَعَ عُمَرَ،
فَكَانَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَيُعْجَبُ لَهُ، ثُمَّ يَضَعُ أُصْبُعَهُ عَلَى
مَتْنِهِ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا عَنْ مِثْلِ الشِّرَاكِ، فَيَقُولُ: بَخٍ بَخٍ،
نَحْنُ إِذًا خَيْرُ النَّاسِ ; أَنْ جُمِعَ لَنَا خَيْرُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ،
سَأُحَدِّثُكَ ; إِنَّا بِأَرْضِ الْحَمَّامَاتِ وَالرِّيفِ. فَقَالَ عُمَرُ:
سَأُحَدِّثُكَ ; مَا بِكَ إِلْطَافُكَ نَفْسَكَ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ
وَتَصَبُّحُكَ حَتَّى تَضْرِبَ الشَّمْسُ مَتْنَيْكَ، وَذَوُو الْحَاجَاتِ وَرَاءَ
الْبَابِ. قَالَ: فَلَمَّا جِئْنَا ذَا طَوًى أَخْرَجَ مُعَاوِيَةُ حُلَّةً
فَلَبِسَهَا، فَوَجَدَ عُمَرُ مِنْهَا رِيحًا كَأَنَّهُ رِيحُ طِيبٍ، فَقَالَ:
يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَخْرُجُ حَاجًّا تَفِلًا، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَعْظَمَ
بُلْدَانَ اللَّهِ حُرْمَةً أَخْرَجَ ثَوْبَيْهِ كَأَنَّهُمَا كَانَا فِي الطِّيبِ
فَلَبِسَهُمَا ! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّمَا لَبِسْتُهُمَا لِأَدْخُلَ فِيهِمَا
عَلَى عَشِيرَتِي أَوْ قَوْمِي. وَاللَّهِ لَقَدْ بَلَغَنِي أَذَاكَ هَاهُنَا
وَبِالشَّامِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَقَدْ عَرَفْتُ الْحَيَاءَ فِيهِ. ثُمَّ
نَزَعَ مُعَاوِيَةُ ثَوْبَيْهِ، وَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ أَحْرَمَ
فِيهِمَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيِّ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ إِذَا رَأَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: هَذَا كِسْرَى الْعَرَبِ. وَهَكَذَا
حَكَى الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
دَخَلَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عُمَرَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ خَضْرَاءُ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا
الصَّحَابَةُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ وَثَبَ إِلَيْهِ بِالدِّرَّةِ،
فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا، وَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهَ اللَّهَ فِيَّ. فَرَجَعَ عُمَرُ إِلَى مَجْلِسِهِ،
فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: لِمَ ضَرَبْتَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا فِي
قَوْمِكَ
مِثْلُهُ
؟ ! فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا بَلَغَنِي إِلَّا
خَيْرٌ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُهُ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ - فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَضَعَ
مِنْهُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، ثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَنَّ
الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا مَرْيَمَ الْأَزْدِيَّ
أَخْبَرَهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: مَا أَنْعَمَنَا بِكَ
أَبَا فَلَانٍ ؟ - وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ - فَقُلْتُ: حَدِيثٌ
سَمِعْتُهُ أُخْبِرُكَ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - شَيْئًا مِنْ
أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ
وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ ".
قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
الْفَزَارِيُّ، ثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: خَرَجَ
مُعَاوِيَةُ عَلَى النَّاسِ، فَقَامُوا لَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ
لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ".
وَفِي
رِوَايَةٍ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَقَامَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَلَمْ يَقُمْ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ: اجْلِسْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ
الْعِبَادُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ: مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ الْمُقْرَائِيِّ الْحِمْصِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكَ إِنْ
تَتَبَّعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ. أَوْ: كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ
". قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ نَفَعَهُ
اللَّهُ بِهَا. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ جَيِّدَ
السِّيرَةِ، حَسَنَ التَّجَاوُزِ، جَمِيلَ الْعَفْوِ، كَثِيرَ السِّتْرِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ يُرِدِ
اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ
وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى
الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ
أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " وَهُمْ عَلَى
ذَلِكَ ". وَقَدْ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
مَرَّةً
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ يُخْبِرُ عَنْ مُعَاذٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَهُمْ
بِالشَّامِ " فَحَثَّ بِهَذَا أَهْلَ الشَّامِ عَلَى مُنَاجَزَةِ أَهْلِ
الْعِرَاقِ - وَإِنَّ أَهْلَ الشَّامِ هُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ عَلَى
مَنْ خَالَفَهَا. وَهَذَا مِمَّا كَانَ يَحْتَجُّ بِهِ مُعَاوِيَةُ لِأَهْلِ الشَّامِ
فِي قِتَالِهِمْ أَهْلَ الْعِرَاقِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فَتَحَ مُعَاوِيَةُ قَيْسَارِيَّةَ سَنَةَ تِسْعَ
عَشْرَةَ فِي دَوْلَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفَتَحَ
قُبْرُسَ سَنَةَ خَمْسٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ. وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ.
فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ. قَالُوا: وَكَانَ عَامَ غَزْوَةِ الْمَضِيقِ - يَعْنِي
مَضِيقَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ - فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ الْأَمِيرُ
عَلَى النَّاسِ يَوْمَئِذٍ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَجَمَعَ عُثْمَانُ لِمُعَاوِيَةَ جَمِيعَ الشَّامِ، وَقَدِ اسْتَقْضَى
مُعَاوِيَةُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ بَعْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، ثُمَّ كَانَ مَا
كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ بَعْدَ قَتَلِ عُثْمَانَ، عَلَى سَبِيلِ
الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا قِتَالٌ عَظِيمٌ، كَمَا
قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَعَ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةُ مَعْذُورٌ
عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَقَدْ شَهِدَتِ الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ بِالْإِسْلَامِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ; أَهْلِ الْعِرَاقِ
وَأَهْلِ الشَّامِ.
كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ " الصَّحِيحِ ": تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى
حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ،
فَيَقْتُلُهَا أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ ". فَكَانَتِ
الْمَارِقَةُ الْخَوَارِجَ، وَقَتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قُتِلَ
عَلِيٌّ، فَاسْتَقَلَّ مُعَاوِيَةُ بِالْأَمْرِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ،
وَكَانَ يَغْزُو الرُّومَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ ; مَرَّةً فِي الصَّيْفِ،
وَمَرَّةً فِي الشِّتَاءِ، وَيَأْمُرُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ فَيَحُجُّ
بِالنَّاسِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُعَاوِيَةُ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَحَجَّ ابْنُهُ يَزِيدُ سَنَةَ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَفِيهَا أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا أَغْزَاهُ بِلَادَ
الرُّومِ، فَسَارَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ حَتَّى
حَاصَرَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ ":
أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ مَغْفُورٌ لَهُمْ ". وَقَدْ
تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كَانَ الْحَادِي
يَحْدُو بِعُثْمَانَ فَيَقُولُ:
إِنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ مَرْضِيُّ
فَقَالَ كَعْبٌ: بَلْ هُوَ صَاحِبُ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ. يَعْنِي
مُعَاوِيَةَ. فَأَتَاهُ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، تَقُولُ هَذَا،
وَهَاهُنَا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: أَنْتَ صَاحِبُهَا. وَرَوَاهُ سَيْفٌ، عَنْ بَدْرِ بْنِ
الْخَلِيلِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطِيَّةَ الْأَسَدِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي
أَسَدٍ قَالَ: مَا زَالَ مُعَاوِيَةُ يَطْمَعُ فِيهَا مُنْذُ سَمِعَ الْحَادِي فِي
أَيَّامِ عُثْمَانَ يَقُولُ:
إِنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ مَرْضِيُّ
فَقَالَ
كَعْبٌ: كَذَبْتَ، بَلْ صَاحِبُ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ بَعْدَهُ. يَعْنِي
مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ فِيَّ ذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، أَنْتَ الْأَمِيرُ
بَعْدَهُ، وَلَكِنَّهَا وَاللَّهِ لَا تَصِلُ إِلَيْكَ حَتَّى تُكَذِّبَ
بِحَدِيثِي هَذَا، فَوَقَعَتْ فِي نَفْسِ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ،
ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي هَارُونَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ:
إِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ بَعْدِي، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ
بِالشَّامِ، وَسَتَعْلَمُونَ إِذَا وُكِلْتُمْ إِلَى رَأْيِكُمْ كَيْفَ
يَسْتَبِزُّهَا دُونَكُمْ. وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ
عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا حِينَ
بَعَثَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ إِلَى مُعَاوِيَةَ قَبْلَ
وَقْعَةِ صِفِّينَ - وَذَلِكَ حِينَ عَزَمَ عَلِيٌّ عَلَى قَصْدِ الشَّامِ،
وَجَمَعَ الْجُيُوشَ لِذَلِكَ - وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى مُعَاوِيَةَ
يَذْكُرُ لَهُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ لَزِمَتْهُ بَيْعَتُهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ
بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَإِنْ لَمْ تُبَايِعِ اسْتَعَنْتُ
بِاللَّهِ عَلَيْكَ وَقَاتَلْتُكَ. وَقَدْ أَكْثَرْتَ الْقَوْلَ فِي قَتَلَةِ
عُثْمَانَ، فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ، ثُمَّ حَاكِمِ الْقَوْمَ
إِلَيَّ أَحْمِلْكَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ،
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَكْثَرَهُ فِيمَا سَلَفَ - فَقَرَأَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى النَّاسِ،
وَقَامَ جَرِيرٌ فَخَطَبَ النَّاسَ، وَأَمَرَ فِي خُطْبَتِهِ مُعَاوِيَةَ
بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَحَذَّرَهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ،
وَنَهَاهُ عَنْ إِيقَاعِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنْ يَضْرِبَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا بِالسُّيُوفِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: انْتَظِرْ حَتَّى آخُذَ رَأْيَ
أَهْلِ الشَّامِ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَ مُعَاوِيَةُ مُنَادِيًا،
فَنَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ صَعِدَ
الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي جَعَلَ الدَّعَائِمَ لِلْإِسْلَامِ أَرْكَانًا، وَالشَّرَائِعَ لِلْإِيمَانِ بُرْهَانًا، يَتَوَقَّدُ مِصْبَاحُهُ بِالسَّنَةِ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مَحِلَّ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَحَلَّهَا أَهْلَ الشَّامِ وَرَضِيَهُمْ لَهَا، وَرَضِيَهَا لَهُمْ ; لِمَا سَبَقَ مِنْ مَكْنُونِ عِلْمِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ فِيهَا، وَالْقُوَّامَ بِأَمْرِهِ، الذَّابِّينَ عَنْ دِينِهِ وَحُرُمَاتِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ نِظَامًا، وَفِي أَعْلَامِ الْخَيْرِ عِظَامًا، يَرْدَعُ اللَّهُ بِهِمُ النَّاكِثِينَ، وَيَجْمَعُ بِهِمْ أُلْفَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهَ نَسْتَعِينُ عَلَى مَا تَشَعَّثَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَبَاعَدَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْقُرْبِ وَالْأُلْفَةِ، اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى قَوْمٍ يُوقِظُونَ نَائِمًا، وَيُخِيفُونَ آمِنَنًا، وَيُرِيدُونَ هِرَاقَةَ دِمَائِنَا، وَإِخَافَةَ سَبِيلِنَا، وَقَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّا لَا نُرِيدُ لَهُمْ عِقَابًا، وَلَا نَهْتِكُ لَهُمْ حِجَابًا، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ الْحَمِيدَ كَسَانَا مِنَ الْكَرَامَةِ ثَوْبًا لَنْ نَنْزِعَهُ طَوْعًا مَا جَاوَبَ الصَّدَى، وَسَقَطَ النَّدَى، وَعُرِفَ الْهُدَى، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى خِلَافِنَا الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ لَنَا، فَاللَّهَ نَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي خَلِيفَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَنِّي خَلِيفَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ عَلَيْكُمْ، وَأَنِّي لَمْ أُقِمْ رَجُلًا مِنْكُمْ عَلَى خِزَايَةٍ قَطُّ، وَأَنِّي وَلِيُّ عُثْمَانَ وَابْنُ عَمِّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ: 33 ]. وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تُعْلِمُونِي ذَاتَ أَنْفُسِكُمْ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ. فَقَالَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَجْمَعِهِمْ: بَلْ نَطْلُبُ بِدَمِهِ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَبَايَعُوهُ، وَوَثَّقُوا لَهُ أَنْ يَبْذُلُوا فِي ذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، أَوْ يُدْرِكُوا بِثَأْرِهِ، أَوْ يُفْنِيَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَى جَرِيرٌ مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ
الشَّامِ
لِمُعَاوِيَةَ مَا رَأَى، أَفْزَعَهُ ذَلِكَ، وَعَجِبَ مِنْهُ. وَقَالَ
مُعَاوِيَةُ لِجَرِيرٍ: إِنْ وَلَّانِي عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ بَايَعْتُهُ عَلَى
أَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ عَلَيَّ بَيْعَةٌ. فَقَالَ: اكْتُبْ إِلَى
عَلِيٍّ بِمَا شِئْتَ، وَأَنَا أَكْتُبُ مَعَكَ. فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا
الْكِتَابُ قَالَ: هَذِهِ خَدِيعَةٌ، وَقَدْ سَأَلَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ
أَنْ أُوَلِّيَ مُعَاوِيَةَ الشَّامَ وَأَنَا بِالْمَدِينَةِ، فَأَبَيْتُ ذَلِكَ
وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا. ثُمَّ كَتَبَ إِلَى جَرِيرٍ
بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَمَا قَدِمَ إِلَّا وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ
إِلَى عَلِيٍّ، وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - وَكَانَ
مُعْتَزِلًا بِفِلَسْطِينَ حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ - وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ
عَزَلَهُ عَنْ مِصْرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَسْتَدْعِيهِ
لِيَسْتَشِيرَهُ فِي أُمُورِهِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعَا عَلَى حَرْبِ
عَلِيٍّ.
وَقَدْ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فِي كِتَابِ
مُعَاوِيَةَ إِلَى عَلِيٍّ حِينَ سَأَلَهُ نِيَابَةَ الشَّامِ وَمِصْرَ، فَكَتَبَ
إِلَى مُعَاوِيَةَ يُؤَنِّبُهُ وَيَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُعَرِّضُ بِأَشْيَاءَ
فِيهِ:
مُعَاوِيَ إِنَّ الشَّامَ شَامُكَ فَاعْتَصِمْ بِشَامِكَ لَا تُدْخِلْ عَلَيْكَ
الْأَفَاعِيَا
وَحَامِ عَلَيْهَا بِالْقَبَائِلِ وَالْقَنَا وَلَا تَكُ مَخْشُوشَ الذِّرَاعَيْنِ
وَانِيَا
فَإِنَّ عَلِيًّا نَاظِرٌ مَا تُجِيبُهُ فَأَهْدِ لَهُ حَرْبًا تُشِيبُ
النَّوَاصِيَا
وَإِلَّا فَسَلِّمْ إِنَّ فِي الْأَمْنِ رَاحَةً لِمَنْ لَا يُرِيدُ الْحَرْبَ
فَاخْتَرْ مُعَاوِيَا
وَإِنَّ كِتَابًا يَا ابْنَ حَرْبٍ كَتَبْتَهُ عَلَى طَمَعٍ جَانٍ عَلَيْكَ
الدَّوَاهِيَا
سَأَلْتَ عَلِيًّا فِيهِ مَا لَا تَنَالُهُ وَلَوْ نِلْتَهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا
لَيَالِيَا
إِلَى أَنْ تَرَى مِنْهُ الَّتِي لَيْسَ بَعْدَهَا بَقَاءٌ فَلَا تُكْثِرْ عَلَيْكَ
الْأَمَانِيَا
وَمِثْلُ
عَلِيٍّ تَغْتَرِرْهُ بِخَدْعَةٍ وَقَدْ كَانَ مَا جَرَّبْتَ مِنْ قَبْلُ كَافِيَا
وَلَوْ نَشِبَتْ أَظْفَارُهُ فِيكَ مَرَّةً حَذَاكَ ابْنَ هِنْدَ بَعْدَ مَا
كُنْتَ حَاذَيَا
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ
وَجَمَاعَةً مَعَهُ دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تُنَازِعُ
عَلِيًّا أَمْ أَنْتَ مِثْلُهُ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ
خَيْرٌ مِنِّي وَأَفْضَلُ، وَأَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنِّي، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ
تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ، وَأَنَا
أَطْلُبُ بِدَمِهِ، وَأَمْرُهُ إِلَيَّ ؟ فَقُولُوا لَهُ فَلْيُسَلِّمْ إِلَيَّ
قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَأَنَا أُسَلِّمُ لَهُ أَمْرَهُ. فَأَتَوْا عَلِيًّا،
فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِمْ أَحَدًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ
صَمَّمَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ مُعَاوِيَةَ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ عَامِرٍ
الشَّعْبِيِّ أَوْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ رَجُلًا
إِلَى دِمَشْقَ يُنْذِرُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ نَهَدَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ
إِلَيْكُمْ ; لِيَسْتَعْلِمَ طَاعَتَهُمْ لِمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ، أَمَرَ
مُعَاوِيَةُ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَمَلَئُوا
الْمَسْجِدَ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ عَلِيًّا
قَدْ نَهَدَ إِلَيْكُمْ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَمَا الرَّأْيُ ؟ فَضَرَبَ كُلٌّ
مِنْهُمْ عَلَى صَدْرِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَا رَفَعُوا
إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَقَامَ ذُو الْكَلَاعِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
عَلَيْكَ الرَّأْيُ وَعَلَيْنَا امْفِعَالٌ. يَعْنِي: الْفِعَالَ. ثُمَّ نَادَى
مُعَاوِيَةُ فِي النَّاسِ أَنِ اخْرُجُوا
إِلَى
مُعَسْكَرِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَمَنْ تَخَلَّفَ فَقَدْ أَحَلَّ بْنَفْسِهِ.
فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ، فَرَكِبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ،
فَأَمَرَ عَلِيٌّ مُنَادِيًا فَنَادَى: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعُوا،
فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ جَمَعَ النَّاسَ
لِحَرْبِكُمْ، فَمَا الرَّأْيُ ؟ فَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَقَالَةً، وَاخْتَلَطَ
كَلَامُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، فَلَمْ يَدِرِ عَلِيٌّ مِمَّا قَالُوا شَيْئًا،
فَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، ذَهَبَ وَاللَّهِ بِهَا ابْنُ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ. ثُمَّ كَانَ مِنْ
أَمْرِ الْفَرِيقَيْنِ بِصِفِّينَ مَا كَانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مَبْسُوطًا فِي
سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الرِّكَابِ،
وَهَمَمْتُ يَوْمَ صِفِّينَ بِالْهَزِيمَةِ، فَمَا مَنَعَنِي إِلَّا قَوْلُ ابْنِ
الْإِطْنَابَةِ حَيْثُ يَقُولُ:
أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلَائِي وَأَخْذِي الْحَمْدَ بِالثَّمَنِ الرَّبِيحِ
وَإِكْرَاهِي عَلَى الْمَكْرُوهِ نَفْسِي وَضَرْبِي هَامَةَ الْبَطَلِ الْمُشِيحِ
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: الْخُلَفَاءُ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ. فَقِيلَ لَهُ: فَمُعَاوِيَةُ ؟
قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ مِنْ
عَلِيٍّ، وَرَحِمَ اللَّهُ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ:
مَا كَانَتْ فِي عَلِيٍّ خَصْلَةٌ تَقْصُرُ بِهِ عَنِ الْخِلَافَةِ، وَلَمْ يَكُنْ
فِي مُعَاوِيَةَ خَصْلَةٌ يُنَازِعُ عَلِيًّا بِهَا.
وَقِيلَ
لِشَرِيكٍ الْقَاضِي: كَانَ مُعَاوِيَةُ حَلِيمًا ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِحَلِيمٍ
مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَقَاتَلَ عَلِيًّا. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ ذَكَرَ مُعَاوِيَةَ وَأَنَّهُ لَبَّى عَشِيَّةَ عَرَفَةَ،
فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيًّا لَبَّى عَشِيَّةَ
عَرَفَةَ، فَتَرَكَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ مُوسَى،
ثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ جَالِسَانِ
عِنْدَهُ، فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ إِذْ أُتِيَ
بَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، فَأُدْخِلَا بَيْتًا وَأُجِيفَ الْبَابُ وَأَنَا
أَنْظُرُ، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ خَرَجَ عَلِيٌّ وَهُوَ يَقُولُ:
قُضِيَ لِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. ثُمَّ مَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ خَرَجَ
مُعَاوِيَةُ وَهُوَ يَقُولُ: غُفِرَ لِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ
رَجُلٌ: إِنِّي أُبْغِضُ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهُ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ
قَاتَلَ عَلِيًّا. فَقَالَ لَهُ أَبُو زُرْعَةَ: وَيْحَكَ ! إِنَّ رَبَّ
مُعَاوِيَةَ رَبٌّ رَحِيمٌ، وَخَصْمُ مُعَاوِيَةَ خَصْمٌ كَرِيمٌ، فَأَيْشِ
دُخُولُكَ أَنْتَ بَيْنَهُمَا ؟ ! رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَمَّا جَرَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، فَقَرَأَ:
تِلْكَ
أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الْبَقَرَةِ: 134 ]. وَكَذَا قَالَ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَمَّا جَرَى بَيْنَ عَلِيٍّ
وَعُثْمَانَ فَقَالَ: كَانَتْ لِهَذَا سَابِقَةٌ وَلِهَذَا سَابِقَةٌ، وَلِهَذَا
قَرَابَةٌ وَلِهَذَا قَرَابَةٌ، فَابْتُلِيَ هَذَا وَعُوفِيَ هَذَا. وَسُئِلَ
عَمَّا جَرَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ فَقَالَ: كَانَتْ لِهَذَا قَرَابَةٌ
وَلِهَذَا قَرَابَةٌ، وَلِهَذَا سَابِقَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا سَابِقَةٌ،
فَابْتُلِيَا جَمِيعًا.
وَقَالَ كُلْثُومُ بْنُ جَوْشَنٍ: سَأَلَ النَّضْرُ أَبُو عُمَرَ الْحَسَنَ
الْبَصْرِيَّ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ أَمْ عَلِيٌّ ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ
اللَّهِ ! وَلَا سَوَاءَ، سَبَقَتْ لِعَلِيٍّ سَوَابِقُ شَرِكَهُ فِيهَا أَبُو
بَكْرٍ، وَأَحْدَثَ عَلِيٌّ أَحْدَاثًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ،
أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ. فَقَالَ: فَعُمَرُ أَفْضَلُ أَمْ عَلِيٌّ ؟ فَقَالَ مِثْلَ
قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: عُمَرُ أَفْضَلُ. ثُمَّ قَالَ: عُثْمَانُ
أَفْضَلُ أَمْ عَلِيٌّ ؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ:
عُثْمَانُ أَفْضَلُ. قَالَ: فِعَلِيٌّ أَفْضَلُ أَمْ مُعَاوِيَةُ ؟ فَقَالَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ ! وَلَا سَوَاءَ، سَبَقَتْ لِعَلِيٍّ سَوَابِقُ لَمْ يُشْرِكْهُ
فِيهَا مُعَاوِيَةُ، وَأَحْدَثَ عَلِيٌّ أَحْدَاثًا شَرِكَهُ فِيهَا مُعَاوِيَةُ،
عَلِيٌّ أَفْضَلُ مِنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَنْقِمُ عَلَى
مُعَاوِيَةَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ ; قِتَالَهُ عَلِيًّا، وَقَتْلَهُ حُجْرَ بْنَ
عَدِيٍّ وَاسْتِلْحَاقَهُ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ، وَمُبَايَعَتَهُ لِيَزِيدَ
ابْنِهِ.
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: لَمَّا جَاءَ
خَبَرُ قَتْلِ عَلِيٍّ إِلَى
مُعَاوِيَةَ
جَعَلَ يَبْكِي، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَتَبْكِيهِ وَقَدْ قَاتَلْتَهُ ؟
فَقَالَ: وَيْحَكِ ! إِنَّكِ لَا تَدْرِينَ مَا فَقَدَ النَّاسُ مِنَ الْفَضْلِ
وَالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: بِالْأَمْسِ
تُقَاتِلُهُ وَالْيَوْمَ تَبْكِيهِ ؟ !
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ مَقْتَلُ عَلِيٍّ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ كَمَا
قَدَّمْنَا. وَلِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ بُويِعَ
لَهُ بِإِيلِيَاءَ بَيْعَةَ الْجَمَاعَةِ، وَدَخَلَ الْكُوفَةَ سَنَةَ
أَرْبَعِينَ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْجُمْهُورُ ;
أَنَّهُ بُويِعَ لَهُ بِإِيلِيَاءَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، حِينَ
بَلَغَ أَهْلَ الشَّامِ مَقْتَلُ عَلِيٍّ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا دَخَلَ الْكُوفَةَ
بَعْدَ مُصَالَحَةِ الْحَسَنِ لَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ، وَهُوَ عَامُ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ:
أَذْرُحُ. وَقِيلَ: بِمَسْكِنَ. مِنْ أَرْضِ سَوَادِ الْعِرَاقِ مِنْ نَاحِيَةِ
الْأَنْبَارِ، فَاسْتَقَلَّ مُعَاوِيَةُ بِالْأَمْرِ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ
سِتِّينَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ مُعَاوِيَةَ: لِكُلِّ
عَمَلٍ ثَوَابٌ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ: لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَا ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا الْأَعْمَشُ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا
مُعَاوِيَةُ بِالنُّخَيْلَةِ - يَعْنِي خَارِجَ الْكُوفَةِ - الْجُمُعَةِ فِي
الضُّحَى، ثُمَّ خَطَبَنَا فَقَالَ: مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتَصُومُوا، وَلَا
لِتُصَلُّوا، وَلَا لِتَحُجُّوا، وَلَا لِتُزَكُّوا، قَدْ عَرَفْتُ
أَنَّكُمْ
تَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا قَاتَلْتُكُمْ لِأَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ،
فَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ
بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ عَمِلَ سَنَتَيْنِ عَمَلَ
عُمَرَ مَا يَخْرِمُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعِدَ.
وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ اللَّيْلِ قَالَ:
قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ لَمَّا قَدِمَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى
الْمَدِينَةِ: يَا مُذِلَّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنِّي
سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى يَمْلِكَ
مُعَاوِيَةُ. فَعَلِمْتُ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَاقِعٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ تُهْرَاقَ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ قَالَ: قَالَ
عَلِيٌّ بَعْدَ مَا رَجَعَ مِنْ صِفِّينَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَكْرَهُوا
إِمَارَةَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّكُمْ لَوْ فَقَدْتُمُوهُ رَأَيْتُمُ الرُّءُوسَ
تَنْدُرُ عَنْ كَوَاهِلِهَا كَأَنَّهَا الْحَنْظَلُ.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، ثَنَا
أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ
قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَلَا تَعْجَبِينَ لِرَجُلٍ مِنَ الطُّلَقَاءِ
يُنَازِعُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخِلَافَةِ
؟ فَقَالَتْ: وَمَا تَعْجَبُ مِنْ
ذَلِكَ
؟ هُوَ سُلْطَانُ اللَّهِ يُؤْتِيَهُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، وَقَدْ مَلَكَ
فِرْعَوْنُ أَهْلَ مِصْرَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ
حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يُرِيدُ الْحَجَّ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَكَلَّمَهَا
خَالِيَيْنِ لَمْ يَشْهَدْ كَلَامَهُمَا أَحَدٌ إِلَّا ذَكْوَانُ أَبُو عَمْرٍو
مَوْلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: أَمِنْتَ أَنْ أُخَبِّئَ لَكَ رَجُلًا يَقْتُلُكَ
بِقَتْلِكَ أَخِي مُحَمَّدًا ؟ فَقَالَ: صَدَقْتِ. فَكَلَّمَهَا مُعَاوِيَةُ،
فَلَمَّا قَضَى كَلَامَهُ مَعَهَا تَشَهَّدَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ ذَكَرَتْ مَا
بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ، وَالَّذِي سَنَّ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَحَضَّتْ مُعَاوِيَةَ
عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِمْ، فَقَالَتْ فِي ذَلِكَ فَلَمْ تَتَّرِكْ، فَلَمَّا
قَضَتْ مَقَالَتَهَا قَالَ لَهَا مُعَاوِيَةُ: أَنْتِ وَاللَّهِ الْعَالِمَةُ
بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النَّاصِحَةُ
الْمُشْفِقَةُ الْبَلِيغَةُ الْمَوْعِظَةِ، حَضَضْتِ عَلَى الْخَيْرِ وَأَمَرْتِ
بِهِ، وَلَمْ تَأْمُرِينَا إِلَّا بِالَّذِي هُوَ لَنَا، وَأَنْتِ أَهْلٌ أَنْ
تُطَاعِي. وَتَكَلَّمَتْ هِيَ وَمُعَاوِيَةُ كَلَامًا كَثِيرًا. فَلَمَّا قَامَ
مُعَاوِيَةُ اتَّكَأَ عَلَى ذَكْوَانَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ خَطِيبًا
لَيْسَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْلَغَ مِنْ
عَائِشَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْبَجَلِيُّ،
ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ،
عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَدِينَةَ،
فَأَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيَّ بِأَنْبِجَانِيَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَعْرِهِ، فَأَرْسَلَتْ بِهِ مَعِي
أَحْمِلُهُ، حَتَّى دَخَلْتُ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ الْأَنْبِجَانِيَّةَ،
فَلَبِسَهَا، وَأَخَذَ
شَعْرَهُ
فَدَعَا بِمَاءٍ، فَغَسَلَهُ وَشَرِبَهُ، وَأَفَاضَ عَلَى جِلْدِهِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ الْهُذَلِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا
قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ عَامَ الْجَمَاعَةِ تَلَقَّتْهُ رِجَالٌ مِنْ
وُجُوهِ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَزَّ نَصْرَكَ،
وَأَعْلَى أَمْرَكَ. فَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ جَوَابًا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ،
فَقَصَدَ الْمَسْجِدَ وَعَلَا الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا وَلِيتُ أَمْرَكُمْ حِينَ
وَلِيتُهُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تُسَرُّونَ بِوِلَايَتِي وَلَا
تُحِبُّونَهَا، وَإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ، وَلَكِنِّي خَالَسْتُكُمْ
بِسَيْفِي هَذَا مُخَالَسَةً، وَلَقَدْ رُمْتُ نَفْسِي عَلَى عَمَلِ ابْنِ أَبِي
قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْهَا تَقُومُ بِذَلِكَ، وَأَرَدْتُهَا عَلَى عَمَلِ ابْنِ
الْخَطَّابِ، فَكَانَتْ أَشَدَّ نُفُورًا، وَحَاوَلْتُهَا عَلَى مِثْلِ سُنَيَّاتِ
عُثْمَانَ، فَأَبَتْ عَلَيَّ، وَأَيْنَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ ؟ ! هَيْهَاتَ أَنْ
يُدْرِكَ فَضْلَهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، رَحْمَةُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ
عَلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنِّي سَلَكْتُ بِهَا طَرِيقًا لِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ،
وَلَكُمْ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِكُلٍّ فِيهِ مُؤَاكَلَةٌ حَسَنَةٌ،
وَمُشَارَبَةٌ جَمِيلَةٌ، مَا اسْتَقَامَتِ السِّيرَةُ وَحَسُنَتِ الطَّاعَةُ،
فَإِنْ لَمْ تَجِدُونِي خَيْرَكُمْ فَأَنَا خَيْرٌ لَكُمْ، وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُ
السَّيْفَ عَلَى مَنْ لَا سَيْفَ مَعَهُ، وَمَهْمَا تَقَدَّمَ مِمَّا قَدْ عَلِمْتُمُوهُ
فَقَدْ جَعَلْتُهُ دَبْرَ أُذُنِي، وَإِنْ لَمْ تَجِدُونِي أَقُومُ بِحَقِّكُمْ
كُلِّهِ فَارْضَوْا مِنِّي بِبَعْضِهِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِقَائِبَةِ قُوبِهَا،
وَإِنَّ السَّيْلَ إِذَا جَاءَ تَتْرَى - وَإِنْ قَلَّ - أَغْنَى، وَإِيَّاكُمْ
وَالْفِتْنَةَ فَلَا تَهُمُّوا بِهَا، فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الْمَعِيشَةَ،
وَتُكَدِّرُ النِّعْمَةَ، وَتُورِثُ الِاسْتِئْصَالَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي
وَلَكُمْ. ثُمَّ نَزَلَ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْقَائِبَةُ: الْبَيْضَةُ،
وَالْقُوبُ: الْفَرْخُ، قَابَتِ
الْبَيْضَةُ
تَقُوبُ إِذَا انْفَلَقَتْ عَنِ الْفَرْخِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ كَانَتْ عَامَ حَجَّ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ، أَوْ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ، لَا فِي عَامِ الْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُلْوَانُ بْنُ دُوَادَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ
كَيْسَانَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَوَّلَ حَجَّةٍ حَجَّهَا
بَعْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَلَقِيَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ
وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَتَوَجَّهَ إِلَى دَارِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،
فَلَمَّا دَنَا إِلَى بَابِ الدَّارِ صَاحَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ عُثْمَانَ،
وَنَدَبَتْ أَبَاهَا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِمَنْ مَعَهُ: انْصَرِفُوا إِلَى
مَنَازِلِكُمْ فَإِنَّ لِي حَاجَةً فِي هَذِهِ الدَّارِ. فَانْصَرَفُوا وَدَخَلَ،
فَسَكَّنَ عَائِشَةَ، وَأَمَرَهَا بِالْكَفِّ، وَقَالَ لَهَا: يَا بِنْتَ أَخِي،
إِنَّ النَّاسَ أَعْطَوْنَا سُلْطَانًا فَأَظْهَرْنَا لَهُمْ حِلْمًا تَحْتَهُ
غَضَبٌ، وَأَظْهَرُوا لَنَا طَاعَةً تَحْتَهَا حِقْدٌ، فَبِعْنَاهُمْ هَذَا،
وَبَاعُونَا هَذَا، فَإِنْ أَعْطَيْنَاهُمْ غَيْرَ مَا اشْتَرَوْا شَحُّوا عَلَى
حَقِّهِمْ، وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ شِيعَةٌ، وَهُوَ يَرَى مَكَانَ
شِيعَتِهِمْ، فَإِنْ نَكَثْنَاهُمْ نَكَثُوا بِنَا، ثُمَّ لَا نَدْرِي أَتَكُونُ
لَنَا الدَّائِرَةُ أَمْ عَلَيْنَا ؟ وَأَنْ تَكُونِي ابْنَةَ عُثْمَانَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونِي أَمَةً مِنْ إِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ،
وَنِعْمَ الْخَلَفُ أَنَا لَكِ بَعْدَ أَبِيكِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ،
عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ مُجَالِدٍ، وَهُوَ
ضَعِيفٌ أَيْضًا، عَنْ
أَبِي
الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ عَلَى مِنْبَرِي
فَاقْتُلُوهُ ". أَسْنَدَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ ظُهَيْرٍ،
وَهُوَ مَتْرُوكٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ بِلَا شَكٍّ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَبَادَرَ
الصَّحَابَةُ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا تَأْخُذُهُمْ فِي
اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَأَرْسَلَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ. قَالَ أَيُّوبُ: وَهُوَ كَذِبٌ. وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ
الْبَغْدَادِيُّ بِإِسْنَادٍ مَجْهُولٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ
مَرْفُوعًا " إِذَا رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِي
فَاقْبَلُوهُ فَإِنَّهُ أَمِينٌ مَأْمُونٌ ".
وَقَدْ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ،
عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: أَدْرَكَتْ خِلَافَةَ مُعَاوِيَةَ عِدَّةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ ; مِنْهُمْ أُسَامَةُ، وَسَعْدٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ،
وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَرَافِعُ
بْنُ خَدِيجٍ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَرِجَالٌ أَكْثَرُ
مِمَّنْ سَمَّيْنَا بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، كَانُوا مَصَابِيحَ الْهُدَى،
وَأَوْعِيَةَ الْعِلْمِ، حَضَرُوا مِنَ الْكِتَابِ تَنْزِيلَهُ، وَأَخَذُوا عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْوِيلَهُ ; وَمِنَ
التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِنْهُمُ الْمِسْوَرُ بْنُ
مَخْرَمَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ،
وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَيْرِيزٍ، وَفِي أَشْبَاهٍ لَهُمْ لَمْ يَنْزِعُوا يَدًا عَنْ
مُجَامَعَةٍ
فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ غَازِيَةٌ
تَغْزُو، حَتَّى كَانَ عَامُ الْجَمَاعَةِ فَأَغْزَا مُعَاوِيَةُ أَرْضَ الرُّومِ
سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً، تَذْهَبُ سَرِيَّةٌ فِي الصَّيْفِ وَتَشْتُو بِأَرْضِ الرُّومِ،
ثُمَّ تَقْفِلُ وَتَعْقُبُهَا أُخْرَى، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَغَزَا ابْنُهُ
يَزِيدُ، وَمَعَهُ خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَجَازَ بِهِمُ الْخَلِيجَ،
وَقَاتَلُوا أَهْلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عَلَى بَابِهَا، ثُمَّ قَفَلَ بِهِمْ،
وَكَانَ آخِرَ مَا أَوْصَى بِهِ مُعَاوِيَةُ أَنْ قَالَ: شُدُّوا خِنَاقَ
الرُّومِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَجَّ بِالنَّاسِ
مُعَاوِيَةُ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُ
عِشْرِينَ سَنَةً إِلَّا شَهْرًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: حَجَّ بِالنَّاسِ مُعَاوِيَةُ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَسَنَةَ خَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا بُكَيْرٌ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ،
أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَعْدَ عُثْمَانَ
أَقْضَى بِحَقٍّ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْبَابِ. يَعْنِي مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
ثَنَا
الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَلَمَّا
دَخَلْتُ عَلَيْهِ - حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: سَلَّمْتُ عَلَيْهِ - فَقَالَ: مَا
فَعَلَ طَعْنُكَ عَلَى الْأَئِمَّةِ يَا مِسْوَرُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: ارْفُضْنَا
مِنْ هَذَا وَأَحْسِنْ فِيمَا قَدِمْنَا لَهُ. فَقَالَ: لَتُكَلِّمَنِّي بِذَاتِ
نَفْسِكَ. قَالَ: فَلَمْ أَدَعْ شَيْئًا أَعِيبُهُ عَلَيْهِ إِلَّا أَخْبَرْتُهُ
بِهِ. فَقَالَ: لَا بَرَاءَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَهَلْ لَكَ مِنْ ذُنُوبٍ تَخَافُ
أَنْ تُهْلِكَكَ إِنْ لَمْ يَغْفِرْهَا اللَّهُ لَكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: فَمَا يَجْعَلُكَ أَحَقَّ بِأَنْ تَرْجُوَ الْمَغْفِرَةَ مِنِّي،
فَوَاللَّهِ لَمَا أَلِيَ مِنَ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِقَامَةِ
الْحُدُودِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِي
نُحْصِيهَا وَالَّتِي لَا نُحْصِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا تَلِي، وَإِنِّي لَعَلَى
دِينٍ يَقْبَلُ اللَّهُ فِيهِ الْحَسَنَاتِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ،
وَوَاللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مَا كُنْتُ لِأُخَيَّرَ بَيْنَ اللَّهِ وَغَيْرِهِ
إِلَّا اخْتَرْتُ اللَّهَ عَلَى مَا سِوَاهُ. قَالَ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ لِي
مَا قَالَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ خَصَمَنِي. قَالَ: فَكَانَ الْمِسْوَرُ إِذَا
ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَعَا لَهُ بِخَيْرٍ. وَقَدْ رَوَاهُ شُعَيْبٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْعُتْبِيِّ قَالَ: قَالَ
مُعَاوِيَةُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا أَنَا بِخَيْرِكُمْ، وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ; عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو، وَغَيْرُهُمَا مَنَ الْأَفَاضِلِ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ أَكُونَ
أَنْفَعَكُمْ وِلَايَةً، وَأَنْكَاكُمْ فِي عَدُوِّكُمْ، وَأَدَرَّكُمْ حَلْبًا.
وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
مُصْعَبٍ،
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ ثَابِتٍ مَوْلَى سُفْيَانَ، أَنَّهُ
سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ خَطِيبُ دِمَشْقَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
وَاقَدٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَلْبَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى مِنْبَرِ
دِمَشْقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، اعْقِلُوا قَوْلِي، فَلَنْ
تَجِدُوا أَعْلَمَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنِّي، أَقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ وَصُفُوفَكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلَتُقِيمُنَّ وُجُوهَكُمْ
وَصُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، خُذُوا عَلَى
أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ، أَوْ لَيُسَلِّطُنَّهُمُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَلْيَسُومُنَّكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، تَصَدَّقُوا وَلَا يَقُولُنَّ الرَّجُلُ:
إِنِّي مُقِلٌّ. فَإِنَّ صَدَقَةَ الْمُقِلِّ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ الْغَنِيِّ،
وَإِيَّاكُمْ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: سَمِعْتُ. وَ:
بَلَغَنِي. فَلَوْ قَذَفَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ نُوحٍ لَسُئِلَ
عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ طَهْمَانَ
الرَّقَاشِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ إِذَا
حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُتَّهَمْ.
وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ ضِمَامِ
بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَبْعَثُ رَجُلًا
يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْجَيْشِ. فِي
كُلِّ
يَوْمٍ، فَيَدُورُ عَلَى الْمَجَالِسِ يَسْأَلُ هَلْ وُلِدَ لِأَحَدٍ مَوْلُودٌ،
أَوْ قَدِمَ أَحَدٌ مِنَ الْوُفُودِ، فَإِذَا أُخْبِرَ بِذَلِكَ أَثْبَتَ فِي
الدِّيوَانِ. يَعْنِي لِيُجْرِيَ عَلَيْهِ الرِّزْقَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مُعَاوِيَةُ مُتَوَاضِعًا، لَيْسَ لَهُ مَجَالِدُ إِلَّا
كَمَجَالِدِ الصِّبْيَانِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمَخَارِيقَ، فَيَضْرِبُ بِهَا
النَّاسَ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ فِي سُوقِ دِمَشْقَ وَهُوَ
مُرْدِفٌ وَرَاءَهُ وَصِيفًا، عَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعُ الْجَيْبِ، وَهُوَ
يَسِيرُ فِي أَسْوَاقِ دِمَشْقَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ
لَقُلْتُمْ: هَذَا الْمَهْدِيُّ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: قُلْتُ:
وَلَا عُمَرَ ؟ قَالَ: كَانَ عُمَرُ خَيْرًا مِنْهُ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَسْوَدَ
مِنْهُ. وَرَوَاهُ أَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ
حَوْشَبٍ بِهِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ. قِيلَ: وَلَا أَبَا بَكْرٍ
؟ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ خَيْرًا مِنْهُ، وَهُوَ
أَسْوَدُ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ مَنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ
يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَانَ أَخْلَقَ بِالْمُلْكِ مِنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ
أَبِي عُتْبَةَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ:
أَنَا أَوَّلُ الْمُلُوكِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا
ضَمْرَةُ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: أَنَا أَوَّلُ
الْمُلُوكِ وَآخِرُ خَلِيفَةٍ.
قُلْتُ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَالَ لِمُعَاوِيَةَ: مَلِكٌ. وَلَا يُقَالُ لَهُ:
خَلِيفَةٌ. لِحَدِيثِ سَفِينَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ
مُلْكًا عَضُوضًا ".
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمًا، وَذَكَرَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ:
مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ فِي حِلْمِهِ وَاحْتِمَالِهِ وَكَرَمِهِ.
وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْظَمَ حِلْمًا، وَلَا
أَكْثَرَ سُؤْدُدًا، وَلَا أَبَعْدَ أَنَاةً، وَلَا أَلْيَنَ مَخْرَجًا، وَلَا
أَرْحَبَ بَاعًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: أَسْمَعَ رَجُلٌ مُعَاوِيَةَ كَلَامًا شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ
سَطَوْتَ عَلَيْهِ ! فَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ يَضِيقَ حِلْمِي عَنْ
أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِي. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَحْلَمَكَ ! فَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ يَكُونَ
جُرْمُ رَجُلٍ أَعْظَمَ مِنْ حِلْمِي.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنِّي
لَأَسْتَحِي أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ أَعْظَمَ مِنْ عَفْوِي، أَوْ جَهْلٌ أَكْبَرَ
مِنْ حِلْمِي، أَوْ تَكُونَ عَوْرَةٌ لَا أُوَارِيهَا بِسَتْرِي.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ - وَالْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ - قَالَا: جَرَى بَيْنَ
رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْجَهْمِ. وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ كَلَامٌ، فَتَكَلَّمَ
أَبُو الْجَهْمِ بِكَلَامٍ فِيهِ غَمٌّ لِمُعَاوِيَةَ، فَأَطْرَقَ، ثُمَّ رَفَعَ
رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْجَهْمِ، إِيَّاكَ وَالسُّلْطَانَ، فَإِنَّهُ
يَغْضَبُ غَضَبَ الصِّبْيَانِ، وَيَأْخُذُ أَخْذَ الْأَسَدِ، وَإِنَّ قَلِيلَهُ
يَغْلِبُ كَثِيرَ النَّاسِ. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ، فَقَالَ أَبُو الْجَهْمِ
فِي ذَلِكَ يَمْدَحُ مُعَاوِيَةَ:
نَمِيلُ عَلَى جَوَانِبِهِ كَأَنَّا إِذَا مِلْنَا نَمِيلُ عَلَى أَبِينَا
نُقَلِّبُهُ لِنُخْبِرَ حَالَتَيْهِ فَنُخْبَرُ مِنْهُمَا كَرَمًا وَلِينًا
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: طَافَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ
مُعَاوِيَةُ
يَمْشِي
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: مَا أَشْبَهَ أَلْيَتَيْهِ بِأَلْيَتَيْ
هِنْدَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ يُعْجِبُ
أَبَا سُفْيَانَ.
وَقَالَ ابْنُ أُخْتِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ لِمُعَاوِيَةَ:
إِنَّ فُلَانًا يَشْتُمُنِي. فَقَالَ لَهُ: تَطَأْطَأْ لَهَا تَمُرَّ
فَتُجَاوِزَكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: قَالَ رَجُلٌ لِمُعَاوِيَةَ: مَا رَأَيْتُ
أَنْذَلَ مِنْكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَى، مَنْ وَاجَهَ الرِّجَالَ بِمِثْلِ
هَذَا.
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا يَسُرُّنِي بَدَلَ
الْكَرَمِ حُمْرُ النَّعَمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا بَنِي
أُمَيَّةَ، قَارِبُوا قُرَيْشًا بِالْحِلْمِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَلْقَى
الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيُوسِعُنِي شَتْمًا وَأَوْسِعُهُ حِلْمًا،
فَأَرْجِعُ وَهُوَ لِي صَدِيقٌ، أَسْتَنْجِدُهُ فَيُنْجِدُنِي، وَأَثُورُ بِهِ
فَيَثُورُ مَعِي، وَمَا رَفَعَ الْحِلْمُ عَنْ شَرِيفٍ شَرَفَهُ، وَلَا زَادَهُ
إِلَّا كَرَمًا. وَقَالَ: آفَةُ الْحِلْمِ الذُّلُّ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا
يَبْلُغُ الرَّجُلُ مَبْلَغَ الرَّأْيِ حَتَّى يَغْلِبَ حِلْمُهُ جَهْلَهُ،
وَصَبْرُهُ شَهْوَتَهُ، وَلَا يَبْلُغُ ذَلِكَ إِلَّا بِقُوَّةِ الْحِلْمِ.
وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لِلَّهِ دَرُّ ابْنِ هِنْدَ، وَاللَّهِ إِنْ
كُنَّا لَنُفْرِقُهُ - وَمَا اللَّيْثُ عَلَى بَرَاثِنِهِ بِأَجْرَأَ مِنْهُ - فَيَتَفَارَقُ
لَنَا، وَإِنْ كُنَّا لَنَخْدَعُهُ - وَمَا ابْنُ لَيْلَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ
بِأَدْهَى مِنْهُ - فَيَتَخَادَعُ لَنَا، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّا مُتِّعْنَا
بِهِ مَا دَامَ فِي هَذَا الْجَبَلِ حَجَرٌ. وَأَشَارَ إِلَىأَبِي قُبَيْسٍ.
وَقَالَ رَجُلٌ لِمُعَاوِيَةَ: مَنْ أَسْوَدُ النَّاسِ ؟ فَقَالَ: أَسْخَاهُمْ
نَفْسًا حِينَ يُسْأَلُ، وَأَحْسَنُهُمْ فِي الْمَجَالِسِ خُلُقًا، وَأَحْلَمُهُمْ
حِينَ يُسْتَجْهَلُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: كَانَ مُعَاوِيَةُ
يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ كَثِيرًا:
فَمَا قَتَلَ السَّفَاهَةَ مِثْلُ حِلْمٍ يَعُودُ بِهِ عَلَى الْجَهْلِ الْحَلِيمُ
فَلَا تَسْفَهْ وَإِنْ مُلِّئْتَ غَيْظًا عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّ الْفُحْشَ لَوْمُ
وَلَا تَقْطَعْ أَخًا لَكَ عِنْدَ ذَنْبٍ فَإِنَّ الذَّنْبَ يَغْفِرُهُ الْكَرِيمُ
وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ بِمَ غَلَبَ مُعَاوِيَةُ النَّاسَ،
كَانُوا إِذَا طَارُوا وَقَعَ، وَإِذَا وَقَعُوا طَارَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى نَائِبِهِ زِيَادٍ: إِنَّهُ لَا
يَنْبَغِي أَنْ نَسُوسَ النَّاسَ سِيَاسَةً وَاحِدَةً ; بِاللِّينِ فَيَمْرَحُوا،
وَلَا بِالشِّدَّةِ فَنَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْمَهَالِكِ، وَلَكِنْ كُنْ أَنْتَ
لِلشِّدَّةِ وَالْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ، أَكُونُ أَنَا لِلِّينِ وَالْأُلْفَةِ
وَالرَّحْمَةِ، فَإِذَا خَافَ خَائِفٌ وَجَدَ بَابًا يَدْخُلُهُ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قَضَى
مُعَاوِيَةُ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ
دِينَارٍ كَانَتْ عَلَيْهَا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَفَرَّقَتْهَا مِنْ يَوْمِهَا،
فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا دِرْهَمٌ، فَقَالَتْ لَهَا خَادِمَتُهَا: هَلَّا أَبْقَيْتِ
لَنَا دِرْهَمًا نَشْتَرِي بِهِ لَحْمًا. فَقَالَتْ: لَوْ أَذْكَرْتِنِي
لَفَعَلْتُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ - وَهِيَ بِمَكَّةَ -
بِطَوْقٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفٍ، فَقَبِلَتْهُ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ:
قَدِمَ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: لَأُجِيزَنَّكَ بِجَائِزَةٍ
لَمْ يُجِزْ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي. فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ
أَلْفٍ.
وَوَفَدَ إِلَيْهِ مَرَّةً الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَأَجَازَهُمَا عَلَى
الْفَوْرِ بِمِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقَالَ لَهُمَا: مَا أَجَازَ بِهَا أَحَدٌ
قَبْلِي. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: وَلَمْ تُعْطِ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنَّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا جَرِيرٌ
عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: أَرْسَلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلَانِهِ الْمَالَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا أَوْ
إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَقَالَ
لَهُمَا: أَلَا تَسْتَحِيَانِ ; رَجُلٌ نَطْعَنُ فِي عَيْنِهِ غُدْوَةً
وَعَشِيَّةً تَسْأَلَانِهِ الْمَالَ ؟ ! فَقَالَا: بَلْ حَرَمْتَنَا وَجَادَ
لَنَا.
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ قَالَ: وَفَدَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ
أَلْفٍ، وَقَالَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِ عَمَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ
أَلْفٍ.
وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ الْمَرْوَانِيُّ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ: لِجُلَسَائِهِ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا
فَهُوَ لَهُ. وَبَعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَسَمَهَا عَلَى
جُلَسَائِهِ، وَكَانُوا عَشَرَةً، فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ عَشَرَةَ آلَافٍ.
وَبَعَثَ إِلَى
عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَاسْتَوْهَبَتْهَا مِنْهُ امْرَأَتُهُ،
فَأَطْلَقَهَا لَهَا. وَبَعَثَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ،
فَقَسَمَ مِنْهَا خَمْسِينَ أَلْفًا، وَحَبَسَ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَبَعَثَ إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَفَرَّقَ مِنْهَا تِسْعِينَ
أَلْفًا، وَاسْتَبْقَى عَشَرَةَ آلَافٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّهُ
لَمُقْتَصِدٌ يُحِبُّ الِاقْتِصَادَ، وَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: لِمَ جِئْتَ بِهَا
بِالنَّهَارِ ؟ هَلَّا جِئْتَ بِهَا بِاللَّيْلِ. ثُمَّ حَبَسَهَا عِنْدَهُ،
وَلَمْ يُعْطِ مِنْهَا أَحَدًا شَيْئًا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّهُ لَخِبٌّ
ضَبٌّ، كَأَنَّكَ بِهِ قَدْ رَفَعَ ذَنَبَهُ وَقُطِعَ.
وَقَالَ ابْنُ دَابٍّ: كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ
فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ، وَيَقْضِي لَهُ مَعَهَا مِائَةَ حَاجَةٍ،
فَقَدِمَ عَلَيْهِ عَامًا، فَأَعْطَاهُ الْمَالَ، وَقَضَى لَهُ الْحَاجَاتِ،
وَبَقِيَتْ مِنْهَا حَاجَةٌ وَاحِدَةٌ، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهُ إِذْ قَدِمَ
أَصْبَهْبَذُ سِجِسْتَانَ يَطْلُبُ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُمَلِّكَهُ تِلْكَ
الْبِلَادَ، وَوَعَدَ مَنْ قَضَى لَهُ هَذِهِ الْحَاجَةَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ
أَلْفٍ، فَطَافَ عَلَى رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأُمَرَاءِ
الْعِرَاقِ، مِمَّنْ قَدِمَ مَعَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فَكُلُّهُمْ يَقُولُونَ
لَهُ: عَلَيْكَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ. فَقَصَدَهُ الدِّهْقَانُ،
فَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ جَعْفَرٍ مُعَاوِيَةَ، فَقَضَى حَاجَتَهُ تَكْمِلَةَ
الْمِائَةِ حَاجَةٍ، وَأَمَرَ الْكَاتِبَ فَكَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ، وَخَرَجَ بِهِ
ابْنُ جَعْفَرٍ إِلَى الدِّهْقَانِ، فَسَجَدَ لَهُ وَحَمَلَ إِلَيْهِ أَلْفَ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ: اسْجُدْ لِلَّهِ، وَاحْمِلْ
مَالَكَ إِلَى مَنْزِلِكَ، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نُتْبِعُ الْمَعْرُوفَ
بِالْمَنِّ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: لَأَنْ يَكُونَ يَزِيدُ
قَالَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ خَرَاجِ الْعِرَاقِ، أَبَتْ بَنُو هَاشِمٍ إِلَّا
كَرَمًا.
وَقَالَ
غَيْرُهُ: كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي كُلِّ
سَنَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دَيْنٌ
خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ غُرَمَاؤُهُ، فَاسْتَنْظَرَهُمْ حَتَّى
يَقْدَمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَيَسْأَلَهُ أَنْ يُسْلِفَهُ شَيْئًا مِنَ
الْعَطَاءِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَقْدَمَكَ يَا ابْنَ جَعْفَرٍ
؟ فَقَالَ: دَيْنٌ أَلَحَّ عَلِيَّ غُرَمَاؤُهُ. فَقَالَ: وَكَمْ هُوَ: قَالَ:
خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ. فَقَضَاهَا عَنْهُ. وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَلْفَ أَلْفٍ
سَتَأْتِيكَ فِي وَقْتِهَا.
وَقَالَ ابْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو
هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا عَجَبًا لِلْحَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ ! شَرِبَ شَرْبَةَ عَسَلٍ يَمَانِيَّةً بِمَاءِ رُومَةَ فَقَضَى نَحْبَهُ.
ثُمَّ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يَسُوءُكَ اللَّهُ وَلَا يُخْزِيكَ فِي
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُعَاوِيَةَ: لَا يُخْزِينِي
اللَّهُ وَلَا يَسُوءُنِي مَا أَبْقَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ:
فَأَعْطَاهُ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعُرُوضًا وَأَشْيَاءَ، وَقَالَ: خُذْهَا
فَاقْسِمْهَا فِي أَهْلِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ:
قِيلَ لِمُعَاوِيَةَ: أَيُّكُمْ كَانَ أَشْرَفَ ; أَنْتُمْ أَوْ بَنُو هَاشِمٍ ؟
قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَشْرَافًا وَكَانُوا أَشْرَفَ وَاحِدًا ; لَمْ يَكُنْ فِي
عَبْدِ مَنَافٍ مِثْلُ هَاشِمٍ، فَلَمَّا هَلَكَ كُنَّا أَكْثَرَ عَدَدًا
وَأَكْثَرَ أَشْرَافًا، وَكَانَ فِيهِمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ يَكُنْ
فِينَا مِثْلُهُمْ، فَصِرْنَا أَكْثَرَ عَدَدًا وَأَكْثَرَ أَشْرَافًا وَلَمْ
يَكُنْ فِيهِمْ وَاحِدٌ كَوَاحِدِنَا، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا كَقَرَارِ الْعَيْنِ
حَتَّى جَاءَ شَيْءٌ لَمْ يَسْمَعِ الْأَوَّلُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَا يَسْمَعُ
الْآخِرُونَ بِمِثْلِهِ ; مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى
ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَصَّ عَلَى مُعَاوِيَةَ مَنَامًا رَأَى
فِيهِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَهُمْ يُحَاسَبُونَ عَلَى مَا وُلُّوهُ
فِي أَيَّامِهِمْ، وَرَأَى مُعَاوِيَةَ وَهُوَ مُوَكَّلٌ بِهِ رَجُلَانِ يُحَاسِبَانِهِ
عَلَى مَا عَمِلَ فِي أَيَّامِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا رَأَيْتَ ثَمَّ
دَنَانِيرَ مِصْرَ ؟ !
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْعُتْبِيِّ قَالَ: دَخَلَ
عَمْرٌو عَلَى مُعَاوِيَةَ وَقَدْ وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابٌ فِيهِ تَعْزِيَةٌ لَهُ
فِي بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَاسْتَرْجَعَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ:
يَمُوتُ الصَّالِحُونَ وَأَنْتَ حَيٌّ تَخَطَّاكَ الْمَنَايَا لَا تَمُوتُ
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
أَتَرْجُو أَنْ أَمُوتَ وَأَنْتَ حَيٌّ فَلَسْتُ بِمَيِّتٍ حَتَّى تَمُوتَ
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: كُلُّ النَّاسِ أَسْتَطِيعُ أَنْ
أُرْضِيَهُ إِلَّا حَاسِدَ نِعْمَةٍ ; فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيَهُ إِلَّا
زَوَالُهَا.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِي
بَحْرِيَّةَ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: الْمُرُوءَةُ فِي أَرْبَعٍ ; الْعَفَافِ
فِي الْإِسْلَامِ، وَاسْتِصْلَاحِ الْمَالِ، وَحِفْظِ الْإِخْوَانِ، وَحِفْظِ
الْجَارِ.
وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ الشِّعْرَ، فَلَمَّا وَلِيَ
الْخِلَافَةَ قَالَ لَهُ أَهْلُهُ: قَدْ بَلَغْتَ الْغَايَةَ، فَمَاذَا تَصْنَعُ
بِالشِّعْرِ ؟ فَارْتَاحَ يَوْمًا فَقَالَ
سَرَحْتُ سَفَاهَتِي وَأَرَحْتُ حِلْمِي وَفِيَّ عَلَى تَحَلُّمِيَ اعْتِرَاضُ
عَلَى أَنِّي أُجِيبُ إِذَا دَعَتْنِي إِلَى حَاجَاتِهَا الْحَدَقُ الْمِرَاضُ
وَقَالَ مُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ جَالِسًا مُعَاوِيَةُ
حِينَ كَثُرَ شَحْمُهُ وَعَظُمَ بَطْنُهُ. وَكَذَا رَوَى مُغِيرَةُ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ جَالِسًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ
مُعَاوِيَةُ. وَقَالَ أَبُو الْمَلِيحِ، عَنْ مَيْمُونٍ: أَوَّلُ مَنْ جَلَسَ
عَلَى الْمِنْبَرِ مُعَاوِيَةُ، وَاسْتَأْذَنَ النَّاسَ فِي الْجُلُوسِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ
وَأَقَامَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ مُعَاوِيَةُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: كَانَتْ أَبْوَابُ مَكَّةَ لَا أَغْلَاقَ
لَهَا، وَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ لَهَا الْأَبْوَابَ مُعَاوِيَةُ.
وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ:مَضَتِ السُّنَّةُ
أَنْ لَا يَرِثَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَأَوَّلُ
مَنْ وَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ مُعَاوِيَةُ، وَقَضَى بِذَلِكَ بَنُو
أُمَيَّةَ بَعْدَهُ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَاجَعَ
السُّنَّةَ،
وَأَعَادَ
هِشَامٌ مَا قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ وَبَنُو أُمَيَّةَ مِنْ بَعْدِهِ. وَبِهِ قَالَ
الزُّهْرِيُّ:وَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ دِيَةَ الْمُعَاهَدِ كَدِيَةِ
الْمُسْلِمِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَوَّلَ مَنْ قَصَرَهَا إِلَى النِّصْفِ،
وَأَخَذَ النِّصْفَ لِنَفْسِهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ
بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: اسْمَعْ يَا زُهْرِيُّ، مَنْ مَاتَ مُحِبًّا لِأَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَشَهِدَ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ،
وَتَرَحَّمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، كَانَ حَقِيقًا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا
يُنَاقِشَهُ الْحِسَابَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ الطَّالْقَانِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الْمُبَارَكِ يَقُولُ: تُرَابٌ فِي أَنْفِ مُعَاوِيَةَ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: سُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ
مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: مَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمْدَهُ ".
فَقَالَ خَلْفَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ؟ ! فَقِيلَ لَهُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ
؟ هُوَ أَمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؟ فَقَالَ: لَتُرَابٌ فِي مَنْخَرَيْ
مُعَاوِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ
وَأَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مُعَاوِيَةُ عِنْدَنَا مِحْنَةٌ
فَمَنْ رَأَيْنَاهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ شَزْرًا اتَّهَمْنَاهُ عَلَى الْقَوْمِ.
يَعْنِي الصَّحَابَةَ.
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِليُّ وَغَيْرُهُ: سُئِلَ
الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ أَيُّمَا أَفْضَلُ مُعَاوِيَةُ أَمْ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ ؟ فَغَضِبَ وَقَالَ لِلسَّائِلِ: تَجْعَلُ رَجُلًا مِنَ
الصَّحَابَةِ مِثْلَ رَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينِ ؟ ! مُعَاوِيَةُ صَاحِبُهُ
وَصِهْرُهُ وَكَاتِبُهُ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعَوْا لِي أَصْحَابِي
وَأَصْهَارِي، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ". وَكَذَا قَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَنْبَسَةَ.
وَقَالَ أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ الْحَلَبِيُّ: مُعَاوِيَةُ سِتْرٌ
لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا كَشَفَ
الرَّجُلُ السِّتْرَ اجْتَرَأَ عَلَى مَا وَرَاءَهُ.
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا الْحَسَنِ،
إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَذْكُرُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِسُوءٍ فَاتَّهِمْهُ
عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ
رَجُلٍ تَنَقَّصَ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ: أَيُقَالُ لَهُ رَافِضِيٌّ
؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجْتَرِ عَلَيْهِمَا إِلَّا وَلَهُ خَبِيئَةُ سُوءٍ، مَا
انْتَقَصَ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَّا وَلَهُ دَاخِلَةُ سُوءٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مَيْسَرَةَ
قَالَ:
مَا رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ضَرَبَ إِنْسَانًا قَطُّ إِلَّا
إِنْسَانًا شَتَمَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ ضَرَبَهُ أَسْوَاطًا.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: بَيْنَا أَنَا عَلَى جَبَلٍ بِالشَّامِ إِذْ سَمِعْتُ
هَاتِفًا يَقُولُ: مَنْ أَبْغَضَ الصِّدِّيقَ فَذَاكَ زِنْدِيقٌ، وَمَنْ أَبْغَضَ
عُمَرَ فَإِلَى جَهَنَّمَ زُمَرَ، وَمَنْ أَبْغَضَ عُثْمَانَ فَذَاكَ خَصْمُهُ
الرَّحْمَنُ، وَمَنْ أَبْغَضَ عَلِيَّ فَذَاكَ خَصْمُهُ النَّبِيُّ، وَمَنْ
أَبْغَضَ مُعَاوِيَهْ، سَحَبَتْهُ الزَّبَانِيَهْ، إِلَى جَهَنَّمَ الْحَامِيَهْ،
وَيُرْمَى بِهِ فِي الْهَاوِيَهْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْمَنَامِ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ
وَمُعَاوِيَةُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا
يَنْتَقِصُنَا. فَكَأَنَّهُ انْتَهَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَنْتَقِصُ هَؤُلَاءِ،
وَلَكِنْ أَنْتَقِصُ هَذَا. يَعْنِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَكَ ! أَوَ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِي ؟ !
قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَرْبَةً، فَنَاوَلَهَا مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: جَأْ بِهَا فِي لَبَّتِهِ.
فَضَرَبَهُ بِهَا، وَانْتَبَهْتُ فَبَكَّرْتُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَإِذَا ذَلِكَ
الرَّجُلُ قَدْ أَصَابَتْهُ الذَّبْحَةُ مِنَ اللَّيْلِ وَمَاتَ. وَهُوَ رَاشِدٌ
الْكِنْدِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
مُعَاوِيَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنَ الْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ، وَلَكِنِ ابْتُلِيَ
بِحُبِّ الدُّنْيَا.
وَقَالَ
الْعُتْبِيُّ: قِيلَ لِمُعَاوِيَةَ: أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ. فَقَالَ: كَيْفَ
لَا وَلَا أَزَالُ أَرَى رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ قَائِمًا عَلَى رَأْسِي يُلْقِحُ
لِي كَلَامًا يُلْزِمُنِي جَوَابَهُ، فَإِنْ أَصَبْتُ لَمْ أُحْمَدْ، وَإِنْ
أَخْطَأْتُ سَارَتْ بِهَا الْبُرُدُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ: أَصَابَتْ مُعَاوِيَةَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ
لَقْوَةٌ.
وَذَكَرَ ابْنَ جَرِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَدِمَ فِي وَفْدِ أَهْلِ
مِصْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى
مُعَاوِيَةَ فَلَا تُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ ; فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّ
ذَلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرٌو قَبْلَهُمْ قَالَ مُعَاوِيَةُ
لِحَاجِبِهِ: أَدْخِلْهُمْ. وَأَوْعَزَ إِلَيْهِ أَنْ يُخَوِّفَهُمْ فِي
الدُّخُولِ وَيُرْعِبَهُمْ، وَقَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّ عَمْرًا قَدْ تَقَدَّمَ
إِلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ. فَلَمَّا أَدْخَلُوهُمْ عَلَيْهِ - وَقَدْ أَهَانُوهُمْ -
جَعَلَ أَحَدُهُمْ إِذَا دَخَلَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ. فَلَمَّا نَهَضَ عَمْرٌو مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: قَبَّحَكُمُ اللَّهُ !
نَهَيْتُكُمْ
عَنْ أَنْ تُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ فَسَلَّمْتُمْ عَلَيْهِ
بِالنُّبُوَّةِ !
وَذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُسَاعِدَهُ فِي بْناءِ
دَارٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ جِذْعٍ مِنَ الْخَشَبِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
أَيْنَ دَارُكَ ؟ قَالَ: بِالْبَصْرَةِ. وَكَمِ اتِّسَاعُهَا ؟ قَالَ: فَرْسَخَانِ
فِي فَرْسَخَيْنِ. قَالَ: لَا تَقُلْ دَارِي بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ قُلِ
الْبَصْرَةُ فِي دَارِي.
وَذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ بِابْنٍ مَعَهُ، فَجَلَسَا عَلَى سِمَاطِ
مُعَاوِيَةَ، فَجَعَلَ وَلَدُهُ يَأْكُلُ أَكْلًا ذَرِيعًا، فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ
يُلَاحِظُهُ، وَجَعَلَ أَبُوهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا
يَفْطِنُ، فَلَمَّا خَرَجَا لَامَهُ أَبُوهُ، وَقَطَعَهُ عَنِ الدُّخُولِ، فَقَالَ
لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَيْنَ ابْنُكَ التِّلْقَامَةُ ؟ قَالَ: اشْتَكَى. قَالَ: قَدْ
عَلِمْتُ أَنَّ أَكْلَهُ سَيُورِثُهُ دَاءً.
قَالَ: وَنَظَرَ مُعَاوِيَةُ إِلَى رَجُلٍ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يُخَاطِبُهُ وَعَلَيْهِ
عَبَاءَةٌ، فَجَعَلَ يَزْدَرِيهِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ
لَا تُخَاطِبُ الْعَبَاءَةَ، إِنَّمَا يُخَاطِبُكَ مَنْ فِيهَا.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَقَلَ وَحَلُمَ ; مَنْ إِذَا
أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا غَضِبَ كَظَمَ، وَإِذَا
قَدَرَ غَفَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ، وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ.
وَكَتَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلَادُهَا وَاضْطَرَبَتْ مِنْ كِبَرٍ أَعَضَادُهَا
وَجَعَلَتْ
أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا فَهِيَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ نَعَى إِلَيَّ نَفْسِي.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ السَّهْمِيِّ، حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ كُلْثُومٍ، أَنَّ آخِرَ خُطْبَةٍ
خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ أَنْ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي مِنْ زَرْعٍ قَدِ
اسْتَحْصَدَ، وَإِنِّي قَدْ وَلِيتُكُمْ، وَلَنْ يَلِيَكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي إِلَّا
مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي، كَمَا كَانَ مَنْ وَلِيَكُمْ قَبْلِي خَيْرًا مِنِّي،
وَيَا يَزِيدُ، إِذَا وَفَى أَجْلِي فَوَلِّ غُسْلِي رَجُلًا لَبِيبًا ; فَإِنَّ
اللَّبِيبَ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ، فَلْيُنْعِمِ الْغُسْلَ وَلْيَجْهَرْ
بِالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ اعْمِدْ إِلَى مَنْدِيلٍ فِي الْخِزَانَةِ فِيهِ ثَوْبٌ
مِنْ ثِيَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُرَاضَةٌ
مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ، فَاسْتَوْدِعِ الْقُرَاضَةَ أَنْفِي وَفَمِي
وَأُذُنَيَّ وَعَيْنَيَّ، وَاجْعَلِ الثَّوْبَ يَلِي جِلْدِي دُونَ أَكْفَانِي،
وَيَا يَزِيدُ، احْفَظْ وَصِيَّةَ اللَّهِ فِي الْوَالِدَيْنِ، فَإِذَا
أَدْرَجْتُمُونِي فِي جَرِيدَتِي، وَوَضَعْتُمُونِي فِي حُفْرَتِي فَخَلُّوا
مُعَاوِيَةَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا احْتُضِرَ مُعَاوِيَةُ جَعَلَ يَقُولُ:
لَعَمْرِي لَقَدْ عُمِّرْتُ فِي الدَّهْرِ بُرْهَةً وَدَانَتْ لِيَ الدُّنْيَا
بِوَقْعِ الْبَوَاتِرِ
وَأُعْطِيتُ حُمْرَ الْمَالِ وَالْحُكْمَ وَالنُّهَى وَسِلْمَ قَمَاقِيمِ
الْمُلُوكِ الْجَبَابِرِ
فَأَضْحَى
الَّذِي قَدْ كَانَ مِمَّا يَسُرُّنِي كَحُلْمٍ مَضَى فِي الْمُزْمِنَاتِ
الْغَوَابِرِ
فَيَا لَيْتَنِي لَمْ أُعْنَ فِي الْمُلْكِ سَاعَةً وَلَمْ أُعْنَ فِي لَذَّاتِ
عَيْشٍ نَوَاضِرِ
وَكُنْتُ كَذِي طِمْرَيْنِ عَاشَ بِبُلْغَةٍ مِنَ الْعَيْشِ حَتَّى زَارَ ضِيقَ
الْمَقَابِرِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَكَمِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا احْتُضِرَ أَوْصَى
بْنصْفِ مَالِهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ
يُطَيَّبَ لَهُ ; لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَاسَمَ عُمَّالَهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ اشْتَدَّ بِهِ الْبَرْدُ، فَكَانَ إِذَا
لَبِسَ أَوْ تَغَطَّى بِشَيْءٍ ثَقِيلٍ يَغُمُّهُ، فَاتُّخِذَ لَهُ ثَوْبٌ مِنْ
حَوَاصِلِ الطَّيْرِ، ثُمَّ ثَقُلَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: تَبًّا لَكِ
مِنْ دَارٍ، مَلَكْتُكِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ; عِشْرِينَ أَمِيرًا، وَعِشْرِينَ
خَلِيفَةً، ثُمَّ هَذَا حَالِي فِيكِ، وَمَصِيرِي مِنْكِ، تَبًّا لِلدُّنْيَا
وَمُحِبِّيهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ
الثَّقَفِيِّ، عَنْ
عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ مُعَاوِيَةُ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ
أَنَّهُ بِالْمَوْتِ قَالَ لِأَهْلِهِ: احْشُوَا عَيْنَيَّ إِثْمِدًا،
وَأَوْسِعُوا رَأْسِي دُهْنًا. فَفَعَلُوا وَبَرَّقُوا وَجْهَهُ بِالدُّهْنِ،
ثُمَّ مُهِّدَ لَهُ فَجَلَسَ وَقَالَ: أَسْنَدُونِي. ثُمَّ قَالَ: ائْذَنُوا
لِلنَّاسِ فَلْيُسَلِّمُوا عَلَيَّ قِيَامًا وَلَا يَجْلِسْ أَحَدٌ. فَجَعَلَ
الرَّجُلُ يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ قَائِمًا فَيَرَاهُ مُتَكَحِّلًا مُتَدَهِّنًا،
فَيَقُولُ مُتَقَوِّلُ النَّاسِ: هُوَ لَمًّا بِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ النَّاسِ.
فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ مُعَاوِيَةُ:
وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا
أَتَضَعْضَعُ
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا
تَنْفَعُ
قَالَ: وَكَانَ بِهِ الْتِفَاتَةٌ، يَعْنِي لَقْوَةً، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ
ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ: لَمَّا نَزَلَ بِمُعَاوِيَةَ الْمَوْتَ قَالَ:
يَا لَيْتَنِي كُنْتُ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ بِذِي طَوًى وَلَمْ أَلِ مِنْ هَذَا
الْأَمْرِ شَيْئًا.
وَقَالَ أَبُو السَّائِبِ الْمَخْزُومِيُّ: لَمَّا حَضَرَتْ مُعَاوِيَةَ
الْوَفَاةُ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَا رَبِّ عَذَابًا لَا طَوْقَ لِي بِالْعَذَابِ
أَوْ تُجَاوِزْ تَجَاوُزَ الْعَفْوِ فَاصْفَحْ عَنْ مُسِيءٍ ذُنُوبُهُ
كَالتُّرَابِ
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: لَمَّا احْتُضِرَ مُعَاوِيَةُ جَعَلَ أَهْلُهُ يُقَلِّبُونَهُ فَقَالَ
لَهُمْ: أَيَّ شَيْخٍ تُقَلِّبُونَ ؟ إِنْ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ غَدًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: جَعَلَ مُعَاوِيَةُ لَمَّا احْتُضِرَ يَضَعُ
خَدًّا عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ، وَيَضَعُ الْخَدَّ الْآخَرَ،
وَيَبْكِي وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ: إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [
النِّسَاءِ: 48 ]. اللَّهُمَّ فَاجْعَلْنِي مِمَّنْ تَشَاءُ أَنْ تَغْفِرَ لَهُ.
وَقَالَ الْعُتْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ: تَمَثَّلَ مُعَاوِيَةُ عِنْدَ مَوْتِهِ
بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ:
هُوَ الْمَوْتُ لَا مَنْجَى مِنَ الْمَوْتِ وَالَّذِي نُحَاذِرُ بَعْدَ الْمَوْتِ
أَدْهَى وَأَفْظَعُ
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَقِلِ الْعَثْرَةَ، وَاعْفُ عَنِ الزَّلَّةِ،
وَتَجَاوَزْ بِحِلْمِكَ عَنْ جَهْلِ مَنْ لَمْ يَرْجُ غَيْرَكَ، فَإِنَّكَ وَاسِعُ
الْمَغْفِرَةِ، لَيْسَ لِذِي خَطِيئَةٍ مِنْ خَطِيئَتِهِ مَهْرَبٌ إِلَّا
إِلَيْكَ. وَرَوَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ،
عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: ثُمَّ مَاتَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: اتَّقُوا
اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقِي مَنِ اتَّقَاهُ، وَلَا يَقِي مَنْ لَا
يَتَّقِي. ثُمَّ مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ
رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ
مُعَاوِيَةُ صَعِدَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ النَّاسَ
وَأَكْفَانُ مُعَاوِيَةَ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ
وَالثَنَاءِ عَلَيْهِ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ الَّذِي كَانَ عَوْدَ الْعَرَبِ وَحَدَّ
الْعَرَبِ، قَطَعَ اللَّهُ بِهِ الْفِتْنَةَ، وَمَلَّكَهُ عَلَى الْعِبَادِ،
وَفَتَحَ بِهِ الْبِلَادَ، أَلَا إِنَّهُ قَدْ مَاتَ وَهَذِهِ أَكْفَانُهُ،
فَنَحْنُ مُدْرِجُوهُ فِيهَا، وَمُدْخِلُوهُ قَبْرَهُ وَمُخَلُّونَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ عَمَلِهِ، ثُمَّ هُوَ الْبَرْزَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَهُ فَلْيَحْضُرْ عِنْدَ الْأُولَى. ثُمَّ
نَزَلَ وَبَعَثَ الْبَرِيدَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُعْلِمُهُ
وَيَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْمَجِيءِ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي رَجَبٍ
سَنَةَ سِتِّينَ. فَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ
سَنَةَ سِتِّينَ. وَقِيلَ: لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ
سَنَةَ سِتِّينَ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: لِأَرْبَعٍ
خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ. قَالَهُ اللَّيْثُ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ:
لِمُسْتَهَلِّ رَجَبٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيُّ: صَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ
يَزِيدُ. وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ
يُكَفَّنَ فِي ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي
كَسَاهُ إِيَّاهُ، وَكَانَ مُدَّخَرًا عِنْدَهُ لِهَذَا الْيَوْمِ، وَأَنْ
يَجْعَلَ مَا عِنْدَهُ مِنْ شَعْرِهِ وَقُلَامَةِ أَظْفَارِهِ فِي فَمِهِ
وَأَنْفِهِ
وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ابْنُهُ يَزِيدُ غَائِبًا، فَصَلَّى عَلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ، ثُمَّ دُفِنَ فَقِيلَ: بِدَارِ الْإِمَارَةِ. وَهِيَ الْخَضْرَاءُ، وَقِيلَ: بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ. وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَمَانِيًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: جَاوَزَ الثَّمَانِينَ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَكِبَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ فِي جَيْشٍ، وَخَرَجَ لِيَتَلَقَّى يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَزِيدُ بِحُوَّارِينَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ تَلَقَّتْهُمْ أَثْقَالُ يَزِيدَ، وَإِذَا يَزِيدُ رَاكِبٌ عَلَى بُخْتِيٍّ وَعَلَيْهِ الْحُزْنُ ظَاهِرٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ النَّاسُ بِالْإِمَارَةِ، وَعَزَّوْهُ فِي أَبِيهِ، وَهُوَ يَخْفِضُ صَوْتَهُ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِمْ، وَالنَّاسُ صَامِتُونَ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَهُ إِلَّا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، فَانْتَهَى إِلَى بَابِ تُومَاءَ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَجَازَهُ مَعَ السُّورِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَابِ الشَّرْقِيِّ، فَقِيلَ: يَدْخُلُ مِنْهُ. لِأَنَّهُ بَابُ خَالِدٍ، فَجَازَهُ حَتَّى أَتَى الْبَابَ الصَّغِيرَ، فَعَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُ قَاصِدٌ قَبْرَ أَبِيهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَابِ الصَّغِيرِ تَرَجَّلَ عِنْدَ الْمَقْبَرَةِ، ثُمَّ دَخَلَ، فَصَلَّى عَلَى أَبِيهِ بَعْدَ مَا دُفِنَ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَقْبَرَةِ أَتَى بِمَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ، فَرَكِبَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَلَدَ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ أَنِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. وَدَخَلَ الْخَضْرَاءَ، فَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ ثِيَابًا حَسَنَةً، ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ النَّاسَ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَنَاءِ عَلَيْهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ بَعْدَهُ، وَدُونَ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَا أُزَكِّيهِ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، إِنْ عَفَا عَنْهُ فَبِرَحْمَتِهِ، وَإِنْ عَاقَبَهُ
فَبِذَنْبِهِ،
وَقَدْ وَلِيتُ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَسْتُ آسَى عَلَى طَلَبٍ، وَلَا
أَعْتَذِرُ مِنْ تَفْرِيطٍ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ شَيْئًا كَانَ. وَقَالَ
لَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ هَذِهِ: وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُغْزِيكُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِنِّي لَسْتُ حَامِلًا أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي
الْبَحْرِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُشَتِّيكُمْ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَلَسْتُ
مُشَتِّيًا أَحَدًا بِأَرْضِ الرُّومِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُخْرِجُ لَكُمُ
الْعَطَاءَ أَثْلَاثًا، وَأَنَا أَجْمَعُهُ لَكُمْ كُلَّهُ. قَالَ: فَافْتَرَقَ
النَّاسُ عَنْهُ وَهُمْ لَا يُفَضِّلُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ
الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ مَرِيضٌ إِلَى ابْنِهِ يَزِيدَ،
فَلَمَّا جَاءَهُ الْبَرِيدُ رَكِبَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَاءَ الْبَرِيدُ بِقِرْطَاسٍ يَخُبُّ بِهِ فَأَوْجَسَ الْقَلْبُ مِنْ قِرْطَاسِهِ
فَزَعًا
قُلْنَا لَكَ الْوَيْلُ مَاذَا فِي صَحِيفَتِكُمْ قَالَ الْخَلِيفَةُ أَمْسَى مُثْبَتًا
وَجِعًا
فَمَادَتِ الْأَرْضُ أَوْ كَادَتْ تَمِيدُ بِنَا كَأَنَّ أَغْبَرَ مِنْ
أَرْكَانِهَا انْقَلَعَا
ثُمَّ انْبَعَثْنَا إِلَى خُوصٍ مُضَمَّرَةٍ نَرْمِي الْفِجَاجَ بِهَا مَا
نَأْتَلِي سُرَعًا
فَمَا نُبَالِي إِذَا بَلَّغْنَ أَرْحُلَنَا مَا مَاتَ مِنْهُنَّ بِالْمَوْمَاةِ
أَوْ ظَلَعَا
وَزَادَ
غَيْرُهُ:
لَمَّا انْتَهَيْنَا وَبَابُ الدَّارِ مُنْصَفِقٌ بِصَوْتِ رَمْلَةَ رِيعَ
الْقَلْبُ فَانْصَدَعَا
مَنْ لَا تَزَلْ نَفْسُهُ تُوفِي عَلَى شَرَفٍ تُوشِكُ مَقَادِيرُ تِلْكَ
النَّفْسِ أَنْ تَقَعَا
أَوْدَى ابْنُ هِنْدَ وَأَوْدَى الْمَجْدُ يَتْبَعُهُ كَانَا جَمِيعًا خَلِيطًا
سَالِمَيْنِ مَعَا
أَغَرُّ أَبْلَجُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِهِ لَوْ قَارَعَ النَّاسَ عَنْ
أَحْلَامِهِمْ قَرَعَا
لَا يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَى وَإِنْ جَهِدُوا أَنْ يَرْقَعُوهُ وَلَا
يُوهُونَ مَا رَقَعَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَرَقَ يَزِيدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مِنَ الْأَعْشَى.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ دَخَلَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ دِمَشْقَ، وَأَنَّهُ أَوْصَى
إِلَيْهِ. وَهَذَا قَدْ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ
الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ يَزِيدَ لَمْ يَدْخُلْ دِمَشْقَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ
أَبِيهِ، وَأَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِهِ بِالنَّاسِ، كَمَا قَدَّمْنَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو الْوَرْدِ الْعَنْبَرِيُّ يَرْثِي مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ:
أَلَا أَنْعَى مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ نَعَاهُ الْحِلُّ لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ
نَعَاهُ النَّاعِجَاتُ بِكُلِّ فَجٍّ خَوَاضِعَ فِي الْأَزِمَّةِ كَالسِّهَامِ
فَهَاتِيكَ النُّجُومُ وَهُنَّ خُرْسٌ يَنُحْنَ عَلَى مُعَاوِيَةَ الشَّآمِ
وَقَالَ
أَيْمَنُ بْنُ خُرَيْمٍ يَرْثِيهِ أَيْضًا:
رَمَى الْحِدْثَانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ بِمِقَدْارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضَا وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودَا
فَإِنَّكَ لَوْ شَهِدْتَ بُكَاءَ هِنْدَ وَرَمْلَةَ إِذْ يُصَفِّقْنَ الْخُدُودَا
بَكَيْتَ بُكَاءَ مُعْوِلَةٍ قَرِيحٍ أَصَابَ الدَّهْرُ وَاحِدَهَا الْفَرِيدَا
ذِكْرُ مَنْ تَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ وَمَنْ وُلِدَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ
الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ
كَانَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ
ضَعِيفَ الْعَقْلِ، وَأُمُّهُمَا فَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ بْنِ عَبْدِ عَمْرِو
بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا مُنْفَرِدَةً
عَنْهَا بَعْدَهَا، وَهِيَ كَنُودُ بِنْتُ قَرَظَةَ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ
مَعَهُ حِينَ افْتَتَحَ قُبْرُسَ، وَتَزَوَّجَ نَائِلَةَ بِنْتَ عُمَارَةَ
الْكَلْبِيَّةَ، فَأَعْجَبَتْهُ، وَقَالَ لِمَيْسُونَ
بِنْتِ
بَحْدَلٍ: ادْخُلِي فَانْظُرِي إِلَى ابْنةِ عَمِّكِ، فَدَخَلَتْ فَسَأَلَهَا
عَنْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهَا لَكَامِلَةُ الْجَمَالِ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ تَحْتَ
سُرَّتِهَا خَالًا، وَإِنِّي لَأُرَى هَذِهِ يُقْتَلُ زَوْجُهَا، وَيُوضَعُ
رَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا. فَطَلَّقَهَا مُعَاوِيَةُ فَتَزَوُّجَهَا بَعْدَهُ
حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ
النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، فَقُتِلَ وَوُضِعَ رَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا.
وَمِنْ أَشْهَرِ أَوْلَادِهِ يَزِيدُ، وَأُمُّهُ مَيْسُونُ بِنْتُ بَحْدَلِ بْنِ
أُنَيْفِ بْنِ دُلْجَةَ بْنِ قُنَافَةَ الْكَلْبِيِّ، وَهِيَ الَّتِي دَخَلَتْ
عَلَى نَائِلَةَ، فَأَخْبَرَتْ مُعَاوِيَةَ عَنْهَا بِمَا أَخْبَرَتْهُ، وَكَانَتْ
حَازِمَةً عَظِيمَةَ الشَّأْنِ جَمَالًا وَرِيَاسَةً وَعَقْلًا وَدِينًا، دَخَلَ
عَلَيْهَا مُعَاوِيَةُ يَوْمًا وَمَعَهُ خَادِمٌ خَصِيٌّ، فَاسْتَتَرَتْ مِنْهُ،
وَقَالَتْ: مَا هَذَا الرَّجُلُ مَعَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ خَصِيٌّ، فَاظْهَرِي
عَلَيْهِ. فَقَالَتْ: مَا كَانَتِ الْمُثْلَةُ لِتُحِلَّ لَهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ. وَحَجَبَتْهُ عَنْهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: إِنَّ
مُجَرَّدَ مُثْلَتِكَ لَهُ لَنْ تُحِلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ
وَلِيَ ابْنُهَا يَزِيدُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ
أَنَّ مَيْسُونَ هَذِهِ وَلَدَتْ لِمُعَاوِيَةَ بِنْتًا أُخْرَى يُقَالُ لَهَا:
أَمَةُ رَبِّ الْمَشَارِقِ. مَاتَتْ صَغِيرَةً.
وَرَمْلَةُ، تَزَوَّجَهَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، كَانَتْ دَارُهَا
بِدِمَشْقَ عِنْدَ عَقَبَةِ السَّمَكِ تُجَاهَ زُقَاقِ الرُّمَّانِ. قَالَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ، قَالَ: وَلَهَا طَاحُونٌ مَعْرُوفَةٌ إِلَى الْآنَ.
وَهِنْدُ
بِنْتُ مُعَاوِيَةَ، تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، فَلَمَّا
أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بِالْخَضْرَاءِ، أَرَادَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَتَمَنَّعَتْ عَلَيْهِ،
وَأَبَتْ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَضَرَبَهَا فَصَرَخَتْ، فَلَمَّا سَمِعَ
الْجَوَارِيَ صَوْتَهَا صَرَخْنَ وَعَلَتْ أَصْوَاتُهُنَّ، فَسَمِعَ مُعَاوِيَةُ،
فَنَهَضَ إِلَيْهِنَّ، فَاسْتَعْلَمَهُنَّ مَا الْخَبَرُ، فَقُلْنَ: سَمِعْنَا
صَوْتَ سَيِّدَتِنَا فَصِحْنَا. فَدَخَلَ فَإِذَا بِهَا تَبْكِي مِنْ ضَرْبِهِ،
فَقَالَ لِابْنِ عَامِرٍ: وَيْحَكَ ! مِثْلُ هَذِهِ تُضْرَبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ
اللَّيْلَةِ ؟ ! ثُمَّ قَالَ لَهُ: اخْرُجْ مِنْ هَاهُنَا. فَخَرَجَ وَخَلَا بِهَا
مُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّهُ زَوْجُكِ الَّذِي أَحَلَّهُ
اللَّهُ لَكِ، أَوَ مَا سَمِعْتِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
مِنَ الْخَفِرَاتِ الْبِيضِ أَمَّا حَرَامُهَا فَصَعْبٌ وَأَمَّا حِلُّهَا
فَذَلُولُ
ثُمَّ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عِنْدِهَا، وَقَالَ لِزَوْجِهَا: ادْخُلْ فَقَدْ
مَهَّدْتُ لَكَ خُلُقَهَا وَوَطَّأْتُهُ، فَدَخَلَ ابْنُ عَامِرٍ، فَوَجَدَهَا
قَدْ طَابَتْ أَخْلَاقُهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى.
فَصْلٌ ( فِيمَنِ اتَّخَذَهُمْ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْحِرَاسَةِ
وَالْحِجَابَةِ وَالشُّرْطَةِ )
وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثُمَّ مَاتَ
فَضَالَةُ فَوَلَّى أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ.
وَكَانَ
عَلَى حَرَسِهِ رَجُلٌ مِنَ الْمَوَالِي يُقَالُ لَهُ: الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ:
مَالِكٌ. وَيُكَنَّى أَبَا الْمُخَارِقِ، مَوْلًى لِحِمْيَرَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ
أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ الْحَرَسَ، وَكَانَ عَلَى حُجَّابِهِ سَعْدٌ مَوْلَاهُ،
وَعَلَى الشُّرْطَةِ قَيْسُ بْنُ حَمْزَةَ، ثُمَّ زِمْلُ بْنُ عَمْرٍو
الْعُذْرِيُّ، ثُمَّ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، وَكَانَ صَاحِبَ
أَمْرِهِ سَرْجُونُ بْنُ مَنْصُورٍ الرُّومِيُّ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَوَّلَ مَنِ
اتَّخَذَ دِيوَانَ الْخَاتَمِ وَخَزْمِ الْكُتُبِ.
فَصْلٌ ( مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ )
وَمِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ
سِتِّينَ - صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ بْنِ رَحَضَةَ بْنِ الْمُؤَمَّلِ بْنِ
خُزَاعِيٍّ، أَبُو عَمْرٍو، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْمُرَيْسِيعُ، وَكَانَ فِي
السَّاقَةِ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ الَّذِي رَمَاهُ أَهْلُ الْإِفْكِ بِأُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهَا
مِمَّا قَالُوا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يَنَامُ نَوْمًا
شَدِيدًا حَتَّى إِنَّهُ كَانَ رُبَّمَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ
نَائِمٌ لَا يَسْتَيْقِظُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَيْقَظْتَ فَصَلِّ ". وَقَدْ قُتِلَ صَفْوَانُ
شَهِيدًا.
وَأَبُو
مُسْلِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثُوَبٍ الْخَوْلَانِيُّ الْيَمَنِيُّ
مِنْ خَوْلَانَ بِبِلَادِ الْيَمَنِ. دَعَاهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ إِلَى أَنْ
يَشْهَدَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ
اللَّهِ ؟ فَقَالَ: لَا أَسْمَعُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
فَأَجَّجَ لَهُ نَارًا، وَأَلْقَاهُ فِيهَا، فَلَمْ تَضُرَّهُ، وَأَنْجَاهُ
اللَّهُ مِنَ النَّارِ، فَكَانَ يُشَبَّهُ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، ثُمَّ
هَاجَرَ فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ،
فَقَدِمَ عَلَى الصِّدِّيقِ، فَأَجْلَسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ، وَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِي فِي أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ
بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَكَانَتْ لَهُ
أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِيهَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
إِمَارَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَمَا جَرَى فِي أَيَّامِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ
وَالْفِتَنِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَبِيهِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ
سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، فَكَانَ يَوْمَ بُويِعَ ابْنَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ
سَنَةً، فَأَقَرَّ نُوَّابُ أَبِيهِ عَلَى الْأَقَالِيمِ، لَمْ يَعْزِلْ أَحَدًا
مِنْهُمْ، وَهَذَا مِنْ ذَكَائِهِ.
قَالَ
هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى
الْكُوفِيِّ الْأَخْبَارِيِّ: وَلِيَ يَزِيدُ فِي هِلَالِ رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ،
وَأَمِيرُ الْمَدِينَةِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَمِيرُ
الْكُوفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَأَمِيرُ الْبَصْرَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ زِيَادٍ، وَأَمِيرُ مَكَّةَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَلَمْ
يَكُنْ لِيَزِيدَ هِمَّةٌ حِينَ وَلِيَ إِلَّا بَيْعَةُ النَّفَرِ الَّذِينَ
أَبَوْا عَلَى مُعَاوِيَةَ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ، فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِ
الْمَدِينَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
مِنْ يَزِيدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، أَمَّا
بَعْدُ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، أَكْرَمَهُ
اللَّهُ وَاسْتَخْلَفَهُ وَخَوَّلَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، فَعَاشَ بِقَدَرٍ، وَمَاتَ
بِأَجَلٍ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَدْ عَاشَ مَحْمُودًا، وَمَاتَ بَرًّا تَقِيًّا،
وَالسَّلَامُ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي صَحِيفَةٍ كَأَنَّهَا أُذُنُ الْفَأْرَةِ: أَمَّا بَعْدُ،
فَخُذْ حُسَيْنًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ
بِالْبَيْعَةِ أَخْذًا شَدِيدًا لَيْسَتْ فِيهِ رُخْصَةٌ حَتَّى يُبَايِعُوا،
وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا أَتَاهُ نَعْيُ مُعَاوِيَةَ فَظِعَ بِهِ وَكَبُرَ
عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَى مَرْوَانَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ،
وَاسْتَشَارَهُ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ، فَقَالَ: أَرَى أَنْ تَدْعُوَهُمْ
قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَإِنْ أَبَوْا
ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ. فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْرِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو
بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ إِلَى الْحُسَيْنِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُمَا فِي
الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُمَا: أَجِيبَا الْأَمِيرَ. فَقَالَا: انْصَرِفِ، الْآنَ
نَأْتِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُمَا قَالَ الْحُسَيْنُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ:
إِنِّي أَرَى طَاغِيَتَهُمْ قَدْ هَلَكَ. قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَأَنَا مَا
أَظُنُّ غَيْرَهُ. قَالَ: ثُمَّ نَهَضَ حُسَيْنٌ فَأَخَذَ مَعَهُ مَوَالِيَهُ،
وَجَاءَ بَابَ الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ وَحْدَهُ،
وَأَجْلَسَ مَوَالِيَهُ عَلَى الْبَابِ، وَقَالَ: إِنْ سَمِعْتُمْ أَمْرًا
يُرِيبُكُمْ فَادْخُلُوا. فَسَلَّمَ وَجَلَسَ وَمَرْوَانُ عِنْدَهُ، فَنَاوَلَهُ
الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ الْكِتَابَ، وَنَعَى إِلَيْهِ
مُعَاوِيَةَ،
فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مُعَاوِيَةَ، وَعَظَّمَ لَكَ الْأَجْرَ.
فَدَعَاهُ الْأَمِيرُ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: إِنَّ مِثْلِي
لَا يُبَايِعُ سِرًّا، وَمَا أَرَاكَ تَجْتَزِئُ مِنِّي بِهَذَا، وَلَكِنْ إِذَا
اجْتَمَعَ النَّاسُ دَعَوْتَنَا مَعَهُمْ، فَكَانَ أَمْرًا وَاحِدًا. فَقَالَ لَهُ
الْوَلِيدُ وَكَانَ يُحِبُّ الْعَافِيَةَ: فَانْصَرِفْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ حَتَّى
تَأْتِيَنَا فِي جَمَاعَةِ النَّاسِ. فَقَالَ مَرْوَانُ لِلْوَلِيدِ: وَاللَّهِ
لَئِنْ فَارَقَكَ وَلَمْ يُبَايِعِ السَّاعَةَ، لَيَكْثُرَنَّ الْقَتْلُ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَاحْبِسْهُ وَلَا تُخْرِجْهُ حَتَّى يُبَايِعَ، وَإِلَّا
ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. فَنَهَضَ الْحُسَيْنُ وَقَالَ: يَابْنَ الزَّرْقَاءِ، أَنْتَ
تَقْتُلُنِي ؟ ! كَذَبْتَ وَاللَّهِ وَأَثِمْتَ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِهِ،
فَقَالَ مَرْوَانُ لِلْوَلِيدِ: وَاللَّهِ لَا تَرَاهُ بَعْدَهَا أَبَدًا. فَقَالَ
الْوَلِيدُ: وَاللَّهِ يَا مَرْوَانُ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي الدُّنْيَا وَمَا
فِيهَا وَأَنِّي قَتَلْتُ الْحُسَيْنَ، سُبْحَانَ اللَّهِ ! أَقْتُلُ حُسَيْنًا
أَنْ قَالَ: لَا أُبَايِعُ ؟ ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ مَنْ يَقْتُلُ
الْحُسَيْنَ يَكُونُ خَفِيفَ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَبَعَثَ الْوَلِيدُ
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ وَمَاطَلَهُ يَوْمًا
وَلَيْلَةً، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَكِبَ فِي مَوَالِيهِ وَاسْتَصْحَبَ
مَعَهُ أَخَاهُ جَعْفَرًا، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْفُرْعِ،
وَبَعَثَ الْوَلِيدُ خَلْفَ ابْنِ الزُّبَيْرِ الرِّجَالَ وَالْفُرْسَانَ، فَلَمْ
يَقْدِرُوا عَلَى رَدِّهِ، وَقَدْ قَالَ جَعْفَرٌ لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ
وَهُمَا سَائِرَانِ، مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ صَبِرَةَ الْحَنْظَلِيِّ:
وَكُلُّ بَنِي أُمٍّ سَيُمْسُونَ لَيْلَةً وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَعْقَابِهِمْ
غَيْرُ وَاحِدِ
فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا أَرَدْتَ إِلَى هَذَا ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
أَرَدْتُ بِهِ شَيْئًا يَسُوءُكَ. فَقَالَ: إِنْ كَانَ إِنَّمَا جَرَى عَلَى
لِسَانِكَ فَهُوَ أَكْرَهُ إِلَيَّ. قَالُوا: وَتَطَيَّرَ بِهِ. وَأَمَّا
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَإِنَّ الْوَلِيدَ تَشَاغَلَ عَنْهُ بِابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَجَعَلَ كُلَّمَا بَعَثَ
إِلَيْهِ
يَقُولُ: حَتَّى تَنْظُرَ وَنَنْظُرَ. ثُمَّ جَمَعَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ، وَرَكِبَ
لَيْلَةَ الْأَحَدِ، لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
بَعْدَ خُرُوجِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِلَيْلَةٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِهِ سِوَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ:
وَاللَّهِ يَا أَخِي، لَأَنْتَ أَعَزُّ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلِيَّ، وَإِنِّي
نَاصِحٌ لَكَ ; لَا تَدْخُلَنَّ مِصْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ، وَلَكِنِ
اسْكُنِ الْبَوَادِيَ وَالرِّمَالَ، وَابْعَثْ إِلَى النَّاسِ، فَإِذَا بَايَعُوكَ
وَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ فَادْخُلِ الْمِصْرَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا سُكْنَى
الْمِصْرِ فَاذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ، فَإِنْ رَأَيْتَ مَا تُحِبُّ، وَإِلَّا
تَرَفَّعْتَ إِلَى الرِّمَالِ وَالْجِبَالِ. فَقَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ
خَيْرًا، فَقَدْ نَصَحْتَ وَأَشْفَقْتَ. وَسَارَ الْحُسَيْنُ إِلَى مَكَّةَ،
فَاجْتَمَعَ هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ بِهَا، وَبَعَثَ الْوَلِيدُ إِلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: بَايِعْ لِيَزِيدَ. فَقَالَ: إِذَا بَايَعَ النَّاسُ
بَايَعْتُ. فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ يَخْتَلِفَ النَّاسُ
وَيَقْتَتِلُوا حَتَّى يَتَفَانَوْا، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ غَيْرُكَ بَايَعُوكَ !
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا أُحِبُّ شَيْئًا مِمَّا قُلْتَ، وَلَكِنْ إِذَا بَايَعَ
النَّاسُ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرِي بَايَعْتُ. قَالَ: فَتَرَكُوهُ، وَكَانُوا لَا
يَتَخَوَّفُونَهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمْ يَكُنِ ابْنُ عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ
نَعْيُ مُعَاوِيَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ،
فَلَقِيَهُمَا وَهُمَا مُقْبِلَانِ مِنْهَا، الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ،
فَقَالَا: مَا وَرَاءَكُمَا ؟ قَالَا: مَوْتُ مُعَاوِيَةَ وَالْبَيْعَةُ
لِيَزِيدَ. فَقَالَ لَهُمَا ابْنُ عُمَرَ: اتَّقِيَا اللَّهَ، وَلَا تُفَرِّقَا
بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدِمَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْبَيْعَةُ مِنَ الْأَمْصَارِ بَايَعَا مَعَ
النَّاسِ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُمَا قَدِمَا
مَكَّةَ
فَوَجَدَا
بِهَا عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَخَافَاهُ وَقَالَا: إِنَّا جِئْنَا
عُوَّاذًا بِهَذَا الْبَيْتِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ ; لِتَفْرِيطِهِ، وَأَضَافَهَا
إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ نَائِبِ مَكَّةَ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ
فِي رَمَضَانَ - وَقِيلَ: فِي ذِي الْقَعْدَةِ - وَكَانَ مُفَوَّهًا مُتَكَبِّرًا،
وَسَلَّطَ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ - وَكَانَ عَدُوًّا لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ
- عَلَى حَرْبِهِ وَجَرَّدَهُ لَهُ، وَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ يَبْعَثُ
الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ لِحَرْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ أَبَا شُرَيْحٍ
الْخُزَاعِيَّ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى
مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ حَدِيثًا قَامَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ
الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ
حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ ; إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
" إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وَإِنَّهُ
لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهَا لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ
بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ قَدْ عَادَتْ
حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ
الْغَائِبَ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ
أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ". فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ:
مَا قَالَ لَكَ ؟ فَقَالَ: قَالَ لِي: نَحْنُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا
شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ
عَاصِيًا
وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَّى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ شُرْطَةَ الْمَدِينَةِ عَمْرَو
بْنَ الزُّبَيْرِ ; فَتَتَبَّعَ أَصْحَابَ أَخِيهِ وَمَنْ يَهْوَى هَوَاهُ،
فَضَرَبَهُمْ ضَرْبًا شَدِيدًا، حَتَّى ضَرَبَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ ضَرَبَ أَخَاهُ
الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ ثُمَّ جَاءَ
الْعَزْمُ مِنْ يَزِيدَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فِي تَطَلُّبِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ وَإِنْ بَايَعَ، حَتَّى يُؤْتَى بِهِ
إِلَيَّ فِي جَامِعَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِنْ فِضَّةٍ تَحْتَ بُرْنُسِهِ، فَلَا
تُرَى إِلَّا أَنَّهُ يُسْمَعُ صَوْتُهَا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ مَنَعَ
الْحَارِثَ بْنَ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيَّ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَهْلِ مَكَّةَ،
وَكَانَ نَائِبَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَلَيْهَا، فَحِينَئِذٍ صَمَّمَ عَمْرٌو
عَلَى تَجْهِيزِ سَرِيَّةٍ إِلَى مَكَّةَ بِسَبَبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَاسْتَشَارَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ: مَنْ يَصْلُحُ أَنْ
نَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ لِأَجْلِ قِتَالِهِ ؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ
الزُّبَيْرِ: إِنَّكَ لَا تَبْعَثُ إِلَيْهِ
مَنْ
هُوَ أَنَكَى لَهُ مِنِّي. فَعَيَّنَهُ عَلَى تِلْكَ السَّرِيَّةِ، وَجَعَلَ عَلَى
مَقْدُمَتِهِ أُنَيْسَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ فِي سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّمَا عَيَّنَهُمَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَفْسُهُ،
وَبَعَثَ بِذَلِكَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فِي كِتَابٍ، فَعَسْكَرَ أُنَيْسٌ
بِالْجُرْفِ، وَأَشَارَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عَلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَنْ
لَا يَغْزُوَ مَكَّةَ، وَأَنْ يَتْرُكَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِهَا، فَإِنَّهُ عَمَّا
قَلِيلٍ إِنْ لَمْ يُقْتَلْ يَمُتْ، فَقَالَ أَخُوهُ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ
وَاللَّهِ لَنَغْزُوَنَّهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، عَلَى رَغْمِ أَنْفِ
مَنْ رَغِمَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: وَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَيَسُوءُنِي. فَسَارَ
أُنَيْسٌ وَاتَّبَعَهُ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ فِي بَقِيَّةِ الْجَيْشِ، وَكَانُوا
أَلْفَيْنِ، حَتَّى نَزَلَ بِالْأَبْطَحِ، وَقِيلَ: بِدَارِهِ عِنْدَ الصَّفَا.
وَنَزَلَ أُنَيْسٌ بِذِي طَوًى، فَكَانَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي
بِالنَّاسِ، وَيُصَلِّي وَرَاءَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
وَأَرْسَلَ عَمْرٌو إِلَى أَخِيهِ يَقُولُ لَهُ: بَرَّ يَمِينَ الْخَلِيفَةِ،
وَأْتِهِ وَفِي عُنُقِكَ جَامِعَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَلَا تَدَعِ
النَّاسَ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَاتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّكَ فِي بَلَدٍ
حَرَامٍ. فَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ لِأَخِيهِ: مَوْعِدُكَ الْمَسْجِدُ.
وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ بْنِ
أُمَيَّةَ فِي سَرِيَّةٍ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ أُنَيْسِ بْنِ عَمْرٍو
الْأَسْلَمِيِّ، فَهَزَمُوا أُنَيْسًا هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَتَفَرَّقَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ أَصْحَابُهُ، وَهَرَبَ عَمْرٌو إِلَى دَارِ ابْنِ
عَلْقَمَةَ، فَأَجَارَهُ أَخُوهُ عُبَيْدَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَلَامَهُ أَخُوهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ: تُجِيرُ مَنْ فِي عُنُقِهِ حُقُوقُ
النَّاسِ ! ثُمَّ ضَرَبَهُ بِكُلِّ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا
الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَهُ ; فَإِنَّهُمَا أَبَيَا أَنْ
يَسْتَقِيدَا
مِنْ عَمْرٍو، وَسَجَنَهُ وَمَعَهُ عَارِمٌ فَسُمِّيَ سِجْنَ عَارِمٍ، وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ مَاتَ تَحْتَ السِّيَاطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
وَسَبَبُ خُرُوجِهِ بِأَهْلِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْعِرَاقِ فِي طَلَبِ
الْإِمَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ مَقْتَلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَلْنَبْدَأْ قَبْلَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَتِهِ، ثُمَّ نُتْبِعُ
الْجَمِيعَ بِذِكْرِ مَنَاقِبِهِ وَفَضَائِلِهِ.
هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ
هَاشِمٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، السِّبْطُ الشَّهِيدُ
بِكَرْبَلَاءَ، ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ وَرَيْحَانَتُهُ مِنَ الدُّنْيَا، وُلِدَ بَعْدَ أَخِيهِ
الْحَسَنِ، وَكَانَ مَوْلِدُ الْحَسَنِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ وَاحِدٌ وَمُدَّةُ
الْحَمْلِ. وَوُلِدَ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ.
وَقَالَ
قَتَادَةُ: وُلِدَ الْحُسَيْنُ لِسِتِّ سِنِينَ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ مِنَ
التَّارِيخِ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْمُحَرَّمِ
سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ
أَشْهُرٍ وَنِصْفٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَنَّكَهُ،
وَتَفَلَ فِي فِيهِ، وَدَعَا لَهُ، وَسَمَّاهُ حُسَيْنًا، وَقَدْ كَانَ سَمَّاهُ
أَبُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَرْبًا، وَقِيلَ: جَعْفَرًا. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ
يَوْمَ سَابِعِهِ وَعَقَّ عَنْهُ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ
هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْحَسَنُ أَشْبَهُ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى
الرَّأْسِ، وَالْحُسَيْنُ أَشْبَهُ بِهِ مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ
الْحِزَامِيُ قَالَ: كَانَ وَجْهُ الْحَسَنِ يُشْبِهُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ جَسَدُ الْحُسَيْنِ يُشْبِهُ جَسَدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى
مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَأُخْتُهُ حَفْصَةُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ
ابْنِ زِيَادٍ، فَجِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَجَعَلَ يَقُولُ بِقَضِيبٍ فِي
أَنْفِهِ وَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا حُسْنًا. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ
كَانَ مِنْ أَشْبَهِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ: رَأَيْتَ
الْحُسَيْنَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَسْوَدُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ إِلَّا شَعَرَاتٍ
هَاهُنَا فِي مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ، فَلَا أَدْرِي أَخَضَبَ وَتَرَكَ ذَلِكَ
الْمَكَانَ تَشَبُّهًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ
لَمْ يَكُنْ شَابَ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ ؟
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَطَاءٍ قَالَ: رَأَيْتُ
الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ يَصْبُغُ بِالْوَسْمَةِ، أَمَّا هُوَ فَكَانَ ابْنَ
سِتِّينَ، وَكَانَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ شَدِيدَيِ السَّوَادِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ، أَنَّ
فَاطِمَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ
الْمَوْتِ أَنْ يَنْحَلَ وَلَدَيْهَا شَيْئًا، فَقَالَ: " أَمَّا الْحَسَنُ
فَلَهُ هَيْبَتِي وَسُؤْدُدِي، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَلَهُ جُرْأَتِي وُجُودِي
". فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ
أَحَدٌ
مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَقَدْ أَدْرَكَ الْحُسَيْنُ مِنْ
حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ سِنِينَ أَوْ
نَحْوَهَا، وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: لَهُ رُؤْيَةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ
فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّهُ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ. وَهَذَا غَرِيبٌ،
فَلَأَنْ يَقُولَ فِي الْحُسَيْنِ: إِنَّهُ تَابِعِيٌّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَسَنَذْكُرُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُكْرِمُهُمَا بِهِ، وَمَا كَانَ يُظْهِرُ مِنْ مَحَبَّتِهِمَا وَالْحُنُوِّ
عَلَيْهِمَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحُسَيْنَ عَاصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبَهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ،
وَلَكِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا، ثُمَّ كَانَ الصِّدِّيقُ يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ،
وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَصَحِبَ أَبَاهُ وَرَوَى عَنْهُ، وَكَانَ مَعَهُ
فِي مَغَازِيهِ كُلِّهَا ; فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا
مُوَقَّرًا، وَلَمْ يَزَلْ فِي طَاعَةِ أَبِيهِ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا آلَتِ
الْخِلَافَةُ إِلَى أَخِيهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُصَالِحَ مُعَاوِيَةَ شَقَّ ذَلِكَ
عَلَيْهِ، وَلَمْ يُسَدِّدْ رَأْيَ أَخِيهِ فِي ذَلِكَ، بَلْ حَثَّهُ عَلَى
قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ
أَسْجُنَكَ فِي بَيْتٍ، وَأُطْبِقَ عَلَيْكَ بَابَهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ هَذَا
الشَّأْنِ، ثُمَّ أُخْرِجَكَ. فَلَمَّا رَأَى الْحُسَيْنُ ذَلِكَ سَكَتَ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِمُعَاوِيَةَ كَانَ الْحُسَيْنُ
يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ مَعَ أَخِيهِ الْحَسَنِ، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُكْرِمُهُمَا
إِكْرَامًا زَائِدًا، وَيَقُولُ لَهُمَا: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. وَيُعْطِيهِمَا
عَطَاءً جَزِيلًا، وَقَدْ أَطْلَقَ لَهُمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَتَيْ
أَلْفٍ، وَقَالَ: خُذَاهَا وَأَنَا ابْنُ هِنْدَ، وَاللَّهِ لَا يُعْطِيكُمَاهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا أَحَدٌ بَعْدِي. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَنْ تُعْطِيَ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ قَبْلَكَ وَلَا بَعْدَكَ رَجُلَيْنِ أَفْضَلَ مِنَّا. وَلِمَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ كَانَ الْحُسَيْنُ يَفِدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي كُلِّ عَامٍ فَيُعْطِيهِ وَيُكْرِمُهُ، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ غَزَوُا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ مَعَ ابْنِ مُعَاوِيَةَ يَزِيدَ، فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَلَمَّا أَخُذَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي حَيَاةِ مُعَاوِيَةَ، كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَتِهِ هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ مُصَمِّمٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ سَنَةَ سِتِّينَ وَبُويِعَ لِيَزِيدَ، بَايَعَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَصَمَّمَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَخَرَجَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَارِّينَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَا بِهَا، فَعَكَفَ النَّاسُ عَلَى الْحُسَيْنِ يَفِدُونَ إِلَيْهِ وَيَقْدَمُونَ عَلَيْهِ، وَيَجْلِسُونَ حَوَالَيْهِ وَيَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ، حِينَ سَمِعُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ وَخِلَافَةِ يَزِيدَ، وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ لَزِمَ مُصَلَّاهُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ فِي غُبُونِ ذَلِكَ إِلَى الْحُسَيْنِ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي نَفْسِهِ مَعَ وُجُودِ الْحُسَيْنِ ; لِمَا يَعْلَمُ مِنْ تَعْظِيمِ النَّاسِ لَهُ وَتَقْدِيمِهِمْ إِيَّاهُ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَتِ السَّرَايَا وَالْبُعُوثِ إِلَى مَكَّةَ بِسَبَبِهِ، وَلَكِنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ آنِفًا، فَانْقَشَعَتِ السَّرَايَا عَنْ مَكَّةَ مَفْلُولِينَ، وَانْتَصَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مَنْ أَرَادَ هَلَاكَهُ مِنَ الْيَزِيدِيِّينَ، وَضَرَبَ أَخَاهُ عَمْرًا وَسَجَنَهُ، وَاقْتَصَّ مِنْهُ وَأَهَانَهُ، وَعَظُمَ شَأْنُ ابْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ ذَلِكَ بِبِلَادِ الْحِجَازِ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ وَبَعُدَ صِيتُهُ،
وَمَعَ
هَذَا كُلِّهِ لَيْسَ هُوَ مُعَظَّمًا عِنْدَ النَّاسِ مِثْلَ الْحُسَيْنِ، بَلِ
النَّاسُ إِنَّمَا مَيْلُهُمْ إِلَى الْحُسَيْنِ، لِأَنَّهُ السَّيِّدُ
الْكَبِيرُ، وَابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ يُسَامِيهِ وَلَا يُسَاوِيهِ،
وَلَكِنَّ الدَّوْلَةَ الْيَزِيدِيَّةَ كُلَّهَا تُنَاوِئُهُ.
وَقَدْ كَثُرَ وُرُودُ الْكُتُبِ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ يَدْعُونَهُ
إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُمْ مَوْتُ مُعَاوِيَةَ وَوِلَايَةُ يَزِيدَ،
وَمَصِيرُ الْحُسَيْنِ إِلَى مَكَّةَ فِرَارًا مِنْ بَيْعَةِ يَزِيدَ، فَكَانَ
أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبْعٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ وَالٍ، مَعَهُمَا كِتَابٌ فِيهِ السَّلَامُ وَالتَّهْنِئَةُ بِمَوْتِ
مُعَاوِيَةَ، فَقَدِمَا عَلَى الْحُسَيْنِ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ بَعَثُوا بَعْدَهُمَا نَفَرًا ; مِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ
مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْكَوَّاءِ الْأَرْحَبِيُّ، وَعُمَارَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلُولِيُّ،
وَمَعَهُمْ نَحْوٌ مَنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ كِتَابًا إِلَى الْحُسَيْنِ، ثُمَّ
بَعَثُوا هَانِئَ بْنَ هَانِئٍ السَّبِيعِيَّ وَسَعِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَنَفِيَّ، وَمَعَهُمَا كِتَابٌ فِيهِ الِاسْتِعْجَالُ فِي السَّيْرِ
إِلَيْهِمْ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَحَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ،
وَيَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ،
وَعَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَمْرُو بْنُ حَجَّاجٍ الزُّبَيْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَقَدِ اخْضَرَّ الْجَنَابُ وَأَيْنَعَتِ الثِّمَارُ وَطَمَّتِ الْجِمَامُ، فَإِذَا شِئْتَ فَاقْدَمْ عَلَى جُنْدٍ لَكَ مُجَنَّدٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. فَاجْتَمَعَتِ الرُّسُلُ كُلُّهَا بِكُتُبِهَا عِنْدَ الْحُسَيْنِ، وَجَعَلُوا يَسْتَحِثُّونَهُ وَيَسْتَقْدِمُونَهُ عَلَيْهِمْ، لِيُبَايِعُوهُ عِوَضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ; وَيَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ فَرِحُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ، وَيَنَالُونَ مِنْهُ وَيَتَكَلَّمُونَ فِي دَوْلَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُبَايِعُوا أَحَدًا إِلَى الْآنَ، وَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ قُدُومَكَ إِلَيْهِمْ لِيُقَدِّمُوكَ عَلَيْهِمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْعِرَاقِ، لِيَكْشِفَ لَهُ حَقِيقَةَ هَذَا الْأَمْرِ وَالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَ مُتَحَتِّمًا وَأَمْرًا حَازِمًا مُحْكَمًا، بَعَثَ إِلَيْهِ لِيَرْكَبَ فِي أَهْلِهِ وَذَوِيهِ، وَيَأْتِيَ الْكُوفَةَ لِيَظْفَرَ بِمَنْ يُعَادِيهِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا سَارَ مُسْلِمٌ مِنْ مَكَّةَ اجْتَازَ بِالْمَدِينَةِ، فَأَخَذَ مِنْهَا دَلِيلَيْنِ، فَسَارَا بِهِ عَلَى بَرَارِيَّ مَهْجُورَةِ الْمَسَالِكِ، فَكَانَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ مِنْهُمَا أَوَّلَ هَالِكٍ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، وَقَدْ أَضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَهَلَكَ الدَّلِيلُ الْوَاحِدُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْمَضِيقُ. مِنْ بَطْنِ خُبَيْتٍ، فَتَطَيَّرَ بِهِ مُسْلِمُ بْنُ
عَقِيلٍ، فَتَلَبَّثَ مُسْلِمٌ عَلَى مَا هُنَالِكَ، وَمَاتَ الدَّلِيلُ الْآخَرُ، فَكَتَبَ إِلَى الْحُسَيْنِ يَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَعْزِمُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ الْعِرَاقَ، وَأَنْ يَجْتَمِعَ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ ; لِيَسْتَعْلِمَ أَمْرَهُمْ وَيَسْتَخْبِرَ خَبَرَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ الْكُوفَةَ نَزَلَ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيُّ. وَقِيلَ: نَزَلَ فِي دَارِ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَتَسَامَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِقُدُومِهِ فَجَاءُوا إِلَيْهِ فَبَايَعُوهُ عَلَى إِمْرَةِ الْحُسَيْنِ، وَحَلَفُوا لَهُ لَيَنْصُرُنَّهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَاجْتَمَعَ عَلَى بَيْعَتِهِ مِنْ أَهْلِهَا اثَنَا عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ تَكَاثَرُوا حَتَّى بَلَغُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَكَتَبَ مُسْلِمٌ إِلَى الْحُسَيْنِ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ تَمَهَّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ وَالْأُمُورُ، فَتَجَهَّزَ الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ قَاصِدًا الْكُوفَةَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَانْتَشَرَ خَبَرُهُمْ حَتَّى بَلَغَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، أَخْبَرَهُ رَجُلٌ بِذَلِكَ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ عَنْ ذَلِكَ صَفْحًا وَلَا يَعْبَأُ بِهِ وَلَكِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتْنَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِائْتِلَافِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالَ: إِنِّي لَا أُقَاتِلُ مَنْ لَا يُقَاتِلُنِي، وَلَا أَثِبُ عَلَى مَنْ لَا يَثِبُ عَلِيَّ، وَلَا آخُذُكُمْ بِالظِّنَّةِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَئِنْ فَارَقْتُمْ إِمَامَكُمْ وَنَكَثْتُمْ بَيْعَتَهُ، لَأُقَاتِلَنَّكُمْ مَا دَامَ فِي يَدِي مِنْ سَيْفِي قَائِمَتُهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَضْرَمِيُّ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِالْغَشْمِ، وَإِنَّ الَّذِي سَلَكْتَهُ أَيُّهَا الْأَمِيرُ مَسْلَكُ الْمُسْتَضْعَفِينَ. فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: لِأَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْأَعَزِّينَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. ثُمَّ نَزَلَ،
فَكَتَبَ
ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى يَزِيدَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى يَزِيدَ
عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَبَعَثَ
يَزِيدُ، فَعَزَلَ النُّعْمَانَ عَنِ الْكُوفَةِ وَضَمَّهَا إِلَى عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ مَعَ الْبَصْرَةِ، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ سَرْجُونَ مَوْلَى
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ يَزِيدُ يَسْتَشِيرُهُ، فَقَالَ سَرْجُونُ:
أَكُنْتَ قَابِلًا مِنْ مُعَاوِيَةَ مَا أَشَارَ بِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: فَاقْبَلْ مِنِّي، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْكُوفَةِ إِلَّا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَوَلِّهِ إِيَّاهَا، وَكَانَ يَزِيدُ يُبْغِضُ عُبَيْدَ
اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنِ الْبَصْرَةِ فَوَلَّاهُ
الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ مَعًا لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ.
ثُمَّ كَتَبَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ: إِذَا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَتَطَلَّبْ
مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ فَإِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ أَوِ انْفِهِ.
وَبَعَثَ الْكِتَابَ مَعَ الْعَهْدِ مَعَ مُسْلِمِ بْنِ عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ،
فَسَارَ ابْنُ زِيَادٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا
دَخَلَهَا مُتَلَثِّمًا بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمَلَأٍ
مِنَ النَّاسِ إِلَّا قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكَمْ. فَيَقُولُونَ: وَعَلَيْكُمُ
السَّلَامُ، مَرْحَبًا يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ. يَظُنُّونَ أَنَّهُ الْحُسَيْنُ،
وَقَدْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ قُدُومَهُ، وَتَكَاثَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ،
وَدَخَلَهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا، فَقَالَ لَهُمْ مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو
الَّذِي مِنْ جِهَةِ يَزِيدَ: تَأَخَّرُوا، هَذَا الْأَمِيرُ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ زِيَادٍ فَلَمَّا عَلِمُوا ذَلِكَ عَلَتْهُمْ كَآبَةٌ وَحُزْنٌ شَدِيدٌ،
فَتَحَقَّقَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْخَبَرَ، وَنَزَلَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ مِنَ
الْكُوفَةِ.
وَلَمَّا انْتَهَى ابْنُ زِيَادٍ إِلَى بَابِ الْقَصْرِ وَهُوَ مُتَلَثِّمٌ
ظَنَّهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْحُسَيْنَ قَدْ قَدِمَ، فَأَغْلَقَ بَابَ
الْقَصْرِ، وَقَالَ: مَا أَنَا بِمُسْلِمٍ إِلَيْكَ أَمَانَتِي. فَقَالَ لَهُ
عُبَيْدُ اللَّهِ: افْتَحْ لَا فَتَحْتَ. فَفَتَحَ وَهُوَ يَظُنُّهُ الْحُسَيْنَ،
فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ عُبَيْدُ اللَّهِ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، فَدَخَلَ
عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى
أَنِ
الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. أَصْلَحَهُ اللَّهُ، وَلَّانِي مِصْرَكُمْ وَثَغْرَكُمْ
وَفَيْئَكُمْ، وَأَمَرَنِي بِإِنْصَافِ مَظْلُومِكُمْ، وَإِعْطَاءِ مَحْرُومِكُمْ،
وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى سَامِعِكُمْ وَمُطِيعِكُمْ، وَبِالشِّدَّةِ عَلَى
مُرِيبِكُمْ وَعَاصِيكُمْ، وَأَنَا مُمْتَثِلٌ فِيكُمْ أَمْرَهُ وَمُنَفِّذٌ
عَهْدَهُ. ثُمَّ نَزَلَ وَأَمَرَ الْعُرَفَاءَ أَنْ يَكْتُبُوا مَنْ عِنْدَهُمْ
مِنَ الْحَرُورِيَّةِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ وَالْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، وَأَيُّمَا عَرِيفٍ
لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى ذَلِكَ صُلِبَ وَنُفِيَ وَأُسْقِطَتْ عِرَافَتُهُ مِنَ
الدِّيوَانِ.
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ أَرْسَلَ مَوْلًى لِبَنِي تَمِيمٍ - وَقِيلَ: كَانَ
مَوْلًى لَهُ اسْمُهُ مَعْقِلٌ - وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فِي صُورَةِ
قَاصِدٍ مِنْ بِلَادِ حِمْصَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِهَذِهِ الْبَيْعَةِ،
فَذَهَبَ ذَلِكَ الْمَوْلَى، فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُ وَيَسْتَدِلُّ عَلَى
الدَّارِ الَّتِي يُبَايِعُونَ بِهَامُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، حَتَّى دَخَلَهَا،
وَهِيَ دَارُ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ الَّتِي تَحَوَّلَ إِلَيْهَا مِنَ الدَّارِ
الْأُولَى، فَبَايَعَ وَأَدْخَلُوهُ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَلَزِمَهُمْ
أَيَّامًا حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى جَلِيَّةِ أَمْرِهِمْ، فَدَفَعَ الْمَالَ إِلَى
أَبِي ثُمَامَةَ الصَّائِدِيِّ بِأَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَكَانَ هُوَ
الَّذِي يَقْبِضُ مَا يُؤْتَى بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَيَشْتَرِي السِّلَاحَ
وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ - فَرَجَعَ ذَلِكَ الْمَوْلَى، وَأَعْلَمَ
عُبَيْدَ اللَّهِ بِالدَّارِ وَصَاحِبِهَا، وَقَدْ تَحَوَّلَ مُسْلِمُ بْنُ
عَقِيلٍ مِنْ دَارِ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ الْمُرَادِيِّ، إِلَى دَارِ شَرِيكِ
بْنِ الْأَعْوَرِ،
وَكَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَكَابِرِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ يُرِيدُ عِيَادَتَهُ، فَبَعَثَ إِلَى هَانِئٍ يَقُولُ لَهُ: ابْعَثْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ حَتَّى يَكُونَ فِي دَارِي لِيَقْتُلَ عُبَيْدَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ يَعُودُنِي. فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ: كُنْ أَنْتَ فِي الْخِبَاءِ، فَإِذَا جَلَسَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَإِنِّي أَطْلُبُ الْمَاءَ، وَهِيَ إِشَارَتِي إِلَيْكَ، فَاخْرُجْ فَاقْتُلْهُ. فَلَمَّا جَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ جَلَسَ عَلَى فِرَاشِ شَرِيكٍ وَعِنْدَهُ هَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ، وَقَامَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ: مِهْرَانُ. فَتَحَدَّثَ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ شَرِيكٌ: اسْقُونِي مَاءً. فَتَجَبَّنَ مُسْلِمٌ عَنْ قَتْلِهِ، وَخَرَجَتْ جَارِيَةٌ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ، فَوَجَدَتْ مُسْلِمًا فِي الْخِبَاءِ فَاسْتَحْيَتْ وَرَجَعَتْ. قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: اسْقُونِي وَلَوْ كَانَ فِيهِ ذَهَابُ نَفْسِي، أَتَحْمُونَنِي مِنَ الْمَاءِ ؟ فَفَهِمَمِهْرَانُ الْغَدْرَ، فَغَمَزَ مَوْلَاهُ، فَنَهَضَ سَرِيعًا وَخَرَجَ، فَقَالَ شَرِيكٌ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ إِلَيْكَ. فَقَالَ: إِنِّي سَأَعُودُ إِلَيْكَ. فَخَرَجَ بِهِ مَوْلَاهُ، فَأَذْهَبَهُ وَجَعَلَ يَطْرُدُ بِهِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا قَتْلَكَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! إِنِّي بِهِمْ لَرَفِيقٌ، فَمَا بَالُهُمْ ؟ ! وَقَالَ شَرِيكٌ لِمُسْلِمٍ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَخْرُجَ فَتَقْتُلَهُ ؟ قَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ ". وَكَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ فِي بَيْتِكَ. فَقَالَ: أَمَا لَوْ قَتَلْتَهُ لَجَلَسْتَ فِي الْقَصْرِ لَمْ يَسْتَعِدَّ مِنْهُ أَحَدٌ وَلَتُكْفَيَنَّ أَمْرَ الْبَصْرَةِ، وَلَوْ قَتَلْتَهُ لَقَتَلْتَ ظَالِمًا فَاجِرًا. وَمَاتَ شَرِيكٌ بَعْدَ ثَلَاثٍ.
وَكَانَ
هَانِئٌ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ
مُنْذُ قَدِمَ وَتَمَارَضَ، فَذَكَرَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَقَالَ: مَا بَالُ
هَانِئٍ لَمْ يَأْتِنِي مَعَ الْأُمَرَاءِ ؟ فَقَالُوا: أَيُّهَا الْأَمِيرُ،
إِنَّهُ يَشْتَكِي. فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ
دَارِهِ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَادَهُ قَبْلَ شَرِيكِ بْنِ الْأَعْوَرِ وَمُسْلِمُ
بْنُ عَقِيلٍ عِنْدَهُ، وَقَدْ هَمُّوا بِقَتْلِهِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ هَانِئٌ
لِكَوْنِهِ فِي دَارِهِ، فَجَاءَ الْأُمَرَاءُ إِلَى هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ،
فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ،
فَالْتَفَتَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الْقَاضِي شُرَيْحٍ، فَقَالَ مُتَمَثِّلًا
بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أُرِيدُ حَيَاتَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي عَذِيرُكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ
فَلَمَّا سَلَّمَ هَانِئٌ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: يَا هَانِئُ، أَيْنَ
مُسْلِمُ بْنَ عَقِيلٍ ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَامَ ذَلِكَ الْمَوْلَى
التَّمِيمِيُّ - الَّذِي دَخَلَ دَارَ هَانِئٍ فِي صُورَةِ قَاصِدٍ مِنْ حِمْصَ،
فَبَايَعَ فِي دَارِهِ، وَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ بِحَضْرَةِ هَانِئٍ إِلَى مُسْلِمٍ
- فَقَالَ: أَتَعْرِفُ هَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا رَآهُ هَانِئٌ قُطِعَ بِهِ
وَأُسْقِطَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، وَاللَّهِ مَا
دَعَوْتُهُ إِلَى مَنْزِلِي، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فَطَرَحَ نَفْسَهُ عَلَيَّ.
فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأْتِنِي بِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ تَحْتَ
قَدَمَيَّ مَا رَفَعْتُهُمَا عَنْهُ. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي. فَأَدْنَوْهُ
فَضَرَبَهُ بِحَرْبَةٍ عَلَى وَجْهِهِ، فَشَجَّهُ عَلَى حَاجِبِهِ، وَكَسَرَ
أَنْفَهُ، وَتَنَاوَلَ هَانِئٌ سَيْفَ شُرْطِيٍّ لِيَسُلَّهُ، فَدُفِعَ عَنْ
ذَلِكَ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لِي دَمَكَ ; لَأَنَّكَ
حَرُورِيٌّ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَحَبَسَهُ فِي جَانِبِ الدَّارِ، وَجَاءَ
قَوْمُهُ مِنْ بَنِي
مَذْحِجٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْحَجَّاجِ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ الْقَصْرِ، يَظُنُّونَ أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، فَسَمِعَ عُبَيْدُ اللَّهِ لَهُمْ جَلَبَةً، فَقَالَ لِشُرَيْحٍ الْقَاضِي وَهُوَ عِنْدَهُ: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ الْأَمِيرَ لَمْ يَحْبِسْهُ إِلَّا لَيَسْأَلَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ صَاحِبَكُمْ حَيٌّ، وَقَدْ ضَرَبَهُ سُلْطَانُنَا ضَرْبًا لَمْ يَبْلُغْ نَفْسَهُ، فَانْصَرِفُوا وَلَا تُحِلُّوا بِأَنْفُسِكُمْ وَلَا بِصَاحِبِكُمْ. فَتَفَرَّقُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَسَمِعَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ الْخَبَرَ، فَرَكِبَ وَنَادَى بِشِعَارِهِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَمَعَهُ رَايَةٌ خَضْرَاءُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ بِرَايَةٍ حَمْرَاءَ، فَرَتَّبَهُمْ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَسَارَ هُوَ فِي الْقَلْبِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي أَمْرِ هَانِئٍ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَأَشْرَافُ النَّاسِ وَأُمَرَاؤُهُمْ تَحْتَ مِنْبَرِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتِ النَّظَّارَةُ يَقُولُونَ: جَاءَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ. فَبَادَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَدَخَلَ الْقَصْرَ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَلَمَّا انْتَهَى مُسْلِمٌ إِلَى بَابِ الْقَصْرِ وَقَفَ بِجَيْشِهِ هُنَاكَ، فَأَشْرَفَ أُمَرَاءُ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي الْقَصْرِ، فَأَشَارُوا إِلَى قَوْمِهِمُ الَّذِينَ مَعَ مُسْلِمٍ بِالِانْصِرَافِ وَتَهَدَّدُوهُمْ وَوَعَدُوهُمْ وَتَوَعَّدُوهُمْ، وَأَخْرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْكَبُوا فِي الْكُوفَةِ يُخَذِّلُونَ النَّاسَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَجِيءُ إِلَى ابْنِهَا وَأَخِيهَا فَتَقُولُ: ارْجِعِ، النَّاسُ يَكْفُونَكَ. وَيَقُولُ الرَّجُلُ لَابْنِهِ وَأَخِيهِ: كَأَنَّكَ غَدًا بِجُنُودِ الشَّامِ قَدْ أَقْبَلَتْ، فَمَاذَا تَصْنَعُ مَعَهُمْ ؟ فَتَخَاذَلَ النَّاسُ وَقَصَّرُوا وَتَصَرَّمُوا وَانْصَرَفُوا عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ فَمَا أَمْسَى إِلَّا وَهُوَ فِي
خَمْسِمِائَةِ نَفْسٍ، ثُمَّ بَقِيَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا ثَلَاثُونَ رَجُلًا، فَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ، وَقَصَدَ أَبْوَابَ كِنْدَةَ، فَخَرَجَ مِنْهَا فِي عَشَرَةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَبَقِيَ وَحْدَهُ، لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَا مَنْ يُوَاسِيهِ بْنفْسِهِ، وَلَا مَنْ يَأْوِيهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ، وَاخْتَلَطَ الظَّلَامُ وَهُوَ وَحْدَهُ يَتَرَدَّدُ فِي الطَّرِيقِ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَأَتَى بَابًا فَنَزَلَ عِنْدَهُ وَطَرَقَهُ، فَخَرَجَتْ مِنْهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: طَوْعَةُ - كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَدْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ يُقَالُ لَهُ: بِلَالُ بْنُ أُسَيْدٍ. خَرَجَ مَعَ النَّاسِ، وَأُمُّهُ قَائِمَةٌ بِالْبَابِ تَنْتَظِرُهُ - فَقَالَ لَهَا مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ: اسْقِنِي مَاءً. فَسَقَتْهُ، ثُمَّ دَخَلَتْ وَخَرَجَتْ فَوَجَدَتْهُ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَشْرَبْ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَاذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ. فَسَكَتَ، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَهُوَ سَاكِتٌ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ ! قُمْ إِلَى أَهْلِكَ، عَافَاكَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ الْجُلُوسُ عَلَى بَابِي، وَلَا أُحِلُّهُ لَكَ. فَقَامَ فَقَالَ: يَا أَمَةَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي فِي هَذَا الْبَلَدِ مَنْزِلٌ وَلَا عَشِيرَةٌ، فَهَلْ لَكِ إِلَى أَجْرٍ وَمَعْرُوفٍ وَفِعْلٍ نُكَافِئُكِ بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: أَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ، كَذَّبَنِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَغَرُّونِي. فَقَالَتْ: أَنْتَ مُسْلِمٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتِ: ادْخُلْ. فَأَدْخَلَتْهُ بَيْتًا مِنْ دَارِهَا غَيْرَ الْبَيْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، وَفَرَشَتْ لَهُ، وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ الْعَشَاءَ فَلَمْ يَتَعَشَّ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ جَاءَ ابْنُهَا فَرَآهَا تُكْثِرُ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ، فَسَأَلَهَا عَنْ شَأْنِهَا فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، الْهُ عَنْ هَذَا. فَأَلَحَّ عَلَيْهَا، فَأَخَذَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحَدِّثَ أَحَدًا، فَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَ مُسْلِمٍ، فَاضْطَجَعَ وَسَكَتَ إِلَى الصَّبَاحِ.
وَأَمَّا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فَإِنَّهُ نَزَلَ مِنَ الْقَصْرِ بِمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَصَلَّى بِهِمُ
الْعِشَاءَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، ثُمَّ خَطَبَهُمْ وَطَلَبَ مِنْهُمْ
مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، وَحَثَّ عَلَى طَلَبِهِ، وَمِنْ وُجِدَ عِنْدِهِ وَلَمْ
يُعْلِمْ بِهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ دِيَتُهُ، وَطَلَبَ
الشُّرَطَ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى تَطَلُّبِهِ وَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ ابْنُ تِلْكَ الْعَجُوزِ ذَهَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ فِي
دَارِهِمْ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَسَارَّ أَبَاهُ بِذَلِكَ وَهُوَ عِنْدَ
ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: مَا سَارَّكَ بِهِ ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي
أَنَّ مُسْلِمًا فِي بَعْضِ دُورِنَا. فَنَخَسَ بِقَضِيبٍ فِي جَنْبِهِ، وَقَالَ:
قُمْ فَأْتِنِي بِهِ السَّاعَةَ.
وَبَعَثَ ابْنُ زِيَادٍ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيَّ - وَكَانَ صَاحِبَ
شُرْطَتِهِ - وَمَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ فِي
سَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ فَارِسًا، فَلَمْ يَشْعُرْ مُسْلِمٌ إِلَّا وَقَدْ
أُحِيطَ بِالدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ
بِالسَّيْفِ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الدَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأُصِيبَتْ شَفَتُهُ
الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، ثُمَّ جَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ
وَيُلْهِبُونَ النَّارَ فِي أَطْنَانِ الْقَصَبِ وَيُلْقُونَهَا عَلَيْهِ، فَضَاقَ
بِهِمْ ذَرْعًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَهُمْ، فَأَعْطَاهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَمَانَ، فَأَمْكَنَهُ مِنْ يَدِهِ، وَجَاءُوا بِبَغْلَةٍ،
فَأَرْكَبُوهُ عَلَيْهَا، وَسَلَبُوا مِنْهُ سَيْفَهُ، فَلَمْ يَبْقَ يَمْلِكُ
مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَبَكَى عِنْدَ ذَلِكَ، وَعَرَفَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ،
فَيَئِسَ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ: إِنَّا لَلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
فَقَالَ
لَهُ
بَعْضُ مَنْ حَوْلَهُ: إِنَّ مَنْ يَطْلُبُ مِثْلَ الَّذِي تَطْلُبُ لَا يَبْكِي
إِذَا نَزَلَ بِهِ هَذَا. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَسْتُ أَبْكِي عَلَى نَفْسِي،
وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْحُسَيْنِ وَآلِ الْحُسَيْنِ، إِنَّهُ قَدْ خَرَجَ
إِلَيْكُمُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا مِنْ مَكَّةَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى مُحَمَّدِ
بْنِ الْأَشْعَثِ فَقَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ
عَلَى لَسَانِي تَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ فَافْعَلْ. فَبَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْأَشْعَثِ إِلَى الْحُسَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ، فَلَمْ يُصَدِّقِ
الرَّسُولَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: كُلُّ مَا حُمَّ وَاقِعٌ.
قَالُوا: وَلَمَّا انْتَهَى مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ إِلَى بَابِ الْقَصْرِ إِذَا
عَلَى بَابِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ
يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَهُ، يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ عَلَى ابْنِ
زِيَادٍ، وَمُسْلِمٌ مُخَضَّبٌ بِالدِّمَاءِ وَجْهُهُ وَثِيَابُهُ، وَهُوَ
مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ، فِي غَايَةِ الْعَطَشِ، وَإِذَا قُلَّةٌ مِنْ مَاءٍ
بَارِدٍ هُنَالِكَ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا لَيَشْرَبَ مِنْهَا، فَقَالَ
لَهُ رَجُلٌ مِنْ أُولَئِكَ: وَاللَّهِ لَا تَشْرَبُ مِنْهَا حَتَّى تَشْرَبَ مِنَ
الْحَمِيمِ. فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ بَاهِلَةَ ! أَنْتَ أَوْلَى
بِالْحَمِيمِ وَالْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ مِنِّي. ثُمَّ جَلَسَ مُتَسَانِدًا
إِلَى الْحَائِطِ مِنَ التَّعَبِ وَالْكَلَالِ وَالْعَطَشِ، فَبَعَثَ عُمَارَةُ
بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مَوْلًى لَهُ إِلَى دَارِهِ، فَجَاءَ بِقُلَّةٍ
عَلَيْهَا مِنْدِيلٌ وَمَعَهُ قَدَحٌ، فَجَعَلَ يُفْرِغُ لَهُ فِي الْقَدَحِ،
وَيُعْطِيهِ فَيَشْرَبُ، فَلَا يَسْتَطِيعُ مِنْ كَثْرَةِ الدِّمَاءِ الَّتِي
تَعْلُو عَلَى الْمَاءِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا شَرِبَ سَقَطَتْ
ثَنْيَتَاهُ مَعَ الْمَاءِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لَلَّهِ، لَقَدْ كَانَ لِي مِنَ
الرِّزْقِ الْمَقْسُومِ شَرْبَةُ مَاءٍ.
ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمْ يُسَلِّمْ
عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ
الْحَرَسِيُّ: أَلَا تُسَلِّمُ عَلَى الْأَمِيرِ ؟ ! فَقَالَ: لَا، إِنْ كَانَ يُرِيدُ قَتْلِي فَلَا حَاجَةَ لِي بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ قَتْلِي فَسَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ كَثِيرًا. فَأَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِيهِ يَا ابْنَ عَقِيلٍ، أَتَيْتَ النَّاسَ وَأَمْرُهُمْ جَمِيعٌ وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ ; لِتُشَتِّتَهُمْ، وَتُفَرِّقَ كَلِمَتَهُمْ، وَتَحْمِلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ؟ ! قَالَ: كَلَّا لَسْتُ لَذَلِكَ أَتَيْتُ، وَلَكِنْ أَهْلُ الْمِصْرِ زَعَمُوا أَنَّ أَبَاكَ قَتَلَ خِيَارَهُمْ، وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ، وَعَمِلَ فِيهِمْ أَعْمَالَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَأَتَيْنَاهُمْ لَنَأْمُرَ بِالْعَدْلِ وَنَدْعُوَ إِلَى حُكْمِ الْكِتَابِ. قَالَ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ يَا فَاسِقُ، أَوَ لَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ بِذَلِكَ فِيهِمْ إِذْ أَنْتَ بِالْمَدِينَةِ تَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ فَقَالَ: أَنَا أَشْرَبُ الْخَمْرَ ! وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ أَنَّكَ غَيْرُ صَادِقٍ، وَأَنَّكَ قُلْتَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنِّي، فَإِنِّي لَسْتُ كَمَا ذَكَرْتَ، وَإِنَّ أَوْلَى بِهَا مِنِّي مَنْ يَلَغُ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَغًا، وَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَيَقْتُلُ عَلَى الْغَضَبِ وَالظَّنِّ، وَهُوَ يَلْهُو وَيَلْعَبُ كَأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: يَا فَاسِقُ، إِنَّ نَفْسَكَ تُمَنِّيكَ مَا حَالَ اللَّهُ دُونَكَ وَدُونَهُ، وَلَمْ يَرَكَ أَهْلَهُ. قَالَ: فَمَنْ أَهْلُهُ يَا ابْنَ زِيَادٍ ؟ قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ. قَالَ: الْحَمْدُ لَلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، رَضِينَا بِاللَّهِ حَكَمًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. قَالَ: كَأَنَّكَ تَظُنُّ أَنَّ لَكُمْ فِي الْأَمْرِ شَيْئًا ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالظَّنِّ، وَلَكِنَّهُ الْيَقِينُ. قَالَ لَهُ: قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ قِتْلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ النَّاسِ. قَالَ: أَمَا إِنَّكَ أَحَقُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، أَمَا إِنَّكَ لَا تَدَعُ سُوءَ الْقِتْلَةِ، وَقُبْحَ الْمُثْلَةِ، وَخُبْثَ السِّيرَةِ الْمُكْتَسَبَةِ عَنْ آبَائِكُمْ وَجُهَّالِكُمْ. وَأَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ يَشْتُمُهُ وَيَشْتُمُ حُسَيْنًا وَعَلِيًّا، وَمُسْلِمٌ
سَاكِتٌ
لَا يُكَلِّمُهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ وَغَيْرِهِ مِنْ
رُوَاةِ الشِّيعَةِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: إِنِّي قَاتِلُكَ. قَالَ: كَذَلِكَ ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: فَدَعْنِي أُوصِي إِلَى بَعْضِ قَوْمِي. قَالَ: أَوْصِ. فَنَظَرَ
فِي جُلَسَائِهِ وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. فَقَالَ: يَا
عُمَرُ، إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَرَابَةٌ، وَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ، وَهُوَ
سِرٌّ. فَأَبَى أَنْ يَقُومَ مَعَهُ حَتَّى أَذِنَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ، فَقَامَ
فَتَنَحَّى قَرِيبًا مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: إِنَّ عَلَيَّ
دَيْنًا فِي الْكُوفَةِ ; سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاقْضِهَا عَنِّي،
وَاسْتَوْهِبْ جُثَّتِي مِنِ ابْنِ زِيَادٍ فَوَارِهَا، وَابْعَثْ إِلَى
الْحُسَيْنِ، فَإِنِّي قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْهِ أُعْلِمُهُ أَنَّ النَّاسَ مَعَهُ،
وَلَا أَرَاهُ إِلَّا مُقْبِلًا. فَقَامَ عُمَرُ فَعَرَضَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ مَا
قَالَ لَهُ، فَأَجَازَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ: وَأَمَّا الْحُسَيْنُ
فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُرِدْنَا لَا نُرِدْهُ، وَإِنْ أَرَادَنَا لَمْ نَكُفَّ
عَنْهُ. ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ زِيَادٍ بِمُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَأُصْعِدَ إِلَى
أَعَلَى الْقَصْرِ، وَهُوَ يُكَبِّرُ وَيَسْتَغْفِرُ وَيُصَلِّي عَلَى مَلَائِكَةِ
اللَّهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ غَرُّونَا
وَخَذَلُونَا. ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بُكَيْرُ بْنُ
حُمْرَانَ. ثُمَّ أَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى أَسْفَلِ الْقَصْرِ، وَأَتْبَعَ رَأْسَهُ
بِجَسَدِهِ.
ثُمَّ أَمَرَ بِهَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ الْمَذْحِجِيِّ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ بِسُوقِ
الْغَنَمِ، وَصُلِبَ بِمَكَانٍ مِنَ الْكُوفَةِ يُقَالُ لَهُ: الْكُنَاسَةُ.
فَقَالَ رَجُلٌ شَاعِرٌ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً، وَيُقَالُ: إِنَّهَا
لَلْفَرَزْدَقِ:
فَإِنْ كُنْتِ لَا تَدْرِينَ مَا الْمَوْتُ فَانْظُرِي إِلَى هَانِئٍ فِي السُّوقِ
وَابْنِ عَقِيلِ
أَصَابَهُمَا
أَمْرُ الْإِمَامِ فَأَصْبَحَا أَحَادِيثَ مَنْ يَسْعَى بِكُلِّ سَبِيلِ
إِلَى بَطَلٍ قَدْ هَشَّمَ السَّيْفُ وَجْهَهُ وَآخَرُ يَهْوَى فِي طَمَارِ
قَتِيلِ
تَرَيْ جَسَدًا قَدْ غَيَّرَ الْمَوْتُ لَوْنَهُ وَنَضَحَ دَمٍ قَدْ سَالَ كُلَّ
مَسِيلِ
فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَثْأَرُوا بِأَخِيكُمُ فَكُونُوا بَغَايَا أُرْضِيَتْ
بِقَلِيلِ
ثُمَّ بُعِثَ بِرُءُوسِهِمَا إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الشَّامِ،
وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا بِصُورَةِ مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِمَا.
وَقَدْ كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْبَصْرَةِ بِيَوْمٍ
خَطَبَ أَهْلَهَا خُطْبَةً بَلِيغَةً، وَوَعَظَهُمْ فِيهَا وَحَذَّرَهُمْ
وَأَنْذَرَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتْنَةِ وَالتَّفَرُّقِ.
وَذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ وَأَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ
الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: وَكَتَبَ
الْحُسَيْنُ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: سُلَيْمانُ. كِتَابًا إِلَى
أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَكْرَمَهُ
بِنُبُوَّتِهِ، وَاخْتَارَهُ لِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَيْهِ وَقَدْ
نَصَحَ لِعِبَادِهِ وَبَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَكُنَّا أَهْلَهُ
وَأَوْلِيَاءَهُ وَأَوْصِيَاءَهُ وَوَرَثَتَهُ، وَأَحَقَّ النَّاسِ بِمَقَامِهِ
فِي النَّاسِ، فَاسْتَأْثَرَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا بِذَلِكَ، فَرَضِينَا
وَكَرِهْنَا الْفُرْقَةَ، وَأَحْبَبْنَا الْعَافِيَةَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّا
أَحَقُّ بِذَلِكَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْنَا مِمَّنْ تَوَلَّاهُ، وَقَدْ
أَحْسَنُوا وَأَصْلَحُوا، وَتَحَرَّوُا الْحَقَّ،
فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَغَفَرَ لَنَا وَلَهُمْ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ قَدْ أُمِيتَتْ، وَإِنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ أُحْيِيَتْ، فَإِنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي وَتُطِيعُوا أَمْرِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ - وَعِنْدِي فِي صِحَّةِ هَذَا عَنِ الْحُسَيْنِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُطَرَّزٌ بِكَلَامٍ مَزِيدٍ مِنْ بَعْضِ رُوَاةِ الشِّيعَةِ - قَالَ: فَكُلُّ مَنْ قَرَأَ الْكِتَابَ مِنَ الْأَشْرَافِ كَتَمَهُ إِلَّا الْمُنْذِرَ بْنَ الْجَارُودِ فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ دَسِيسَةٌ مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَجَاءَ بِهِ إِلَيْهِ، فَبَعَثَ خَلْفَ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَصَعِدَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَوَاللَّهِ مَا بِي تُقْرَنُ الصَّعْبَةُ، وَمَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، وَإِنِّي لَنِكْلٌ لِمَنْ عَادَانِي، وَسِمَامٌ لِمَنْ حَارَبَنِي، أَنْصَفَ الْقَارَّةَ مَنْ رَامَاهَا، يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّانِي الْكُوفَةَ وَأَنَا غَادٍ إِلَيْهَا الْغَدَاةَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكَمْ عُثْمَانَ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْخِلَافَ وَالْإِرْجَافَ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَئِنْ بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ خِلَافٌ لَأَقْتُلَنَّهُ وَعَرِيفَهُ وَوَلِيَّهُ، وَلَآخُذَنَّ الْأَدْنَى بِالْأَقْصَى، حَتَّى تَسْتَقِيمُوا لِي، وَلَا يَكُونُ فِيكُمْ مُخَالِفٌ وَلَا مُشَاقٌّ، أَنَا ابْنُ زِيَادٍ، أَشْبَهْتُهُ مِنْ بَيْنِ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى، وَلَمْ يَنْتَزِعْنِي شَبَهُ خَالٍ وَلَا عَمٍّ. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَمَعَهُ مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: كَانَ مَخْرَجُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِالْكُوفَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ لَثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِتِسْعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَذَلِكَ يَوْمَ عَرَفَةَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَخْرَجِ الْحُسَيْنِ مِنْ مَكَّةَ قَاصِدًا أَرْضَ الْعِرَاقِ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ خُرُوجُ الْحُسَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ بَقِيَّةَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ وَشَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ.
صِفَةُ
مَخْرَجِ الْحُسَيْنِ وَمَا جَرَى لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ
لَمَّا تَوَاتَرَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْحُسَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ
وَتَكَرَّرَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَجَاءَهُ كِتَابُ مُسْلِمِ بْنِ
عَقِيلٍ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ بِأَهْلِهِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ مَا
وَقَعَ مِنْ مَقْتَلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَالْحُسَيْنُ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ وَالْقُدُومِ
عَلَيْهِمْ، فَاتَّفَقَ خُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَبْلَ
مَقْتَلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ - فَإِنَّ مُسْلِمًا قُتِلَ
يَوْمَ عَرَفَةَ - وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ النَّاسُ خُرُوجَهُ أَشْفَقُوا عَلَيْهِ
مِنْ ذَلِكَ، وَحَذَّرُوهُ مِنْهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ
وَالْمَحَبَّةِ لَهُ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَمَرُوهُ
بِالْمُقَامِ بِمَكَّةَ، وَذَكَّرُوهُ مَا جَرَى لِأَبِيهِ وَأَخِيهِ مَعَهُمْ.
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ
طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَشَارَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي
الْخُرُوجِ فَقُلْتُ: لَوْلَا أَنْ يُزْرَى بِي وَبِكَ لَشَبِثْتُ يَدِي فِي
رَأْسِكَ. فَكَانَ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ أَنْ قَالَ: لَأَنْ أُقْتَلَ فِي
مَكَانِ
كَذَا وَكَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ بِمَكَّةَ. قَالَ: فَكَانَ
هَذَا الَّذِي سَلَا نَفْسِي عَنْهُ.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ، أَنَّ حُسَيْنًا لَمَّا أَجْمَعَ الْمَسِيرُ إِلَى
الْكُوفَةِ أَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَمِّ،
إِنَّهُ قَدْ أَرْجَفَ النَّاسُ أَنَّكَ سَائِرٌ إِلَى الْعِرَاقِ، فَبَيِّنْ لِي
مَا أَنْتَ صَانِعٌ. فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَجْمَعْتُ الْمَسِيرَ فِي أَحَدِ
يَوْمَيَّ هَذَيْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَخْبِرْنِي إِنْ كَانَ قَدْ دَعَوْكَ بَعْدَ مَا قَتَلُوا أَمِيرَهُمْ وَنَفَوْا
عَدُوَّهُمْ وَضَبَطُوا بِلَادَهُمْ، فَسِرْ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَمِيرُهُمْ
عَلَيْهِمْ قَاهِرًا لَهُمْ، وَعُمَّالُهُ تَجْبِي بِلَادَهُمْ، فَإِنَّهُمْ
إِنَّمَا دَعَوْكَ لِلْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ، وَلَا آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ
يَسْتَنْفِرُوا إِلَيْكَ النَّاسَ، فَيَكُونُ الَّذِينَ دَعَوْكَ أَشَدَّ النَّاسِ
عَلَيْكَ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنِّي أَسْتَخِيرُ اللَّهَ وَأَنْظُرُ مَا
يَكُونُ. فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ،
فَقَالَ لَهُ: مَا أَدْرِي مَا تَرْكُنَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَنَحْنُ
أَبْنَاءَ الْمُهَاجِرِينَ، وَوُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ دُونَهُمْ، أَخْبِرْنِي مَا
تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَدَّثْتُ نَفْسِي
بِإِتْيَانِ الْكُوفَةِ، وَلَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ شِيعَتِي بِهَا وَأَشْرَافُ أَهْلِهَا،
وَأَسْتَخِيرُ اللَّهَ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَا لَوْ كَانَ لِي بِهَا
مِثْلُ شِيعَتِكَ مَا عَدَلْتُ عَنْهَا. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ
الْحُسَيْنُ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ مَعِي شَيْءٌ،
وَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْدِلُوهُ بِي،
فَوَدَّ
أَنِّي خَرَجْتُ لِتَخْلُوَ لَهُ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَشِيِّ أَوْ مِنَ
الْغَدِ جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى الْحُسَيْنِ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ،
إِنِّي أَتَصَبَّرُ وَلَا أَصْبِرُ، إِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ فِي هَذَا
الْوَجْهِ الْهَلَاكَ، إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَوْمٌ غُدُرٌ فَلَا تَغْتَرَّنَّ
بِهِمْ، أَقِمْ فِي هَذَا الْبَلَدِ حَتَّى يَنْفِيَ أَهْلُ الْعِرَاقِ
عَدُوَّهُمْ، ثُمَّ اقْدَمْ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَسِرْ إِلَى الْيَمَنِ فَإِنَّ
بِهِ حُصُونًا وَشِعَابًا، وَلِأَبِيكَ بِهِ شِيعَةٌ، وَكُنْ عَنِ النَّاسِ فِي
مَعْزِلٍ، وَاكْتُبْ إِلَيْهِمْ، وَبُثَّ دُعَاتَكَ فِيهِمْ، فَإِنِّي أَرْجُو
إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا تُحِبُّ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا ابْنَ
عَمِّ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ نَاصِحٌ شَفِيقٌ، وَلَكِنِّي قَدْ
أَزْمَعْتُ الْمَسِيرَ. فَقَالَ لَهُ: فَإِنْ كُنْتَ وَلَا بُدَّ سَائِرًا فَلَا
تَسِرْ بِنِسَائِكَ وَصِبْيَتِكَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ تُقْتَلَ
كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ وَنِسَاؤُهُ وَوَلَدُهُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقْرَرْتَ عَيْنَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِتَخْلِيَتِكَ إِيَّاهُ
بِالْحِجَازِ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ
إِذَا أَخَذْتُ بِشَعْرِكَ وَنَاصِيَتِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ
النَّاسُ أَطَعْتَنِي وَأَقَمْتَ، لَفَعَلْتُ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ مِنْ
عِنْدِهِ فَلَقِيَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: قَرَّتْ عَيْنُكَ يَا ابْنَ
الزُّبَيْرِ. ثُمَّ قَالَ:
يَا لَكِ مِنْ قُنْبَرَةٍ بِمَعْمَرِ خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
ثُمَّ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا حُسَيْنٌ يَخْرُجُ إِلَى الْعِرَاقِ وَيُخَلِّيكَ
وَالْحِجَازَ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ الْأَسَدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ
يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ بِمَاءٍ لَهُ، فَبَلَغَهُ أَنَّ
الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَحِقَهُ عَلَى
مَسِيرَةِ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقَالَ لَهُ:
الْعِرَاقَ. وَإِذَا مَعَهُ طَوَامِيرُ وَكُتُبٌ. فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُهُمْ
وَبَيْعَتُهُمْ. فَقَالَ: لَا تَأْتِهِمْ. فَأَبَى، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنِّي
مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا ; إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ،
وَلَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا، وَإِنَّكَ بَضْعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَا يَلِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ أَبَدًا،
وَمَا صَرَفَهَا اللَّهُ عَنْكُمْ إِلَّا لِلَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. فَأَبَى
أَنْ يَرْجِعَ. قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَبَكَى وَقَالَ:
أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ مِنْ قَتِيلٍ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، ثَنَا سُلَيْمُ بْنُ
حَيَّانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
يَقُولُ: عَجَّلَ حُسَيْنٌ قَدَرَهُ، عَجَّلَ حُسَيْنٌ قَدَرَهُ، وَاللَّهِ لَوْ
أَدْرَكْتُهُ مَا كَانَ لِيَخْرُجَ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَنِي ; بِبَنِي هَاشِمٍ
فُتِحَ،
وَبِبَنِي
هَاشِمٍ خُتِمَ، فَإِذَا رَأَيْتَ الْهَاشِمِيَّ قَدْ مَلَكَ فَقَدْ ذَهَبَ
الزَّمَانُ. قُلْتُ: وَهَذَا مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْفَاطِمِيِّينَ أَدْعِيَاءُ، لَمْ يَكُونُوا مِنْ سُلَالَةِ فَاطِمَةَ، كَمَا
زَعَمُوا، وَإِنَّمَا كَانُوا كَذَبَةً فِيمَا ادَّعَوْهُ، كَمَا نَصَّ عَلَى
ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ،
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا
سُفْيَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ غَالِبٍ قَالَ:
قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْحُسَيْنِ: أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ ! إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا
أَبَاكَ وَطَعَنُوا أَخَاكَ ؟ فَقَالَ: لِأَنْ أُقْتَلَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تُسْتَحَلَّ بِي. يَعْنِي مَكَّةَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ هِشَامَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ، عَنْ مَعْمَرٍ
قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ:
سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَتَتْنِي بَيْعَةُ
أَرْبَعِينَ أَلْفًا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ:
أَتَخْرُجُ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاكَ وَأَخْرَجُوا أَخَاكَ ؟ قَالَ هِشَامٌ:
فَسَأَلْتُ مَعْمَرًا عَنِ
الرَّجُلِ
فَقَالَ: هُوَ ثِقَةٌ. قَالَ الزُّبَيْرُ: وَقَالَ عَمِّي: وَزَعَمَ بَعْضُ
النَّاسِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا.
وَقَدْ سَاقَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ هَذَا سِيَاقًا حَسَنًا
مَبْسُوطًا، فَقَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ لُوطِ بْنِ يَحْيَى
الْغَامِدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَشْرٍ الْهَمْدَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعَنْ
هَارُونَ بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ
يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ حَدَّثَنِي
أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، فَكَتَبْتُ جَوَامِعَ حَدِيثِهِمْ فِي
مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، قَالُوا: لَمَّا
بَايَعَ النَّاسُ مُعَاوِيَةَ لِيَزِيدَ كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنْ لَمْ يُبَايِعْ
لَهُ، وَكَانَ أَهْلُ الْكُوفَةِ يَكْتُبُونَ إِلَى حُسَيْنٍ يَدْعُونَهُ إِلَى
الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَقَدِمَ
مِنْهُمْ قَوْمٌ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ
يَخْرُجَ مَعَهُمْ، فَأَبَى وَجَاءَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا
عَرَضُوا عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْكُلُوا
بِنَا، وَيُشِيطُوا دِمَاءَنَا. فَأَقَامَ حُسَيْنٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ
الْهُمُومِ، مَرَّةً
يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ، وَمَرَّةً يُجْمِعُ الْإِقَامَةَ. فَجَاءَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ، وَإِنِّي عَلَيْكُمْ مُشْفِقٌ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَاتَبَكَ قَوْمٌ مِنْ شِيعَتِكُمْ بِالْكُوفَةِ يَدْعُونَكَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، فَلَا تَخْرُجْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ بِالْكُوفَةِ: وَاللَّهِ لَقَدْ مَلِلْتُهُمْ وَأَبْغَضْتُهُمْ، وَمَلُّونِي وَأَبْغَضُونِي، وَمَا بَلَوْتُ مِنْهُمْ وَفَاءً، وَمَنْ فَازَ بِهِمْ فَازَ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ، وَاللَّهِ مَا لَهُمْ ثَبَاتٌ وَلَا عَزْمٌ عَلَى أَمْرٍ، وَلَا صَبْرٌ عَلَى السَّيْفِ. قَالَ: وَقَدِمَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ فِي عِدَّةٍ مَعَهُ إِلَى الْحُسَيْنِ بَعْدَ وَفَاةِ الْحَسَنِ، فَدَعَوْهُ إِلَى خَلْعِ مُعَاوِيَةَ وَقَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا رَأْيَكَ وَرَأْيَ أَخِيكَ. فَقَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ أَخِي عَلَى نِيَّتِهِ فِي حُبِّهِ الْكَفَّ، وَأَنْ يُعْطِيَنِي عَلَى نِيَّتِي فِي حُبِّي جِهَادَ الظَّالِمِينَ. وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَكُونَ حُسَيْنٌ مَرْصَدًا لِلْفِتْنَةِ، وَأَظُنُّ يَوْمَكُمْ مِنْ حُسَيْنٍ طَوِيلًا. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْحُسَيْنِ: إِنَّ مَنْ أَعْطَى اللَّهَ صَفْقَةَ يَمِينِهِ وَعَهْدِهِ لَجَدِيرٌ بِالْوَفَاءِ، وَقَدْ أُنْبِئْتُ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدْ دَعَوْكَ إِلَى الشِّقَاقِ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ مَنْ قَدْ جَرَّبْتَ ; قَدْ أَفْسَدُوا عَلَى أَبِيكَ وَأَخِيكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَاذْكُرِ الْمِيثَاقَ ; فَإِنَّكَ مَتَى تَكِدْنِي أَكِدْكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ: أَتَانِي كِتَابُكَ وَأَنَا بِغَيْرِ الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي جَدِيرٌ، وَالْحَسَنَاتُ لَا يَهْدِي لَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَمَا أَرَدْتُ لَكَ مُحَارَبَةً وَلَا عَلَيْكَ خِلَافًا، وَمَا أَظُنُّ لِي عِنْدَ اللَّهِ عُذْرًا فِي تَرْكِ جِهَادِكَ، وَمَا أَعْلَمُ فِتْنَةً أَعْظَمَ مِنْ وِلَايَتِكَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ أَثَرْنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا أَسَدًا. وَكَتَبَ
إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَيْضًا فِي بَعْضِ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ: إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ فِي رَأْسِكَ نَزْوَةً، فَوَدِدْتُ أَنِّي أُدْرِكُهَا فَأَغْفِرَهَا لَكَ. قَالُوا: فَلَمَّا حَضَرَ مُعَاوِيَةُ دَعَا يَزِيدَ فَأَوْصَاهُ بِمَا أَوْصَاهُ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: انْظُرْ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ، ابْنِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى النَّاسِ، فَصِلْ رَحِمَهُ، وَارْفُقْ بِهِ، يَصْلُحْ لَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكْفِيَكَهُ اللَّهُ بِمَنْ قَتَلَ أَبَاهُ وَخَذَلَ أَخَاهُ. وَتُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَبَايَعَ النَّاسُ يَزِيدَ، فَكَتَبَ يَزِيدُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُوَيْسٍ الْعَامِرِيِّ - عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ - إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ ; أَنِ ادْعُ النَّاسَ فَبَايِعْهُمْ، وَابْدَأْ بِوُجُوهِ قُرَيْشٍ، وَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَنْ تَبْدَأُ بِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَهِدَ إِلَيَّ فِي أَمْرِهِ الرِّفْقَ بِهِ وَاسْتِصْلَاحَهُ. فَبَعَثَ الْوَلِيدُ مِنْ سَاعَتِهِ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُمَا بِوَفَاةِ مُعَاوِيَةَ، وَدَعَاهُمَا إِلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ، فَقَالَا: نُصْبِحُ وَنَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ. وَوَثَبَ الْحُسَيْنُ، فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ: هُوَ يَزِيدُ الَّذِي نَعْرِفُ، وَاللَّهِ مَا حَدَثَ لَهُ حَزْمٌ وَلَا مُرُوءَةٌ. وَقَدْ كَانَ الْوَلِيدُ أَغْلَظَ لِلْحُسَيْنِ، فَشَتَمَهُ الْحُسَيْنُ، وَأَخَذَ بِعِمَامَتِهِ، وَنَزَعَهَا مِنْ رَأْسِهِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: إِنْ هِجْنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا أَسَدًا. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ أَوْ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: اقْتُلْهُ. فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَدَمٌ مَضْنُونٌ بِهِ فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. قَالُوا: وَخَرَجَ الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ لَيْلَتِهِمَا إِلَى مَكَّةَ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فَغَدَوْا عَلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ، وَطُلِبَ الْحُسَيْنُ وَابْنُ
الزُّبَيْرِ، فَلَمْ يُوجَدَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: عَجِلَ الْحُسَيْنُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ يَلْفِتُهُ وَيُزْجِيهِ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَخْلُوَ بِمَكَّةَ. فَقَدِمَا مَكَّةَ، فَنَزَلَ الْحُسَيْنُ دَارَ الْعَبَّاسِ، وَلَزِمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجْرَ، وَلَبِسَ الْمَعَافِرِيَّ، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ يَغْدُو وَيَرُوحُ إِلَى الْحُسَيْنِ، وَيُشِيرُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْدَمَ الْعِرَاقَ، وَيَقُولُ: هُمْ شِيعَتُكَ وَشِيعَةُ أَبِيكَ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَا تَفْعَلْ. وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ: إِنِّي فِدَاؤُكَ وَأَبِي وَأُمِّي، فَأَمْتِعْنَا بِنَفْسِكَ وَلَا تَسِرْ إِلَى الْعِرَاقِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلَكَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَيَتَّخِذُونَا عَبِيدًا وَخَوَلًا. قَالُوا: وَلَقِيَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بِالْأَبْوَاءِ مُنْصَرِفِينَ مِنَ الْعُمْرَةِ، فَقَالَ لَهُمَا ابْنُ عُمَرَ: أُذَكِّرُكُمَا اللَّهَ إِلَّا رَجَعْتُمَا فَدَخَلْتُمَا فِي صَالِحِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ النَّاسُ، وَتَنْظُرَا، فَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ لَمْ تَشِذَّا، وَإِنِ افْتَرَقَ عَلَيْهِ كَانَ الَّذِي تُرِيدَانِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِلْحُسَيْنِ: لَا تَخْرُجْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ، وَإِنَّكَ بَضْعَةٌ مِنْهُ وَلَا تَنَالُهَا. يَعْنِي الدُّنْيَا، وَاعْتَنَقَهُ وَبَكَى وَوَدَّعَهُ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: غَلَبَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ بِالْخُرُوجِ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ رَأَى فِي أَبِيهِ وَأَخِيهِ عِبْرَةً، وَرَأَى مِنَ الْفِتْنَةِ وَخِذْلَانِ النَّاسِ لَهُمَا مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَتَحَرَّكَ مَا عَاشَ، وَأَنْ يَدْخُلَ فِي صَالِحِ مَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ خَيْرٌ. وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْنَ تُرِيدُ يا ابْنَ فَاطِمَةَ ؟ فَقَالَ: الْعِرَاقَ وَشِيعَتِي. فَقَالَ: إِنِّي لَكَرِهٌ لِوَجْهِكَ هَذَا ; تَخْرُجُ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاكَ وَطَعَنُوا أَخَاكَ
حَتَّى تَرَكَهُمْ سَخْطَةً وَمَلَالَةً لَهُمْ ؟ ! أُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنْ تَغْرُرَ بِنَفْسِكَ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: غَلَبَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْخُرُوجِ، وَقَدْ قُلْتُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ وَالْزَمْ بَيْتَكَ، وَلَا تَخْرُجْ عَلَى إِمَامِكَ. وَقَالَ أَبُو وَاقَدٍ اللِّيثِيُّ: بَلَغَنِي خُرُوجُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَدْرَكْتُهُ بِمَلَلٍ، فَنَاشَدْتُهُ اللَّهَ أَنْ لَا يَخْرُجَ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِي غَيْرِ وَجْهِ خُرُوجٍ، إِنَّمَا خَرَجَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ. فَقَالَ: لَا أَرْجِعُ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَلَّمْتُ حُسَيْنًا فَقُلْتُ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَضْرِبِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فَوَاللَّهِ مَا حُمِدْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ. فَعَصَانِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لَوْ أَنَّ حُسَيْنًا لَمْ يَخْرُجْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِحُسَيْنٍ أَنْ يَعْرِفَ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنْ شَجَّعَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِكُتُبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَبِقَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: الْحَقْ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ نَاصِرُوكَ. إِيَّاكَ أَنْ تَبْرَحَ الْحَرَمَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ كَانَتْ لَهُمْ بِكَ حَاجَةٌ فَسَيَضْرِبُونَ إِلَيْكَ آبَاطَ الْإِبِلِ حَتَّى يُوَافُوكَ فَتَخْرُجَ فِي قُوَّةٍ وَعُدَّةٍ. فَجَزَاهُ خَيْرًا وَقَالَ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي ذَلِكَ. وَكَتَبَتْ إِلَيْهِ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تُعَظِّمُ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَ، وَتَأْمُرُهُ بِالطَّاعَةِ وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُسَاقُ إِلَى مَصْرَعِهِ، وَتَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ إِنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يُقْتَلُ الْحُسَيْنُ بِأَرْضِ بَابِلَ ". فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهَا قَالَ: فَلَا بُدَّ لِي إِذًا مِنْ مَصْرَعِي. وَمَضَى. وَأَتَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
هِشَامٍ
فَقَالَ: يا ابْنَ عَمِّ، إِنَّ الرَّحِمَ تَظْأَرُنِي عَلَيْكَ، وَمَا أَدْرِي
كَيْفَ أَنَا عِنْدَكَ فِي النَّصِيحَةِ لَكَ ؟ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا
أَنْتَ مِمَّنْ يُسْتَغَشُّ وَلَا يُتَّهَمُ، فَقُلْ. قَالَ: قَدْ رَأَيْتَ مَا
صَنَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ بِأَبِيكَ وَأَخِيكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَسِيرَ
إِلَيْهِمْ، وَهُمْ عَبِيدُ الدُّنْيَا، فَيُقَاتِلُكَ مَنْ قَدْ وَعَدَكَ أَنْ
يَنْصُرَكَ، وَيَخْذُلُكَ مَنْ أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَنْصُرُهُ،
فَأُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ يا ابْنَ عَمِّ
خَيْرًا، وَمَهْمَا يَقْضِ اللَّهُ مِنْ أَمْرٍ يَكُنْ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
إِنَّا لِلَّهِ، عِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَكَتَبَ
إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ كِتَابًا يُحَذِّرُهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ
وَيُنَاشِدُهُ اللَّهَ أَنْ يَشْخَصَ إِلَيْهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ:
إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا، وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَمَرَنِي بِأَمْرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لَهُ، وَلَسْتُ بِمُخْبِرٍ بِهَا
أَحَدًا حَتَّى أُلَاقِيَ عَمَلِي. وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ نَائِبُ الْحَرَمَيْنِ: إِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُلْهِمَكَ
رُشْدَكَ، وَأَنْ يَصْرِفَكَ عَمَّا يُرْدِيكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ قَدْ عَزَمْتَ
عَلَى الشُّخُوصِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَإِنِّي أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنَ
الشِّقَاقِ، فَإِنْ كُنْتَ خَائِفًا فَأَقْبِلْ إِلَيَّ، فَلَكَ عِنْدِي
الْأَمَانُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِالْحُسَيْنُ: إِنْ كُنْتَ
أَرَدْتَ بِكِتَابِكَ بِرِّي وَصِلَتِي فَجُزِيتَ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يُشَاقِقْ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ
صَالَحًا، وَقَالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَخَيْرُ الْأَمَانِ أَمَانُ
اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ مَنْ لَمْ يَخَفْهُ فِي الدُّنْيَا،
فَنَسْأَلُ اللَّهَ مَخَافَةً فِي الدُّنْيَا تُوجِبُ لَنَا أَمَانَ الْآخِرَةِ
عِنْدَهُ
وَقَالُوا: وَكَتَبَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
يُخْبِرُهُ بِخُرُوجِ الْحُسَيْنِ
إِلَى
مَكَّةَ وَيَحْسَبُهُ قَدْ جَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمَشْرِقِ
فَمَنَّوْهُ الْخِلَافَةَ، وَعِنْدَكَ مِنْهُمْ خِبْرَةٌ وَتَجْرِبَةٌ، فَإِنْ
كَانَ فَعَلَ فَقَدْ قَطَعَ وَاشِجَ الْقَرَابَةِ، وَأَنْتَ كَبِيرُ أَهْلِ
بَيْتِكَ وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ، فَاكْفُفْهُ عَنِ السَّعْيِ فِي الْفُرْقَةِ،
وَكَتَبَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
مِنْ قُرَيْشٍ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْغَادِي لِطَيَّتِهِ عَلَى عُذَافِرَةٍ فِي سَيْرِهَا
قُحَمُ
أَبْلِغْ قُرَيْشًا عَلَى نَأْيِ الْمَزَارِ بِهَا بَيْنِي وَبَيْنَ حُسَيْنِ
اللَّهُ وَالرَّحِمُ
وَمَوْقِفٌ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ أَنْشُدُهُ عَهْدَ الْإِلَهِ وَمَا تُوفَى بِهِ
الذِّمَمُ
عَنَّيْتُمُ قَوْمَكُمْ فَخْرًا بِأُمِّكُمُ أُمٌّ لَعَمْرِي حَصَانٌ بَرَّةٌ
كَرَمُ
هِيَ الَّتِي لَا يُدَانِي فَضْلَهَا أَحَدٌ بِنْتُ الرَّسُولِ وَخَيْرُ النَّاسِ
قَدْ عَلِمُوا
وَفَضْلُهَا لَكُمُ فَضْلٌ وَغَيْرُكُمُ مِنْ قَوْمِكُمْ لَهُمْ فِي فَضْلِهَا
قِسَمُ
إِنِّي لَأَعْلَمُ أَوْ ظَنًّا كَعَالِمِهِ وَالظَّنُّ يَصْدُقُ أَحْيَانًا
فَيَنْتَظِمُ
أَنْ سَوْفَ يَتْرُكُكُمْ مَا تَدَّعُونَ بِهَا قَتْلَى تَهَادَاكُمُ الْعِقْبَانُ
وَالرَّخَمُ
يَا قَوْمَنَا لَا تُشِبُّوا الْحَرْبَ إِذْ سَكَنَتْ وَأَمْسِكُوا بِحِبَالِ
السِّلْمِ وَاعْتَصِمُوا
قَدْ غَرَّتِ الْحَرْبُ مَنْ قَدْ كَانَ قَبْلَكُمُ مِنَ الْقُرُونِ وَقَدْ
بَادَتْ بِهَا الْأُمَمُ
فَأَنْصِفُوا
قَوْمَكُمْ لَا تَهْلِكُوا بَذَخًا فَرُبَّ ذِي بَذَخٍ زَلَّتْ بِهِ الْقَدَمُ
قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ
خُرُوجُ الْحُسَيْنِ لِأَمْرٍ تَكْرَهُهُ، وَلَسْتُ أَدَعُ النَّصِيحَةَ لَهُ فِي
كُلِّ مَا يَجْمَعُ اللَّهُ بِهِ الْأُلْفَةَ وَتُطْفَى بِهِ النَّائِرَةُ.
وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْحُسَيْنِ، فَكَلَّمَهُ لَيْلًا
طَوِيلًا، وَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَهْلِكَ غَدًا بِحَالِ
مَضِيعَةٍ، لَا تَأْتِ الْعِرَاقَ، وَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَأَقِمْ
حَتَّى يَنْقَضِيَ الْمَوْسِمُ، وَتَلْقَى النَّاسَ وَتَعْلَمَ مَا يُصْدِرُونَ،
ثُمَّ تَرَى رَأْيَكَ. وَذَلِكَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ. فَأَبَى الْحُسَيْنُ
إِلَّا أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ
إِنِّي لَأَظُنُّكَ سَتُقْتَلُ غَدًا بَيْنَ نِسَائِكَ وَبَنَاتِكَ، كَمَا قُتِلَ
عُثْمَانُ بَيْنَ نِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخَافُ أَنْ تَكُونَ
الَّذِي يُقَادُ بِهِ عُثْمَانُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
فَقَالَ: أَبَا الْعَبَّاسِ، إِنَّكَ شَيْخٌ قَدْ كَبِرْتَ. فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ يُزْرِيَ ذَلِكَ بِي أَوْ بِكَ لَنَشِبْتُ يَدِي فِي
رَأْسِكَ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّا إِذَا تَنَاصَيْنَا أَقَمْتَ لَفَعَلْتُ،
وَلَكِنْ لَا إِخَالُ ذَلِكَ نَافِعِي. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: لَأَنْ أُقْتَلَ
بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تُسْتَحَلَّ بِي. يَعْنِي
مَكَّةَ، قَالَ: فَبَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: أَقْرَرْتَ عَيْنَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ الَّذِي سَلَا نَفْسِي عَنْهُ. قَالَ: ثُمَّ
خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ
عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: يا ابْنَ الزُّبَيْرِ، قَدْ أَتَى مَا
أَحْبَبْتَ، قَرَّتْ عَيْنُكَ، هَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَخْرُجُ
وَيَتْرُكُكَ
وَالْحِجَازَ. ثُمَّ قَالَ:
يَا لَكِ مِنْ قُنْبَرَةٍ بِمَعْمَرِ خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
قَالَ: وَبَعَثَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ مَنْ خَفَّ
مَعَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَنِسَاءٌ
وَصِبْيَانٌ مِنْ إِخْوَانِهِ وَبَنَاتِهِ وَنِسَائِهِمْ، وَتَبِعَهُمْ مُحَمَّدُ
ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ فَأَدْرَكَ حُسَيْنًا بِمَكَّةَ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ
الْخُرُوجَ لَيْسَ لَهُ بِرَأْيِ يَوْمِهِ هَذَا، فَأَبَى الْحُسَيْنُ أَنْ
يَقْبَلَ، فَحَبَسَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَدَهُ، فَلَمْ يَبْعَثْ
مَعَهُ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى وَجَدَ الْحُسَيْنُ فِي نَفْسِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ،
وَقَالَ: تَرْغَبُ بِوَلَدِكَ عَنْ مَوْضِعٍ أُصَابُ فِيهِ ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ:
وَمَا حَاجَتِي أَنْ تُصَابَ، وَيُصَابُونَ مَعَكَ ؟ وَإِنْ كَانَتْ مُصِيبَتُكَ
أَعْظَمَ عِنْدَنَا مِنْهُمْ. قَالُوا: وَبَعَثَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى
الْحُسَيْنِ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ مُتَوَجِّهًا
إِلَى الْعِرَاقِ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَسِتِّينَ شَيْخًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ
وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتِّينَ.
فَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ
الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكَ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ ابْنُ
فَاطِمَةَ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَبِاللَّهِ مَا أَحَدٌ يُسَلِّمُهُ اللَّهُ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنَ
الْحُسَيْنِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُهَيِّجَ عَلَى نَفْسِكَ مَا لَا يَسُدُّهُ شَيْءٌ،
وَلَا تَنْسَاهُ الْعَامَّةُ وَلَا تَدَعُ ذِكْرَهُ، وَالسَّلَامُ. وَكَتَبَ
إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ تَوَجَّهَ
إِلَيْكَ الْحُسَيْنُ، وَفِي مِثْلِهَا تُعْتَقُ أَوْ تَكُونُ عَبْدًا تُسْتَرَقُّ
كَمَا
تُسْتَرَقُّ الْعَبِيدُ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، أَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ
حُسَيْنًا قَدْ سَارَ إِلَى الْكُوفَةِ وَقَدِ ابْتُلِيَ بِهِ زَمَانُكَ مِنْ
بَيْنِ الْأَزْمَانِ، وَبَلَدُكَ مِنْ بَيْنِ الْبُلْدَانِ، وَابْتُلِيتَ بِهِ
أَنْتَ مِنْ بَيْنِ الْعُمَّالِ، وَعِنْدَهَا تُعْتَقُ أَوْ تَعُودُ عَبْدًا كَمَا
تُعْتَبَدُ الْعَبِيدُ. فَقَتَلَهُ ابْنُ زِيَادٍ، وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ.
قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ إِلَى الشَّامِ،
كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ يَزِيدَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ:
قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْعِرَاقِ. فَضَعِ
الْمَنَاظِرَ وَالْمَسَالِحَ، وَاحْتَرِسْ وَاحْبِسْ عَلَى الظِّنَّةِ وَخُذْ
عَلَى التُّهْمَةِ، غَيْرَ أَنْ لَا تَقْتُلَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَكَ، وَاكْتُبْ
إِلَيَّ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ مِنْ خَبَرٍ، وَالسَّلَامُ.
قَالَ الزُّبَيْرُ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ: خَرَجَ
الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا مَرَّ بِبَابِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ قَالَ:
لَا
ذَعَرْتُ السَّوَامَ فِي فَلَقِ الصُّبْ حِ مُغِيرًا وَلَا دُعِيتُ يَزِيدَا
يَوْمَ أُعْطَى مَخَافَةَ الْمَوْتِ ضَيْمًا وَالْمَنَايَا تَرْصُدْنَنِي أَنْ
أَحِيدَا
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: قَالَ أَبُو جَنَابٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي حَيَّةَ، عَنْ
عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسَدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمٍ
وَالْمَذْرِيِّ بْنِ الْمُشْمَعِلِّ الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا: خَرَجْنَا
حَاجَّيْنَ مِنَ الْكُوفَةِ حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَدَخَلْنَا يَوْمَ
التَّرْوِيَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالْحُسَيْنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
قَائِمَيْنِ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى فِيمَا بَيْنَ الْحِجْرِ وَالْبَابِ،
فَسَمِعْنَا ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِلْحُسَيْنِ: إِنْ شِئْتَ أَنْ
تُقِيمَ أَقَمْتَ فَوُلِّيتَ هَذَا الْأَمْرَ، فَآزَرْنَاكَ وَسَاعَدْنَاكَ
وَنَصَحْنَا لَكَ وَبَايَعْنَاكَ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي
أَنَّ لَهَا كَبْشًا يَسْتَحِلُّ حُرْمَتَهَا، فَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَنَا
ذَلِكَ الْكَبْشَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَأَقِمْ إِنْ شِئْتَ
وَوَلِّنِي أَنَا الْأَمْرَ فَتُطَاعَ وَلَا تُعْصَى. فَقَالَ: وَمَا أُرِيدُ
هَذَا أَيْضًا. قَالَا: ثُمَّ إِنَّهُمَا أَخْفَيَا كَلَامَهُمَا دُونَنَا، فَمَا
زَالَا يَتَنَاجَيَانِ، حَتَّى سَمِعْنَا دُعَاءَ النَّاسِ رَائِحِينَ
مُتَوَجِّهِينَ إِلَى مِنًى عِنْدَ الظَّهِيرَةِ. قَالَا: فَطَافَ الْحُسَيْنُ
بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصَّرَ مِنْ شِعْرِهِ، وَحَلَّ مِنْ
عُمْرَتِهِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَتَوَجَّهْنَا نَحْنُ مَعَ
النَّاسِ إِلَى مِنًى.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ الْوَالِبِيُّ، عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ اعْتَرَضَهُ
رُسُلُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - يَعْنِي نَائِبَ مَكَّةَ -
عَلَيْهِمْ أَخُوهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالُوا لَهُ: انْصَرِفْ، أَيْنَ
تَذْهَبُ ؟
فَأَبَى
عَلَيْهِمْ وَمَضَى، وَتَدَافَعَ الْفَرِيقَانِ فَاضْطَرَبُوا بِالسِّيَاطِ، ثُمَّ
إِنَّ حُسَيْنًا وَأَصْحَابَهُ امْتَنَعُوا مِنْهُمُ امْتِنَاعًا قَوِيًّا،
وَمَضَى الْحُسَيْنُ عَلَى وَجْهِهِ، فَنَادَاهُ: يَا حُسَيْنُ، أَلَا تَتَّقِي
اللَّهَ ! تَخْرُجُ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَتُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؟ !
قَالَ: فَتَأَوَّلَ الْحُسَيْنُ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ
عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا
تَعْمَلُونَ [ يُونُسَ: 41 ]. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ مَرَّ
بِالتَّنْعِيمِ، فَلَقِيَ بِهَا عِيرًا قَدْ بَعَثَ بِهَا بَحِيرُ بْنُ رَيْسَانَ
الْحِمْيَرِيُّ نَائِبُ الْيَمَنِ، قَدْ أَرْسَلَهَا مِنَ الْيَمَنِ إِلَى يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَلَيْهَا وَرْسٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، فَأَخَذَهَا الْحُسَيْنُ
وَانْطَلَقَ بِهَا، وَاسْتَأْجَرَ أَصْحَابَ الْجِمَالِ عَلَيْهَا إِلَى
الْكُوفَةِ وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ أُجْرَتَهُمْ.
ثُمَّ سَاقَ أَبُو مِخْنَفٍ بِإِسْنَادِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَرَزْدَقَ لَقِيَ
الْحُسَيْنَ فِي الطَّرِيقِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَعْطَاكَ اللَّهُ
سُؤْلَكَ وَأَمَلَكَ فِيمَا تُحِبُّ. فَسَأَلَهُ الْحُسَيْنُ عَنْ أَمْرِ النَّاسِ
وَمَا وَرَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: قُلُوبُ النَّاسِ مَعَكَ، وَسُيُوفُهُمْ مَعَ
بَنِي أُمَيَّةَ، وَالْقَضَاءُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا
يَشَاءُ. فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ،
وَكُلَّ يَوْمٍ رَبُّنَا فِي شَأْنٍ، إِنْ نَزَلَ الْقَضَاءُ بِمَا نُحِبُّ
فَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى نَعْمَائِهِ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ عَلَى أَدَاءِ
الشُّكْرِ، وَإِنْ حَالَ الْقَضَاءُ دُونَ الرَّجَاءِ، فَلَمْ يَعْتَدِ مَنْ كَانَ
الْحَقُّ نِيَّتَهُ، وَالتَّقْوَى سَرِيرَتَهُ، ثُمَّ حَرَّكَ الْحُسَيْنُ
رَاحِلَتَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ. ثُمَّ افْتَرَقَا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ لَبَطَةَ
بْنِ الْفَرَزْدَقِ، عَنْ
أَبِيهِ
قَالَ: حَجَجْتُ بِأُمِّي، فَبَيْنَمَا أَنَا أَسُوقُ بَعِيرَهَا حِينَ دَخَلْتُ
الْحَرَمَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ سَنَةَ سِتِّينَ، إِذْ لَقِيتُ
الْحُسَيْنَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ مَعَهُ أَسْيَافُهُ وَتِرَاسُهُ، فَقُلْتُ
لَهُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، مَا أَعْجَلَكَ عَنِ الْحَجِّ
؟ فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَعْجَلْ لَأُخِذْتُ. ثُمَّ سَأَلَنِي: مِمَّنْ أَنْتَ ؟
فَقُلْتُ: امْرُؤٌ مِنَ الْعِرَاقِ. فَسَأَلَنِي عَنِ النَّاسِ. فَذَكَرَ نَحْوَ
مَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرَزْدَقُ اجْتِمَاعَهُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،
وَقَوْلَهُ لَهُ: إِنَّ الْحُسَيْنَ لَا يَحِيكُ فِيهِ السِّلَاحُ. فَنَدِمَ
الْفَرَزْدَقُ أَنْ لَا يَكُونُ تَابَعَ الْحُسَيْنَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُهُ،
جَعَلَ يَتَذَكَّرُ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: لَا يَحِيكُ فِيهِ
السِّلَاحُ. وَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُ، إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ السِّلَاحَ لَا
يَضُرُّهُ فِي آخِرَتِهِ. وَكَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ. ذَكَرَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ،
وَقِيلَ: أَرَادَ الْهَزْلَ بِالْفَرَزْدَقِ. قَالُوا: ثُمَّ سَارَ الْحُسَيْنُ
لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ حَتَّى نَزَلَ ذَاتَ عِرْقٍ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ الْوَالِبِيُّ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا خَرَجْنَا مِنْ مَكَّةَ
كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى الْحُسَيْنِ مَعَ ابْنَيْهِ عَوْنٍ وَمُحَمَّدٍ:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَمَا انْصَرَفْتَ حِينَ تَنْظُرَ
فِي كِتَابِي هَذَا، فَإِنِّي مُشْفِقٌ عَلَيْكَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي
تَوَجَّهْتَ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَلَاكُكَ وَاسْتِئْصَالُ أَهْلِ بَيْتِكَ،
إِنْ هَلَكْتَ الْيَوْمَ طَفِئَ نُورُ الْأَرْضِ، فَإِنَّكَ عَلَمُ
الْمُهْتَدِينَ، وَرَجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا تَعْجَلْ بِالسَّيْرِ، فَإِنِّي
فِي إِثْرِ كِتَابِي، وَالسَّلَامُ. ثُمَّ نَهَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ
إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ نَائِبِ مَكَّةَ، فَقَالَ: اكْتُبْ إِلَى الْحُسَيْنِ
كِتَابًا تَجْعَلُ لَهُ فِيهِ الْأَمَانَ، وَتُمَنِّيهِ فِيهِ الْبِرَّ
وَالصِّلَةَ، وَتُوَثِّقُ لَهُ فِي كِتَابِكَ، وَتَسْأَلُهُ الرُّجُوعَ ; عَلَّهُ
يَطْمَئِنُّ إِلَى ذَلِكَ فَيَرْجِعَ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: اكْتُبْ عَنِّي مَا
شِئْتَ وَأْتِنِي بِهِ حَتَّى أَخْتِمَهُ. فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ
عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ مَا أَرَادَ، ثُمَّ جَاءَ بِالْكِتَابِ إِلَى عَمْرٍو،
فَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ، وَقَالَ لَهُ: ابْعَثْ مَعِي أَخَاكَ. فَبَعَثَ مَعَهُ
أَخَاهُ يَحْيَى، فَانْصَرَفَا حَتَّى لَحِقَا الْحُسَيْنَ، فَقَرَآ عَلَيْهِ
الْكِتَابَ، فَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ،
وَأَنَا مَاضٍ لَهُ. فَقَالَا: مَا تِلْكَ الرُّؤْيَا ؟ فَقَالَ: مَا حَدَّثْتُ
بِهَا أَحَدًا وَلَا أُحَدِّثُهُ حَتَّى أَلْقَى رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّ الْحُسَيْنَ
أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْحَاجِرَ مِنْ بَطْنِ الرُّمَّةِ، بَعَثَ قَيْسَ
بْنَ مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيَّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَتَبَ مَعَهُ
إِلَيْهِمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ إِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ كِتَابَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ جَاءَنِي يُخْبِرُنِي
فِيهِ بِحُسْنِ رَأْيِكُمْ، وَاجْتِمَاعِ مَلَئِكُمْ عَلَى نَصْرِنَا، وَالطَّلَبِ
بِحَقِّنَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُحْسِنَ لَنَا الصَّنِيعَ، وَأَنْ يُثِيبَكُمْ
عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ الْأَجْرِ، وَقَدْ شَخَصْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ،
فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَسُولِي فَاكْمِشُوا أَمْرَكُمْ وَجِدُّوا فَإِنِّي
قَادِمٌ عَلَيْكُمْ فِي أَيَّامِي هَذِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
قَالَ: وَكَانَ كِتَابُ مُسْلِمٍ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ بِسَبْعٍ
وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَمَضْمُونُهُ:
أَمَّا
بَعْدُ فَإِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ
الْكُوفَةِ مَعَكَ، فَأَقْبِلْ حِينَ تَقْرَأُ كِتَابِي هَذَا، وَالسَّلَامُ
عَلَيْكَ. قَالَ: وَأَقْبَلَ قَيْسُ بْنُ مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيُّ إِلَى
الْكُوفَةِ بِكِتَابِ الْحُسَيْنِ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْقَادِسِيَّةِ
أَخَذَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: اصْعَدْ إِلَى أَعْلَى الْقَصْرِ فَسُبَّ
الْكَذَّابَ ابْنَ الْكَذَّابِ. فَصَعِدَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ خَيْرُ
خَلْقِ اللَّهِ، ابْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ، وَقَدْ فَارَقْتُهُ بِالْحَاجِزِ مِنْ
بَطْنِ الرُّمَّةِ، فَأَجِيبُوهُ. ثُمَّ لَعَنَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ
وَأَبَاهُ، وَاسْتَغْفَرَ لِعَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ. فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ،
فَأُلْقِيَ مِنْ رَأَسِ الْقَصْرِ فَتَقَطَّعَ، وَيُقَالُ: بَلْ تَكَسَّرَتْ
عِظَامُهُ وَبَقِيَ فِيهِ بَقِيَّةُ رَمَقٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ عُمَيْرٍ اللَّخْمِيُّ فَذَبَحَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ إِرَاحَتَهُ
مِنَ الْأَلَمِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ رَجُلٌ يُشْبِهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَيْرٍ
وَلَيْسَ بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الَّذِي قَدِمَ بِكِتَابِ الْحُسَيْنِ
إِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُقْطُرٍ أَخُو الْحُسَيْنِ مِنَ الرَّضَاعَةِ،
فَأُلْقِيَ مِنْ أَعْلَى الْقَصْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَقْبَلَ
الْحُسَيْنُ يَسِيرُ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَلَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِمَّا وَقَعَ
مِنَ الْأَخْبَارِ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ
مُصْعَبٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: وَكَانَ الْحُسَيْنُ لَا يَمُرُّ بِمَاءٍ مِنْ
مِيَاهِ الْعَرَبِ إِلَّا اتَّبَعُوهُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُلَيْمٍ وَالْمَذْرِيِّ بْنِ الْمُشْمَعِلِّ الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا: لَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا لَمْ يَكُنْ لَنَا هِمَّةٌ إِلَّا اللَّحَاقُ بِالْحُسَيْنِ - فَذَكَرَا أَنَّهُمَا اتَّبَعَاهُ - فَأَدْرَكْنَاهُ وَقَدْ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَهَمَّ الْحُسَيْنُ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَيَسْأَلَهُ فَتَرَكَ ذَلِكَ، فَجِئْنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَمْ أَخْرُجْ مِنَ الْكُوفَةِ حَتَّى قُتِلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ وَهَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ، وَرَأَيْتُهُمَا يَجُرَّانِ بِأَرْجُلِهِمَا فِي السُّوقِ. قَالَا: فَلَحِقْنَا الْحُسَيْنَ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. مِرَارًا. فَقُلْنَا لَهُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمَا. فَقُلْنَا: خَارَ اللَّهُ لَكَ. وَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَاللَّهِ مَا أَنْتَ مِثْلُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَلَوْ قَدِمْتَ الْكُوفَةَ لَكَانَ النَّاسُ إِلَيْكَ أَسْرَعَ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ بِمَقْتَلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَثَبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا، أَوْ نَذُوقَ مَا ذَاقَ أَخُونَا. فَسَارَ الْحُسَيْنُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِزَرْوَدَ بَلَغَهُ خَبَرُ مَقْتَلِ الَّذِي بَعَثَهُ بِكِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَوَصْلَ إِلَى حَاجِرٍ، فَقَالَ: قَدْ خَذَلَتْنَا شِيعَتُنَا، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمُ الِانْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنَّا ذِمَامٌ. قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ أَيَادِيَ سَبَا يَمِينًا وَشِمَالًا، حَتَّى بَقِيَ فِي أَصْحَابِهِ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ إِنَّمَا اتَّبَعُوهُ لِأَنَّهُ يَأْتِي بَلَدًا قَدِ اسْتَقَامَتْ لَهُ طَاعَةُ أَهْلِهَا، فَكَرِهَ أَنْ يَسِيرُوا مَعَهُ إِلَّا وَهُمْ يَعْلَمُونَ عَلَامَ يُقْدِمُونَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا بَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرَ لَمْ يَصْحَبْهُ إِلَّا مَنْ يُرِيدُ مُوَاسَاتَهُ فِي الْمَوْتِ مَعَهُ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ السَّحَرِ أَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَسْتَقُوا
مِنَ
الْمَاءِ فَأَكْثَرُوا مِنْهُ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى مَرَّ بِبَطْنِ الْعَقَبَةِ،
فَنَزَلَ بِهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ
شَافَهَ الْحُسَيْنَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبْنِيَةً مَضْرُوبَةً بِفَلَاةٍ مِنَ
الْأَرْضِ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذِهِ ؟ قَالُوا: هَذِهِ لِحُسَيْنٍ. قَالَ:
فَأَتَيْتُهُ فَإِذَا شَيْخٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالدُّمُوعُ تَسِيلُ عَلَى
خَدَّيْهِ وَلِحْيَتِهِ. قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَابْنَ بِنْتِ رَسُولِ
اللَّهِ ! مَا أَنْزَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ وَالْفَلَاةَ الَّتِي لَيْسَ بِهَا
أَحَدٌ ؟ فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَيَّ وَلَا أَرَاهُمْ إِلَّا
قَاتِلِيَّ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يَدَعُوَا لِلَّهِ حُرْمَةً إِلَّا
انْتَهَكُوهَا، فَيُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُذِلُّهُمْ حَتَّى يَكُونُوا
أَذَلَّ مِنْ فَرَمِ الْأُمَّةِ. يَعْنِي مِقْنَعَتَهَا.
وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَيُعْتَدَنَّ
عَلَيَّ كَمَا اعْتَدَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي السَّبْتِ.
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ
الضُّبَعِيِّ قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَا يَدْعُونِي حَتَّى
يَسْتَخْرِجُوا هَذِهِ الْعَلَقَةَ مِنْ جَوْفِي، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ سَلَّطَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُذِلُّهُمْ حَتَّى يَكُونُوا أَذَلَّ مِنْ فَرَمِ
الْأَمَةِ. فَقُتِلَ بِنِينَوَى يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا
سُفْيَانُ،
ثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: كُنْتُ فِي
الْجَيْشِ الَّذِي بَعَثَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى الْحُسَيْنِ، وكَانُوا أَرْبَعَةَ
آلَافٍ يُرِيدُونَ قِتَالَ الدَّيْلَمِ، فَصَرَفَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى
الْحُسَيْنِ، فَلَقِيتُ حُسَيْنًا، فَرَأَيْتُهُ أَسْوَدَ الرَّأْسِ
وَاللِّحْيَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ.
فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. وَكَانَتْ فِيهِ غُنَّةٌ، فَقَالَ: لَقَدْ
بَاتَتْ مِنْكُمْ فِينَا سَلَّةٌ مُنْذُ اللَّيْلَةِ. يَعْنِي: سَرَقٌ. قَالَ
شِهَابٌ: فَحَدَّثْتُ بِهِ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ فَأَعْجَبَهُ، وَكَانَتْ فِيهِ
غُنَّةٌ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَهِيَ فِي الْحُسَيْنِيَّيْنِ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَاهِلِيِّ
قَالَ: لَمَّا صَبَّحَتِ الْخَيْلُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَفَعَ يَدَيْهِ
فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ وَرَجَائِي فِي كُلِّ
شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ، فَكَمْ مِنْ
هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ
الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، فَأَنْزَلْتُهُ بِكَ وَشَكَوْتُهُ
إِلَيْكَ، رَغْبَةً فِيكَ إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفَتْهُ
وَكَفَيْتَنِيهِ، فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ،
وَمُنْتَهَى كُلِّ غَايَةٍ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ بَعْضِ مَشْيَخَتِهِ قَالَ: قَالَ
الْحُسَيْنُ حِينَ نَزَلُوا كَرْبَلَاءَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الْأَرْضِ ؟ قَالُوا:
كَرْبَلَاءُ. قَالَ: كَرْبٌ وَبَلَاءٌ. وَبَعَثَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ
عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ يُقَاتِلُهُمْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا عُمَرُ ; اخْتَرْ مِنِّي
إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ; إِمَّا أَنْ تَتْرُكَنِي أَرْجِعُ كَمَا جِئْتُ ;
فَإِنْ أَبَيْتَ هَذِهِ فَسَيِّرْنِي إِلَى يَزِيدَ فَأَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ
فَيَحْكُمَ
فِيَّ مَا رَأَى، فَإِنْ أَبَيْتَ هَذِهِ فَسَيِّرْنِي إِلَى التُّرْكِ
فَأُقَاتِلَهُمْ حَتَّى أَمُوتَ. فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ بِذَلِكَ،
فَهَمَّ أَنْ يُسَيِّرَهُ إِلَى يَزِيدَ، فَقَالَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ:
لَا، إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ
الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ. وَأَبْطَأَ عُمَرُ عَنْ قِتَالِهِ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ لَهُ:
إِنْ تَقَدَّمَ عُمَرُ فَقَاتَلَ، وَإِلَّا فَاقْتُلْهُ وَكُنْ أَنْتَ مَكَانَهُ.
وَكَانَ مَعَ عُمَرَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالُوا
لَهُمْ: يَعْرِضُ عَلَيْكُمُ ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهَا شَيْئًا ؟ !
فَتَحَوَّلُوا مَعَ الْحُسَيْنِ فَقَاتَلُوا مَعَهُ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ
الْعَوَّامِ، عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ ذَاكَ - يَعْنِي مَقْتَلَ
الْحُسَيْنِ - قَالَ: فَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ قَالَ: فَرَأَيْتُ
الْحُسَيْنَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ بَرُودٌ، وَرَمَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَمْرُو
بْنُ خَالِدٍ الطُّهَوِيُّ. بِسَهْمٍ، فَنَظَرْتُ إِلَى السَّهْمِ مُعَلَّقًا
بِجُبَّتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ،
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، ثَنَا
حُصَيْنٌ، أَنَّ الْحُسَيْنَ بَعَثَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ: إِنَّ مَعَكَ
مِائَةَ أَلْفٍ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ. فَذَكَرَ قِصَّةَ
مَقْتَلِ مُسْلِمٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ حُصَيْنٌ: فَحَدَّثَنِي هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ، أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ أَمَرَ
بِأَخْذِ مَا بَيْنَ وَاقِصَةَ إِلَى طَرِيقِ الشَّامِ إِلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ،
فَلَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَلِجُ وَلَا أَحَدًا يَخْرُجُ،
وَأَقْبَلَ
الْحُسَيْنُ وَلَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ حَتَّى أَتَى الْأَعْرَابَ فَسَأَلَهُمْ،
عَنِ النَّاسِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْرِي، غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ
أَنْ تَلِجَ وَلَا تَخْرُجَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ يَسِيرُ نَحْوَ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، فَتَلَقَّتْهُ الْخُيُولُ بِكَرْبَلَاءَ، فَنَزَلَ يُنَاشِدُهُمُ
اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ. قَالَ: وَكَانَ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ عُمَرَ
بْنَ سَعْدٍ وَشَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ وَحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ،
فَنَاشَدَهُمُ الْحُسَيْنُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ أَنْ يُسَيِّرُوهُ إِلَى
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ، فَيَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ. فَقَالُوا لَهُ: لَا
; إِلَّا عَلَى حُكْمِ ابْنِ زِيَادٍ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَعَثَهُمْ
إِلَيْهِ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ الْحَنْظَلِيُّ ثُمَّ النَّهْشَلِيُّ عَلَى
خَيْلٍ، فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُ الْحُسَيْنُ قَالَ لَهُمْ: أَلَا تَقْبَلُونَ
مِنْ هَؤُلَاءِ مَا يَعْرِضُونَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهِ لَوْ سَأَلَكُمْ هَذَا
التُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ مَا حَلَّ لَكُمْ أَنْ تَرُدُّوهُمْ. فَأَبَوْا إِلَّا
عَلَى حُكْمِ ابْنِ زِيَادٍ، فَضَرَبَ الْحُرُّ وَجْهَ فَرَسِهِ، وَانْطَلَقَ
إِلَى الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، فَظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ
لِيُقَاتِلَهُمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ قَلَبَ تُرْسَهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ،
ثُمَّ كَرَّ عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ
رَجُلَيْنِ ثُمَّ قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَذُكِرَ أَنَّ زُهَيْرَ بْنَ الْقَيْنِ الْبَجَلِيَّ لَقِيَ الْحُسَيْنَ، وَكَانَ
حَاجًّا، فَأَقْبَلَ مَعَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ أَبِي بَحْرِيَّةَ
الْمُرَادِيُّ وَرَجُلَانِ آخَرَانِ ; وَهَمَا عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ وَمَعْنٌ
السُّلَمِيُّ، قَالَ الْحَصِينُ: وَقَدْ رَأَيْتُهُمَا. قَالَ: وَأَقْبَلَ
الْحُسَيْنُ يُكَلِّمُ مَنْ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ
مِنْ بَرُودٍ، فَلَمَّا كَلَّمَهُمُ انْصَرَفَ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي
تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ: عَمْرٌو الطُّهَوِيُّ. بِسَهْمٍ، فَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى
السَّهْمِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ
مُتَعَلِّقًا
بِجُبَّتِهِ، فَلَمَّا أَبَوْا عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى مَصَافِّهِ، وَإِنِّي
لَأَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ، فِيهِمْ لِصُلْبِ
عَلِيٍّ خَمْسَةٌ، وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ سِتَّةَ عَشَرَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي
سُلَيْمٍ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَابْنُ
عَمِّ ابْنِ زِيَادٍ.
وَقَالَ حُصَيْنٌ: وَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ قَالَ: إِنَّا
لَمُسْتَنْقَعُونَ فِي الْمَاءِ مَعَ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ
فَسَارَّهُ فَقَالَ لَهُ: قَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ ابْنُ زِيَادٍ جُوَيْرِيَةَ بْنَ
بَدْرٍ التَّمِيمِيَّ، وَأَمَرَهُ إِنْ لَمْ تُقَاتِلِ الْقَوْمَ أَنْ يَضْرِبَ
عُنُقَكَ. قَالَ: فَوَثَبَ إِلَى فَرَسِهِ فَرَكِبَهَا، ثُمَّ دَعَا بِسِلَاحِهِ
فَلَبِسَهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى فَرَسِهِ، وَنَهَضَ بِالنَّاسِ إِلَيْهِمْ
فَقَاتَلُوهُمْ، فَجِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَوُضِعَ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ بِقَضِيبِهِ فِي أَنْفِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ كَانَ شَمِطَ. قَالَ: وَجِيءَ بِنِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ
وَأَهْلِهِ. قَالَ: وَكَانَ أَحْسَنَ شَيْءٍ صَنَعَهُ أَنْ أَمَرَ لَهُمْ
بِمَنْزِلٍ فِي مَكَانٍ مُعْتَزِلٍ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ رِزْقًا، وَأَمَرَ
لَهُمْ بِنَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ. قَالَ: وَانْطَلَقَ غُلَامَانِ مِنْهُمْ لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - أَوِ ابْنِ ابْنِ جَعْفَرٍ - فَأَتَيَا رَجُلًا مِنْ طَيِّئَ
فَلَجَآ إِلَيْهِ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمَا، وَجَاءَ بِرَأْسَيْهِمَا حَتَّى
وَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ زِيَادٍ. قَالَ: فَهَمَّ ابْنُ زِيَادٍ بِضَرْبِ
عُنُقِهِ، وَأَمَرَ بِدَارِهِ فَهُدِمَتْ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي مَوْلًى
لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: لَمَّا أُتِيَ يَزِيدُ بِرَأْسِ
الْحُسَيْنِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَأَيْتُهُ يَبْكِي وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَحِمٌ مَا فَعَلَ هَذَا. يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ. قَالَ
الْحُصَيْنُ: وَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ لَبِثُوا
شَهْرَيْنِ
أَوْ ثَلَاثَةً، كَأَنَّمَا تُلَطَّخُ الْحَوَائِطُ بِالدِّمَاءِ سَاعَةَ تَطْلُعُ
الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ، وَكَانَ عَامِلَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ لِيَزِيدَ، وَقَدْ عَزَلَ يَزِيدُ
عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَوَلَّاهَا عَمْرَو بْنَ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا. وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ سَائِرٌ إِلَى
الْكُوفَةِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْعِرَاقِ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ
وَقَرَابَاتُهُ، فَقُتِلَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي صَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قُتِلَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا. وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ.
وَهَذِهِ صِفَةُ مَقْتَلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَأْخُوذَةً مِنْ كَلَامِ
أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، لَا كَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ التَّشَيُّعِ مِنَ
الْكَذِبِ الصَّرِيحِ وَالْبُهْتَانِ
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمٍ وَالْمَذْرِيِّ بْنِ الْمُشْمَعِلِّ
الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا: أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ، فَلَمَّا نَزَلَ شَرَافَ قَالَ
لِغِلْمَانِهِ وَقْتَ السَّحَرِ: اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ. فَأَكْثَرُوا ثُمَّ
سَارُوا إِلَى صَدْرِ النَّهَارِ، فَسَمِعَ الْحُسَيْنُ رَجُلًا يُكَبِّرُ فَقَالَ
لَهُ: مِمَّ كَبَّرْتَ ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّخْلَ. فَقَالَ لَهُ
الْأَسَدِيَّانِ: إِنَّ هَذَا الْمَكَانَ لَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْهُ نَخْلَةً.
فَقَالَ الْحُسَيْنُ: فَمَاذَا تَرَيَانِهِ رَأَى ؟
فَقَالَا:
هَذِهِ الْخَيْلُ قَدْ أَقْبَلَتْ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَمَا لَنَا مَلْجَأٌ
نَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنَا وَنَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ؟
فَقَالَا: بَلَى، ذُو حُسُمٍ. فَأَخَذَ ذَاتَ الْيَسَارِ إِلَى ذِي حُسُمٍ
فَنَزَلَ، وَأَمَرَ بِأَبْنِيَتِهِ فَضُرِبَتْ، وَجَاءَ الْقَوْمُ وَهُمْ أَلْفُ
فَارِسٍ مَعَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ التَّمِيمِيِّ، وَهُمْ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ
الَّذِينَ بَعَثَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ، حَتَّى وَقَفُوا فِي مُقَابَلَتِهِ فِي
نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، وَالْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ مُعْتَمُّونَ مُتَقَلِّدُونَ
سُيُوفَهُمْ، فَأَمَرَ الْحُسَيْنُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَرَوَّوْا مِنَ الْمَاءِ
وَيَسْقُوا خُيُولَهُمْ، وَأَنْ يَسْقُوا خُيُولَ أَعْدَائِهِمْ أَيْضًا.
وَرَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ قَالُوا: لَمَّا دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ أَمَرَ
الْحُسَيْنُ الْحَجَّاجَ بْنَ مَسْرُوقٍ الْجُعْفِيَّ فَأَذَّنَ، ثُمَّ خَرَجَ
الْحُسَيْنُ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ، فَخَطَبَ النَّاسَ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ فِي مَجِيئِهِ هَذَا إِلَى
هَاهُنَا، بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُمْ لَيْسَ
لَهُمْ إِمَامٌ، وَإِنْ أَنْتَ قَدِمْتَ عَلَيْنَا بَايَعْنَاكَ وَقَاتَلْنَا
مَعَكَ. ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَالَ الْحُسَيْنُ لِلْحُرِّ: تُرِيدُ أَنْ
تُصَلِّيَ بِأَصْحَابِكَ ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ صِلِّ أَنْتَ وَنُصَلِّي نَحْنُ
وَرَاءَكَ. فَصَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى خَيْمَتِهِ،
وَاجْتَمَعَ بِهِ أَصْحَابُهُ، وَانْصَرَفَ الْحُرُّ إِلَى جَيْشِهِ، وَكُلٌّ عَلَى
أُهْبَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ صَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ
انْصَرَفَ فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ وَخَلْعِ
مَنْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَدْعِيَاءِ السَّائِرِينَ بِالْجَوْرِ فِي الرَّعِيَّةِ.
فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: إِنَّا لَا نَدْرِي مَا هَذِهِ الْكُتُبُ، وَلَا مَنْ
كَتَبَهَا. فَأَحْضَرَ الْحُسَيْنُ خُرْجَيْنِ مَمْلُوءَيْنِ كُتُبًا، فَنَثَرَهَا
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَرَأَ مِنْهَا طَائِفَةً، فَقَالَ الْحُرُّ: لَسْنَا مِنْ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبُوا إِلَيْكَ، وَقَدْ أُمِرْنَا إِذَا نَحْنُ لَقِينَاكَ
أَنْ لَا نُفَارِقُكَ حَتَّى نُقْدِمَكَ عَلَى
عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ الْحُسَيْنُ: الْمَوْتُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِنْ
ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْنُ لِأَصْحَابِهِ: ارْكَبُوا، فَرَكِبُوا وَرَكِبَ
النِّسَاءُ، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ حَالَ الْقَوْمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الِانْصِرَافِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ لِلْحُرِّ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، مَا تُرِيدُ ؟
فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهَا لِي مِنَ
الْعَرَبِ وَهُوَ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا لَأَقْتَصَّنَّ
مِنْهُ، وَلَمَا تَرَكْتُ ذِكْرَ أُمِّهِ، وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذِكْرِ
أُمِّكَ إِلَّا بِأَحْسَنِ مَا نقَدْرُ عَلَيْهِ. وَتَقَاوَلَ الْقَوْمُ
وَتَرَاجَعُوا، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: إِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِقِتَالِكَ،
وَإِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ لَا أُفَارِقَكَ حَتَّى أُقْدِمَكَ الْكُوفَةَ عَلَى
ابْنِ زِيَادٍ، فَإِذَا أَبَيْتَ فَخُذْ طَرِيقًا لَا تُقْدِمُكَ الْكُوفَةَ وَلَا
تَرُدَّكَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَكْتُبُ أَنَا إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَاكْتُبْ
أَنْتَ إِلَى يَزِيدَ، أَوْ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ إِنْ شِئْتَ، فَلَعَلَّ اللَّهَ
أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ يَرْزُقُنِي فِيهِ الْعَافِيَةَ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى
بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ. قَالَ: فَأَخَذَ الْحُسَيْنُ يَسَارًا عَنْ طَرِيقِ
الْعُذَيْبِ وَالْقَادِسِيَّةِ، وَالْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ يُسَايِرُهُ وَهُوَ
يَقُولُ لَهُ: يَا حُسَيْنُ، إِنِّي أُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي
أَشْهَدُ لَئِنْ قَاتَلْتَ لَتُقْتَلَنَّ، وَلَئِنْ قُوتِلْتَ لَتَهْلِكَنَّ
فِيمَا أَرَى. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَفَبِالْمَوْتِ تُخَوِّفُنِي ؟ وَلَكِنْ
أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخُو الْأَوْسِ لِابْنِ عَمِّهِ وَقَدْ لَقِيَهُ وَهُوَ
يُرِيدُ نُصْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
أَيْنَ تَذْهَبُ فَإِنَّكَ مَقْتُولٌ ؟ فَقَالَ:
سَأَمْضِي وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ عَلَى الْفَتَى إِذَا مَا نَوَى حَقًّا
وَجَاهَدَ مُسْلِمًا وَآسَى الرِّجَالَ الصَّالِحِينَ بِنَفْسِهِ
وَفَارَقَ خَوْفًا أَنْ يَعِيشَ وَيُرْغَمَا
وَيُرْوَى عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى:
سَأَمْضِي
وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ عَلَى امْرِئٍ إِذَا مَا نَوَى حَقًّا وَلَمْ يُلْفَ
مُجْرِمًا
فَإِنْ مِتُّ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ عِشْتُ لَمْ أُلَمْ كَفَى بِكَ مَوْتًا أَنْ
تُذَلَّ وَتُرْغَمَا
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْحُرُّ مِنْهُ تَنَحَّى عَنْهُ وَجَعَلَ يَسِيرُ
بِأَصْحَابِهِ نَاحِيَةً عَنْهُ، فَانْتَهَوْا إِلَى عُذَيْبِ الْهِجَانَاتِ،
وَكَانَ بِهَا هَجَائِنُ النُّعْمَانِ تَرْعَى هُنَالِكَ، وَإِذَا سَفْرٌ
أَرْبَعَةٌ - أَيْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ - قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الْكُوفَةِ عَلَى
رَوَاحِلِهِمْ يَخُبُّونَ وَيَجْنُبُونَ فَرَسًا لِنَافِعِ بْنِ هِلَالٍ يُقَالُ
لَهُ: الْكَامِلُ. يَقْصِدُونَ الْحُسَيْنَ، وَدَلِيلُهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
الطِّرِمَّاحُ بْنُ عَدِيٍّ. رَاكِبٌ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا نَاقَتِي لَا تُذْعَرِي مِنْ زَجْرِي وَشَمِّرِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
بِخَيْرِ رُكْبَانٍ وَخَيْرِ سَفْرِ حَتَّى تَحَلِّي بِكَرِيمِ النَّجْرِ
الْمَاجِدِ الْحُرِّ رَحِيبِ الصَّدْرِ أَتَى بِهِ اللَّهُ لِخَيْرِ أَمْرِ
ثُمَّتَ أَبْقَاهُ بَقَاءَ الدَّهْرِ
فَأَرَادَ الْحُرُّ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحُسَيْنِ، فَمَنَعَهُ
الْحُسَيْنُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَلَصُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي
عَنِ النَّاسِ وَرَاءَكُمْ. فَقَالَ لَهُ مُجَمِّعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْعَائِذِيُّ أَحَدُ النَّفَرِ الْأَرْبَعَةِ: أَمَّا أَشْرَافُ النَّاسِ فَهُمْ
أَلْبٌ وَاحِدٌ عَلَيْكَ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ عَظُمَتْ رِشْوَتُهُمْ وَمُلِئَتْ
غَرَائِرُهُمْ، يُسْتَمَالُ بِذَلِكَ وُدُّهُمْ وَيُسْتَخْلَصُ بِهِ
نَصِيحَتُهُمْ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَأَفْئِدَتُهُمْ تَهْوَى إِلَيْكَ،
وَسُيُوفُهُمْ غَدًا مَشْهُورَةٌ عَلَيْكَ. قَالَ لَهُمْ: فَهَلْ لَكَمَ
بِرَسُولَيْ عِلْمٍ ؟ قَالُوا: وَمَنْ رَسُولُكَ ؟ قَالَ: قَيْسُ بْنُ
مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيُّ. قَالُوا: نَعَمْ، أَخَذَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَأَمَرَهُ ابْنُ زِيَادٍ أَنْ يَلْعَنَكَ وَيَلْعَنَ أَبَاكَ، فَصَلَّى عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ، وَلَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ وَأَبَاهُ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى نُصْرَتِكَ وَأَخْبَرَهُمْ بِقُدُومِكَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُلْقِيَ مِنْ رَأَسَ الْقَصْرِ فَمَاتَ. فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَا الْحُسَيْنِ، وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [ الْأَحْزَابِ: 23 ]. اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَنَازِلَهُمُ الْجَنَّةَ، وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي مُسْتَقَرٍّ مِنْ رَحْمَتِكَ، وَرَغَائِبِ مَذْخُورِ ثَوَابِكَ. ثُمَّ إِنَّ الطِّرِمَّاحَ بْنَ عَدِيٍّ قَالَ لِلْحُسَيْنِ: أَنْظُرُ فَمَا أَرَى مَعَكَ أَحَدًا إِلَّا هَذِهِ الشِّرْذِمَةَ الْيَسِيرَةَ، وَإِنِّي لَأَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُسَايِرُونَكَ أَكْفَاءً لِمَنْ مَعَكَ، فَكَيْفَ وَظَاهِرُ الْكُوفَةِ مَمْلُوءٌ بِالْخُيُولِ وَالْجُيُوشِ يُعْرَضُونَ لِيَقْصِدُوكَ ؟ ! فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ لَا تُقْدِمَ إِلَيْهِمْ شِبْرًا إِلَّا فَعَلْتَ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْزِلَ بَلَدًا يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِ حَتَّى تَرَى رَأْيَكَ، فَسِرْ مَعِي حَتَّى أُنْزِلَكَ مَنَاعَ جَبَلِنَا، وَهُوَ أَجَأٌ مَنَعَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ وَحِمْيَرَ، وَمِنَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَمِنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، وَاللَّهِ إِنْ دَخَلَ عَلَيْنَا ذُلٌّ قَطُّ ; فَأَسِيرُ مَعَكَ حَتَّى أُنْزِلَكَ الْقُرَيَّةَ، ثُمَّ نَبْعَثُ إِلَى الرِّجَالِ مِنْ أَجَأَ وَسَلْمَى مِنْ طَيِّئٍ، ثُمَّ أَقِمْ فِينَا مَا بَدَا لَكَ، فَأَنَا زَعِيمٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ طَائِيٍّ يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِأَسْيَافِهِمْ، وَاللَّهِ لَا يُوصَلُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. وَلَمْ يَرْجِعْ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَوَدَّعَهُ الطِّرِمَّاحُ، وَمَضَى الْحُسَيْنُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ أَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْمَاءِ كِفَايَتَهُمْ، ثُمَّ سَرَى، فَنَعَسَ فِي مَسِيرِهِ حَتَّى خَفَقَ بِرَأْسِهِ،
وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ فَارِسًا عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: الْقَوْمُ يَسِيرُونَ وَالْمَنَايَا تَسْرِي إِلَيْهِمْ. فَعَلِمْتُ أَنَّهَا أَنْفُسُنَا نُعِيَتْ إِلَيْنَا. فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَعَجَّلَ الرُّكُوبَ، ثُمَّ تَيَاسَرَ فِي مَسِيرِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِينَوَى، فَإِذَا رَاكِبٌ مُتَنَكِّبٌ قَوْسًا قَدْ قَدِمَ مِنَ الْكُوفَةِ فَسَلَّمَ عَلَى الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَدَفَعَ إِلَى الْحُرِّ كِتَابًا مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، وَمَضْمُونُهُ أَنْ يَعْدِلَ بِالْحُسَيْنِ فِي السَّيْرِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي غَيْرِ قَرْيَةٍ وَلَا حِصْنٍ، حَتَّى تَأْتِيَهُ رُسُلُهُ وَجُنُودُهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ قَدْ جَهَّزَهُ ابْنُ زِيَادٍ فِي هَؤُلَاءِ إِلَى الدَّيْلَمِ، وَخَيَّمَ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ الْحُسَيْنِ قَالَ لَهُ: سِرْ إِلَيْهِ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهُ فَسِرْ إِلَى الدَّيْلَمِ. فَاسْتَعْفَاهُ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: إِنْ شِئْتَ أَعْفَيْتُكَ وَعَزَلْتُكَ عَنْ وِلَايَةِ هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي قَدِ اسْتَنَبْتُكَ عَلَيْهَا. فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي. فَجَعَلَ لَا يَسْتَشِيرُ أَحَدًا إِلَّا نَهَاهُ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى الْحُسَيْنِ، حَتَّى قَالَ لَهُ ابْنُ أُخْتِهِ حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: إِيَّاكَ أَنْ تَسِيرَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَتَعْصِيَ رَبَّكَ وَتَقْطَعَ رَحِمَكَ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ تَخْرُجَ مِنْ سُلْطَانِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ. فَقَالَ: إِنِّي أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ تَهَدَّدَهُ وَتَوَعَّدَهُ بِالْعَزْلِ وَالْقَتْلِ، فَسَارَ إِلَى الْحُسَيْنِ، فَنَازَلَهُ فِي الْمَكَانَ الَّذِي ذَكَرْنَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ الرُّسُلَ: مَا الَّذِي أقْدَمَكَ ؟ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنْ أَقَدَمَ عَلَيْهِمْ، فَإِذْ قَدْ كَرِهُونِي فَأَنَا أَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ وَأَذَرُكُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ هَذَا قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُعَافِيَنِي اللَّهُ مِنْ حَرْبِهِ. وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ بِذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ أَنْ حُلْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ، كَمَا فُعِلَ بِالتَّقِيِّ الزَّكِيِّ
الْمَظْلُومِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَاعْرِضْ عَلَى الْحُسَيْنِ أَنْ يُبَايِعَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَأَيْنَا رَأْيَنَا. وَجَعَلَ أَصْحَابُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ يَمْنَعُونَ أَصْحَابَ الْحُسَيْنِ مِنَ الْمَاءِ وَعَلَى سَرِيَّةٍ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ، فَدَعَا عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بِالْعَطَشِ، فَمَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ. ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ طَلَبَ مِنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ، فَجَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا، فَتَكَلَّمَا طَوِيلًا حَتَّى ذَهَبَ هَزِيعٌ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا قَالَا، وَلَكِنْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَيَتْرُكَا الْعَسْكَرَيْنِ مُتَوَاقِفَيْنَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِذَنْ يَهْدِمُ ابْنُ زِيَادٍ دَارِي. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَنَا أَبْنِيهَا لَكَ. قَالَ: إِذَنْ يَأْخُذُ ضَيَاعِي. قَالَ: أَنَا أُعْطِيكَ خَيْرًا مِنْهَا مِنْ مَالِي بِالْحِجَازِ. قَالَ: فَتَكَرَّهَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سَأَلَ مِنْهُ إِمَّا أَنْ يَذْهَبَا إِلَى يَزِيدَ، أَوْ يَتْرُكَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْحِجَازِ، أَوْ يَذْهَبُ إِلَى بَعْضِ الثُّغُورِ فَيُقَاتِلَ التُّرْكَ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، قَدْ قَبِلْتُ. فَقَامَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِكَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ حُسَيْنًا وَعُمَرَ بْنَ سَعْدٍ يَجْلِسَانِ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ فَيَتَحَدَّثَانِ عَامَّةَ اللَّيْلِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُنْدَبٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: لَقَدْ صَحِبْتُ الْحُسَيْنَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى حِينِ قُتِلَ، وَاللَّهِ مَا مِنْ كَلِمَةٍ قَالَهَا فِي مَوْطِنٍ
إِلَّا
وَقَدْ سَمِعْتُهَا، وَإِنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ
فَيَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، وَلَا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ
وَلَكِنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَحَدَ أَمْرَيْنِ ; إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ
جَاءَ، وَإِمَّا أَنْ يَدَعُوهُ يَذْهَبُ فِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ حَتَّى
يَنْظُرَ مَا يَصِيرُ أَمْرُ النَّاسِ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ
بْنَ زِيَادٍ بَعَثَ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَإِنْ جَاءَ
حُسَيْنٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى حُكْمِي، وَإِلَّا فَمُرْ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ أَنْ
يُقَاتِلَهُمْ، فَإِنْ تَبَاطَأَ عَنْ ذَلِكَ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، ثُمَّ أَنْتَ
الْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ. وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ يَتَهَدَّدُهُ
عَلَى تَوَانِيهِ فِي قِتَالِ الْحُسَيْنِ، وَأَمَرَهُ إِنْ لَمْ يَجِئِ
الْحُسَيْنُ إِلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَإِنَّهُمْ مُشَاقُّونَ.
فَاسْتَأْمَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْمُحِلِّ لِبَنِي عَمَّتِهِ أُمِّ
الْبَنِينَ بِنْتِ حِزَامٍ مِنْ عَلِيٍّ ; وَهُمُ الْعَبَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ
وَجَعْفَرٌ وَعُثْمَانُ.
فَكَتَبَ لَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ كِتَابَ أَمَانٍ، وَبَعْثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي الْمُحِلِّ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: كُزْمَانُ. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ
ذَلِكَ قَالُوا: أَمَّا أَمَانُ ابْنِ سُمَيَّةَ فَلَا نُرِيدُهُ، وَإِنَّا
لَنَرْجُو أَمَانًا خَيْرًا مِنْ أَمَانِ ابْنِ سُمَيَّةَ. وَلَمَّا قَدِمَ شَمِرُ
بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِكِتَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
زِيَادٍ قَالَ لَهُ عُمَرُ: أَبْعَدَ اللَّهُ دَارَكَ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ،
وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ الَّذِي صَرَفْتَهُ عَنِ الَّذِي عَرَضْتُ عَلَيْهِ
مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي طَلَبَهَا الْحُسَيْنُ. فَقَالَ لَهُ شَمِرٌ:
فَأَخْبِرْنِي مَا أَنْتَ صَانِعٌ ; أَتُقَاتِلُهُمْ أَنْتَ أَوْ تَارِكِي
وَإِيَّاهُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا، وَلَا كَرَامَةَ لَكَ، أَنَا أَتَوَلَّى
ذَلِكَ. وَجَعَلَهُ عَلَى الرَّجَّالَةِ، وَنَهَضُوا إِلَيْهِمْ عَشِيَّةَ يَوْمِ
الْخَمِيسِ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَامَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ
فَقَالَ: أَيْنَ بَنُو أُخْتِنَا ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ
وَجَعْفَرٌ وَعُثْمَانُ بَنُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَنْتُمْ
آمِنُونَ. فَقَالُوا: إِنْ أَمَّنْتَنَا وَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمَانِكَ. قَالَ: ثُمَّ
نَادَى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فِي الْجَيْشِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي
وَأَبْشِرِي. فَرَكِبُوا وَزَحَفُوا
إِلَيْهِمْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِئِذٍ، هَذَا وَحُسَيْنٌ جَالِسٌ أَمَامَ خَيْمَتِهِ مُحْتَبِيًا بِسَيْفِهِ، وَنَعَسَ فَخَفَقَ بِرَأْسِهِ، وَسَمِعَتْ أُخْتُهُ زَيْنَبُ الضَّجَّةَ فَدَنَتْ مِنْهُ فَأَيْقَظَتْهُ، فَرَجَعَ بِرَأْسِهِ كَمَا هُوَ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لِي: " إِنَّكَ تَرُوحُ إِلَيْنَا ". فَلَطَمَتْ وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا وَيْلَتَا. فَقَالَ: لَيْسَ لَكِ الْوَيْلُ يَا أُخَيَّةُ، اسْكُنِي رَحِمَكِ الرَّحْمَنُ. وَقَالَ لَهُ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ: يَا أَخِي، جَاءَكَ الْقَوْمُ. فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ مَا بَدَا لَهُمْ. فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا فَقَالَ: مَا لَكُمْ ؟ فَقَالُوا: جَاءَ أَمْرُ الْأَمِيرِ ; إِمَّا أَنْ تَأْتُوا عَلَى حُكْمِهِ، وَإِمَّا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ. فَقَالَ: مَكَانَكُمْ حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَأُعْلِمَهُ. فَرَجَعَ وَوَقَفَ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلُوا يَتَرَاجَعُونَ الْقَوْلَ وَيُؤَنِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَقُولُ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ: بِئْسَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ، تُرِيدُونَ قَتْلَ ذُرِّيَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِيَارَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ ؟ ! ثُمَّ رَجَعَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ عِنْدِ الْحُسَيْنِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: يَقُولُ لَكُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: انْصَرِفُوا عَشِيَّتَكُمْ هَذِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ لِشَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ: مَا تَقَولُ ؟ فَقَالَ: أَنْتَ الْأَمِيرُ وَالرَّأْيُ رَأْيُكَ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ سَلَمَةَ الزُّبَيْدِيُّ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! وَاللَّهِ لَوْ سَأَلَكُمْ ذَلِكَ رَجُلٌ مَنَ الدَّيْلَمِ لَكَانَ يَنْبَغِي إِجَابَتُهُ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ: أَجِبْهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوكَ، فَلَعَمْرِي لَيُصَبِّحُنَّكَ بِالْقِتَالِ غُدْوَةً. وَهَكَذَا جَرَى الْأَمْرُ، فَإِنَّ الْحُسَيْنَ لَمَّا رَجَعَ الْعَبَّاسُ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَارْدُدْهُمْ هَذِهِ الْعَشِيَّةَ، لَعَلَّنَا نُصَلِّي لِرَبِّنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَنَدْعُوهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنِّي أَنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ لَهُ، وَتِلَاوَةَ كِتَابِهِ، وَالِاسْتِغْفَارَ وَالدُّعَاءَ. وَأَوْصَى الْحُسَيْنُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ إِلَى أَهْلِهِ، وَخَطَبَ
أَصْحَابَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ بَلِيغَةٍ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى أَهْلِهِ فِي لَيْلَتِهِ هَذِهِ، فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَنِي. فَقَالَ مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ: عَلَيَّ دَيْنٌ وَلِي عِيَالٌ. فَقَالَ: هَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا، لِيَأْخُذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، ثُمَّ اذْهَبُوا فِي بَسِيطِ الْأَرْضِ فِي سَوَادِ هَذَا اللَّيْلِ إِلَى بِلَادِكُمْ وَمَدَائِنِكُمْ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَنِي، فَلَوْ قَدْ أَصَابُونِي لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي، فَاذْهَبُوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ وَأَبْنَاؤُهُ وَبَنُو أَخِيهِ: لَا بَقَاءَ لَنَا بَعْدَكَ، وَلَا أَرَانَا اللَّهُ فِيكَ مَا نَكْرَهُ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا بَنِي عَقِيلٍ، حَسْبُكُمْ بِمُسْلِمٍ أَخِيكُمْ، اذْهَبُوا فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ. قَالُوا: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ ! أَنَّا تَرَكْنَا شَيْخَنَا وَسَيِّدَنَا وبَنِي عُمُومَتِنَا خَيْرَ الْأَعْمَامِ، لَمْ نَرْمِ مَعَهُمْ بِسَهْمٍ، وَلَمْ نَطْعَنْ مَعَهُمْ بِرُمْحٍ، وَلَمْ نَضْرِبْ مَعَهُمْ بِسَيْفٍ، رَغْبَةً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ؟ ! لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، وَلَكِنْ نَفْدِيكَ بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِينَا، وَنُقَاتِلُ مَعَكَ حَتَّى نَرِدَ مَوْرِدَكَ، فَقَبَّحَ اللَّهُ الْعَيْشَ بَعْدَكَ. وَقَالَ نَحْوَ ذَلِكَ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيُّ، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيُّ: وَاللَّهِ لَا نُخَلِّيكَ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّا قَدْ حَفِظْنَا غَيْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكَ، وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ أَنِّي أُقْتَلُ دُونَكَ أَلْفَ قَتْلَةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِذَلِكَ الْقَتْلَ عَنْكَ وَعَنْ أَنْفُسِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، لَأَحْبَبْتُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَ قَتْلَةٌ وَاحِدَةٌ. وَتَكَلَّمَ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ بِكَلَامٍ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُفَارِقُكَ، وَأَنْفُسُنَا الْفِدَاءُ لَكَ، نَقِيكَ بِنُحُورِنَا وَجِبَاهِنَا، وَأَيْدِينَا وَأَبْدَانِنَا، فَإِذَا نَحْنُ قُتِلْنَا وَفَّيْنَا وَقَضَيْنَا مَا عَلَيْنَا. وَقَالَ
أَخُوهُ
الْعَبَّاسُ: لَا أَرَانَا اللَّهُ يَوْمَ فَقْدِكَ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي
الْحَيَاةِ بَعْدَكَ. وَتَتَابَعَ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو الضَّحَّاكِ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ
تِلْكَ الْعَشِيَّةَ الَّتِي قُتِلَ أَبِي فِي صَبِيحَتِهَا، وَعَمَّتِي زَيْنَبُ
تُمَرِّضُنِي، إِذِ اعْتَزَلَ أَبِي فِي خِبَائِهِ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ،
وَعِنْدَهُ حُوَيٌّ مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَهُوَ يُعَالِجُ سَيْفَهُ
وَيُصْلِحُهُ، وَأَبِي يَقُولُ:
يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ كَمْ لَكَ بِالْإِشْرَاقِ وَالْأَصِيلِ
مِنْ صَاحِبٍ أَوْ طَالِبٍ قَتِيلِ وَالدَّهْرُ لَا يَقْنَعُ بِالْبَدِيلِ
وَإِنَّمَا الْأَمْرُ إِلَى الْجَلِيلِ وَكُلُّ حَيٍّ سَالِكُ السَّبِيلِ
قَالَ: فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَفَهِمْتُ مَا أَرَادَ،
فَخَنَقَتْنِي الْعَبْرَةُ، فَرَدَدْتُهَا وَلَزِمْتُ السُّكُوتَ، وَعَلِمْتُ
أَنَّ الْبَلَاءَ قَدْ نَزَلَ، وَأَمَّا عَمَّتِي فَقَامْتَ حَاسِرَةً حَتَّى
انْتَهَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: وَاثُكْلَاهُ، لَيْتَ الْمَوْتَ أَعْدَمَنِي
الْحَيَاةَ الْيَوْمَ، مَاتَتْ أُمِّي فَاطِمَةُ، وَعَلِيٌّ أَبِي، وَحَسَنٌ
أَخِي، يَا خَلِيفَةَ الْمَاضِي وَثِمَالَ الْبَاقِي. فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَقَالَ:
يَا أُخَيَّةُ، لَا يُذْهِبَنَّ حِلْمُكِ الشَّيْطَانُ. فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، اسْتُقْتِلْتَ. وَلَطَمَتْ وَجْهَهَا،
وَشَقَّتْ جَيْبَهَا، وَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا فَصَبَّ
عَلَى وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَقَالَ: يَا أُخَيَّةُ، اتَّقِي اللَّهَ وَتَعَزِّي
بِعَزَاءِ اللَّهِ، وَاعْلَمِي أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ يَمُوتُونَ، وَأَنَّ أَهْلَ
السَّمَاءِ لَا يَبْقَوْنَ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ
إِلَّا
وَجْهَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، وَيُمِيتُهُمْ بِقَهْرِهِ
وَعِزَّتِهِ، وَيُعِيدُهُمْ فَيَعُودُونَ، وَهُوَ فَرْدٌ وَحْدَهُ، وَاعْلَمِي
أَنَّ أَبِي خَيْرٌ مِنِّي وَأُمِّي خَيْرٌ مِنِّي، وَأَخِي خَيْرٌ مِنِّي، وَلِي
وَلَهُمْ وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. ثُمَّ حَرَّجَ عَلَيْهَا أَلَّا تَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا
بَعْدَ مَهْلِكِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا فَرَدَّهَا إِلَى عِنْدِي، ثُمَّ
خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَرِّبُوا بُيُوتَهُمْ بَعْضَهَا
مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى تَدْخُلَ الْأَطْنَابُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَأَلَّا يَجْعَلُوا
لِلْعَدُوِّ مَخْلَصًا إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَتَكُونُ
الْبُيُوتُ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ وَرَائِهِمْ.
وَبَاتَ الْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ طُولَ لَيْلِهِمْ يُصَلُّونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ
وَيَدْعُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ، وَخُيُولُ حَرَسِ عَدُوِّهِمْ تَدُورُ مِنْ
وَرَائِهِمْ، عَلَيْهَا عَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ الْأَحْمَسِيُّ وَالْحُسَيْنُ
يَقْرَأُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُهِينٌ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 179، 178 ].
فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ الْخَيْلِ الَّتِي كَانَتْ تَحْرُسُ مِنْ أَصْحَابِ
ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: نَحْنُ وَرَبِّ الْكَعْبةِ الطَّيِّبُونَ، مَيَّزَنَا
اللَّهُ مِنْكُمْ. قَالَ: فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ لِبُرَيْرِ بْنِ خُضَيْرٍ
أَتَدْرِي مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ: هَذَا أَبُو حَرْبٍ السَّبِيعِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَهْرٍ، وَكَانَ مِضْحَاكًا بَطَّالًا، وَكَانَ شَرِيفًا
شُجَاعًا فَاتِكًا، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ رُبَّمَا حَبَسَهُ فِي جِنَايَةٍ.
فَقَالَ لَهُ بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ:
يَا فَاسِقُ، مَتَى كُنْتَ مِنَ الطَّيِّبِينَ ؟ ! فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ، وَيْلَكَ ؟ ! قَالَ: أَنَا بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ. قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، هَلَكْتَ وَاللَّهِ، عَزَّ وَاللَّهِ عَلَيَّ يَا بُرَيْرُ قَتْلَكَ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا حَرْبٍ، هَلْ لَكَ أَنْ تَتُوبَ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكَ الْعِظَامِ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَحْنُ الطَّيِّبُونَ وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْخِبِيثُونَ. قَالَ: نَعَمْ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ. قَالَ: وَيْحَكَ ! أَفَلَا تَنْفَعُكَ مَعْرِفَتُكَ ؟ ! قَالَ: فَانْتَهَرَهُ عَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ الَّتِي تَحْرُسُنَا، فَانْصَرَفَ عَنَّا. قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ الصُّبْحَ بِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: يَوْمَ السَّبْتِ - وَكَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ - انْتَصَبَ لِلْقِتَالِ، وَصَلَّى الْحُسَيْنُ أَيْضًا بِأَصْحَابِهِ، وَهُمُ اثَنَانِ وَثَلَاثُونَ فَارِسًا وَأَرْبَعُونَ رَاجِلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَصَفَّهُمْ، فَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ زُهَيْرَ بْنَ الْقَيْنِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ حَبِيبَ بْنَ مُظَهِّرٍ، وَأَعْطَى رَايَتَهُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَاهُ، وَجَعَلُوا الْبُيُوتَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرَمِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ الْحُسَيْنُ مِنَ اللَّيْلِ، فَحَفَرُوا وَرَاءَ بُيُوتِهِمْ خَنْدَقًا، وَقَذَفُوا فِيهِ حَطَبًا وَخَشَبًا وَقَصَبًا، ثُمَّ أُضْرِمَتْ فِيهِ النَّارُ ; لِئَلَّا يَخْلُصَ أَحَدٌ إِلَى بُيُوتِهِمْ مِنْ وَرَائِهَا. وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ - وَاسْمُ ذِي الْجَوْشَنِ شُرَحْبِيلُ بْنُ الْأَعْوَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ الضِّبَابُ بْنُ كِلَابٍ - وَعَلَى الْخَيْلِ عَزْرَةَ بْنَ قَيْسٍ
الْأَحْمَسِيَّ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، وَأَعْطَى الرَّايَةَ ذُوَيْدًا مَوْلَاهُ، وَتَوَاقَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَعَدَلَ الْحُسَيْنُ إِلَى خَيْمَةٍ قَدْ نُصِبَتْ لَهُ، فَاغْتَسَلَ فِيهَا، وَاطَّلَى بِالنُّورَةِ، وَتَطَيَّبَ بِمِسْكٍ كَثِيرٍ، وَدَخَلَ بَعْدَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، فَفَعَلُوا كَمَا فَعَلَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ ! فَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَعْنَا مِنْكَ، وَاللَّهِ مَا هَذِهِ بِسَاعَةِ بَاطِلٍ. فَقَالَ بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي مَا أَحْبَبْتُ الْبَاطِلَ شَابًّا وَلَا كَهْلًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ إِنِّي لَمُسْتَبْشِرٌ بِمَا نَحْنُ لَاقُونَ، وَاللَّهِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحُورِ الْعِينِ إِلَّا أَنْ يَمِيلَ عَلَيْنَا هَؤُلَاءِ فَيَقْتُلُونَا. ثُمَّ رَكِبَ الْحُسَيْنُ عَلَى فَرَسِهِ، وَأَخَذَ مُصْحَفًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَرَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ. إِلَى آخِرِهِ. وَأَرْكَبَ ابْنَهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ - وَكَانَ ضَعِيفًا مَرِيضًا - فَرَسًا يُقَالُ لَهُ: لَاحِقٌ. وَنَادَى الْحُسَيْنُ: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا مِنِّي نَصِيحَةً أَقُولُهَا لَكُمْ. فَأَنْصَتَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ والثَنَاءِ عَلَيْهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ قَبِلْتُمْ مِنِّي وَأَنْصَفْتُمُونِي، كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَيَّ سَبِيلٌ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ [ يُونُسَ: 71 ]، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [ الْأَعْرَافِ: 196 ]. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَخَوَاتُهُ وَبَنَاتُهُ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ بِالْبُكَاءِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: لَا يَبْعَدُ ابْنُ عَبَّاسٍ. يَعْنِي حِينَ أَشَارَ عَلَيْهِ أَلَّا يَخْرُجَ بِالنِّسَاءِ مَعَهُ، وَيَدَعَهُنَّ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ يَنْتَظِمَ لَهُ الْأَمْرُ. ثُمَّ بَعَثَ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ وَابْنَهُ عَلِيًّا فَسَكَّتَاهُنَّ، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكُرُ لِلنَّاسِ فَضْلَهُ وَعَظَمَةَ نَسَبِهِ، وَعُلُوَّ قَدْرِهِ،
وَشَرَفَهُ، وَيَقُولُ: رَاجِعُوا أَنْفُسَكُمْ، هَلْ يَصْلُحُ لَكُمْ قِتَالُ مِثْلِي، وَأَنَا ابْنُ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ابْنُ بِنْتِ نَبِيٍّ غَيْرِي، وَعَلِيٌّ أَبِي، وَجَعْفَرُ ذُو الْجَنَاحَيْنِ عَمِّي، وَحَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمُّ أَبِي، وَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَخِي: هَذَانَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَإِنْ صَدَّقْتُمُونِي بِمَا أَقُولُ فَهُوَ الْحَقُّ، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى الْكَذِبِ، وَإِلَّا فَاسْأَلُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ; جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَا سَعِيدٍ، وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُخْبِرُوكُمْ بِذَلِكَ، وَيْحَكُمْ ! أَمَا تَتَّقُونَ اللَّهَ ؟ ! أَمَا فِي هَذَا حَاجِزٌ لَكُمْ عَنْ سَفْكِ دَمِي ؟ ! فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ: هُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، إِنْ كُنْتُ أَدْرِي مَا يَقُولُ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مُظَهِّرٍ: وَاللَّهِ يَا شَمِرُ، إِنَّكَ لَتَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى سَبْعِينَ حَرْفًا، وَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا يَقُولُ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قَلْبِكَ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ذَرُونِي أَرْجِعْ إِلَى مَأْمَنِي مِنَ الْأَرْضِ. فَقَالُوا: وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أُعْطِيَهُمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ وَأُقِرَّ إِقْرَارَ الْعَبِيدِ، عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [ غَافِرٍ: 27 ]. ثُمَّ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، وَأَمَرَ عُقْبَةَ بْنَ سَمْعَانَ فَعَقَلَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرُونِي أَتَطْلُبُونِي بِقَتِيلٍ لَكُمْ قَتَلْتُهُ ؟ أَوْ مَالٍ لَكُمْ أَكَلْتُهُ ؟ أَوْ بِقِصَاصٍ مِنْ جِرَاحَةٍ ؟ قَالَ: فَأَخَذُوا لَا يُكَلِّمُونَهُ. قَالَ: فَنَادَى: يَا شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، يَا حَجَّارُ بْنَ أَبْجَرَ،
يَا قَيْسُ بْنَ الْأَشْعَثِ، يَا زَيْدُ بْنَ الْحَارِثِ، أَلَمْ تَكْتُبُوا إِلَيَّ أَنَّهُ قَدْ أَيْنَعَتِ الثِّمَارُ وَاخْضَرَّ الْجَنَابُ، فَاقْدَمْ عَلَيْنَا، فَإِنَّكَ إِنَّمَا تَقْدَمُ عَلَى جُنْدٍ مُجَنَّدٍ. فَقَالُوا لَهُ: لَمْ نَفْعَلْ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُمْ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِذْ قَدْ كَرِهْتُمُونِي فَدَعُونِي أَنْصَرِفْ عَنْكُمْ. فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ: أَلَا تَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ ؟ فَإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْذُوكَ، وَلَا تَرَى مِنْهُمْ إِلَّا مَا تُحِبُّ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَنْتَ أَخُو أَخِيكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَطْلُبَكَ بَنُو هَاشِمٍ بِأَكْثَرَ مِنْ دَمِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ ؟ لَا وَاللَّهِ لَا أُعْطِيهِمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أُقِرُّ لَهُمْ إِقْرَارَ الْعَبِيدِ. قَالَ: وَأَقْبَلُوا يَزْحَفُونَ نَحْوَهُ، وَقَدْ تَحَيَّزَ إِلَى جَيْشِ الْحُسَيْنِ مِنْ أُولَئِكَ طَائِفَةٌ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ فَارِسًا فِيمَا قِيلَ، مِنْهُمُ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ أَمِيرُ مُقَدِّمَةُ الْكُوفِيِّينَ، فَاعْتَذَرَ إِلَى الْحُسَيْنِ مِمَّا كَانَ مِنْهُمْ. قَالَ: وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ لَسِرْتُ مَعَكَ إِلَى يَزِيدَ. فَقَبِلَ مِنْهُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ، فَخَاطَبَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ ! أَلَا تَقْبَلُونَ مِنِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْرِضُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً مِنْهَا ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ إِلَيَّ قَبِلْتُ، وَلَكِنْ أَبَى عَلَيَّ
ابْنُ
زِيَادٍ. ثُمَّ خَاطَبَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَسَبَّهُمْ وَأَنَّبَهُمْ وَقَالَ:
وَيْحَكُمْ ! دَعَوْتُمُوهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَ خَذَلْتُمُوهُ، وَمَا كَفَاكُمْ
ذَلِكَ حَتَّى جِئْتُمْ لِتُقَاتِلُوهُ، وَقَدْ مَنَعْتُمُوهُ وَنِسَاءَهُ
الْمَاءَ مِنَ الْفُرَاتِ ; الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ
وَالْمَجُوسِيُّ، وَتَتَمَرَّغُ فِيهِ خَنَازِيرُ السَّوَادِ وَكِلَابُهُ، فَهُوَ
كَالْأَسِيرِ فِي أَيْدِيكُمْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.
قَالَ: فَتَقَدَّمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ لِمَوْلَاهُ: يَا ذُوَيْدُ،
أَدْنِ رَايَتَكَ. فَأَدْنَاهَا، ثُمَّ شَمَّرَ عُمَرُ عَنْ سَاعِدِهِ، وَرَمَى
بِسَهْمٍ، وَقَالَ: اشْهَدُوا أَنِّي أَوَّلُ مَنْ رَمَى الْقَوْمَ. قَالَ:
فَتَرَامَى النَّاسُ بِالنِّبَالِ، وَخَرَجَ يَسَارٌ مَوْلَى زِيَادٍ وَسَالِمٌ
مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَا:
مَنْ
يُبَارِزُ ؟ فَبَرَزَ لَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ الْكَلْبِيُّ بَعْدَ
اسْتِئْذَانِهِ الْحُسَيْنَ، فَقَتَلَ يَسَارًا أَوَّلًا، ثُمَّ قَتَلَ سَالِمًا
بَعْدَهُ، وَقَدْ ضَرَبَهُ سَالِمٌ ضَرْبَةً أَطَارَ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى،
وَحَمَلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوْزَةَ. حَتَّى وَقَفَ
بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ لَهُ: يَا حُسَيْنُ، أَبْشِرْ بِالنَّارِ.
فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: كَلَّا، وَيْحَكَ ! إِنِّي أَقْدَمُ عَلَى رَبٍّ
رَحِيمٍ، وَشَفِيعٍ مُطَاعٍ، بَلْ أَنْتَ أَوْلَى بِالنَّارِ. قَالُوا:
فَانْصَرَفَ فَوَقَصَتْهُ فَرَسُهُ فَسَقَطَ، وَتَعَلَّقَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى
بِالرِّكَابِ.
وَشَدَّ عَلَيْهِ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ، فَضَرَبَهُ فَأَطَارَ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى، وَغَارَتْ بِهِ فَرَسُهُ، فَلَمْ يَبْقَ حَجَرٌ يَمُرُّ بِهِ إِلَّا
ضَرَبَهُ فِي رَأْسِهِ حَتَّى مَاتَ.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ قَالَ: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ يُدْعَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ مِنْ بَنِي عُلَيْمٍ، كَانَ قَدْ نَزَلَ الْكُوفَةَ،
وَاتَّخَذَ دَارًا عِنْدَ بِئْرِ الْجَعْدِ مِنْ هَمْدَانَ، وَكَانَتْ مَعَهُ
امْرَأَةٌ لَهُ مَنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، فَرَأَى النَّاسَ يَتَهَيَّئُونَ
لِلْخُرُوجِ إِلَى قِتَالِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ عَلَى
قِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ حَرِيصًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ جِهَادِي
مَعَ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَؤُلَاءِ
أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَيْسَرَ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ.
فَدَخَلَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرَهَا بِمَا هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ،
فَقَالَتْ: أَصَبْتَ - أَصَابَ اللَّهُ بِكَ - أَرْشَدَ أُمُورِكَ، افْعَلْ
وَأَخْرِجْنِي
مَعَكَ. قَالَ: فَخَرَجَ بِهَا لَيْلًا حَتَّى أَتَى الْحُسَيْنَ. ثُمَّ ذَكَرَ
قِصَّةَ رَمْيِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِالسَّهْمِ، وَقِصَّةَ قَتْلِهِ يَسَارًا
مَوْلَى زِيَادٍ، وَسَالِمًا مَوْلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَيْرٍ اسْتَأْذَنَ الْحُسَيْنَ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهِمَا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ
الْحُسَيْنُ، فَرَأَى رَجُلًا آدَمَ طَوِيلًا شَدِيدَ السَّاعِدَيْنِ، بَعِيدَ مَا
بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنِّي لَأَحْسَبُهُ لِلْأَقْرَانِ
قَتَّالًا، اخْرُجْ إِنْ شِئْتَ. فَخَرَجَ فَقَالَا لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟
فَانْتَسَبَ لَهُمَا. فَقَالَا: لَا نَعْرِفُكَ. فَقَالَ لَهُمَا: يَا أَوْلَادَ
الزَّانِيَةِ، أَوَ بِكُمْ رَغْبَةٌ عَنْ مُبَارَزَةِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ؟ !
وَهَلْ يَخْرُجُ إِلَيْكُمَا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكُمَا ؟ ثُمَّ شَدَّ
عَلَى يَسَارٍ، فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ، فَإِنَّهُ لَمُشْتَغِلٌ بِهِ إِذْ
حَمَلَ عَلَيْهِ سَالِمٌ مَوْلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَصَاحَ بِهِ: قَدْ رَهِقَكَ
الْعَبْدُ. قَالَ: فَلَمْ يَنْتَبِهْ لَهُ حَتَّى غَشِيَهُ، فَضَرَبَهُ عَلَى
يَدِهِ الْيُسْرَى، فَأَطَارَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ مَالَ عَلَيْهِ الْكَلْبِيُّ،
فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَأَقْبَلَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
إِنْ تُنْكِرَانِي فَأَنَا ابْنُ كَلْبِ حَسْبِي بَيْتِي فِي عُلَيْمٍ حَسْبِي
إِنِّي امْرُؤٌ ذُو مِرَّةٍ وَعَصْبِ وَلَسْتُ بِالْخَوَّارِ عِنْدَ الْكَرْبِ
إِنِّي
زَعِيمٌ لَكِ أُمَّ وَهْبِ بِالطَّعْنِ فِيهِمْ مُقْدِمًا وَالضَّرْبِ
ضَرْبِ غُلَامٍ مُؤْمِنٍ بِالرَّبِّ
فَأَخَذَتْ أُمُّ وَهْبٍ عَمُودًا، ثُمَّ أَقْبَلَتْ نَحْوَ زَوْجِهَا تَقُولُ
لَهُ: فِدَاؤُكَ أَبِي وَأُمِّي، قَاتِلْ دُونَ الطَّيِّبِينَ ذُرِّيَّةِ
مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَأَقْبَلَ إِلَيْهَا يَرُدُّهَا
نَحْوَ النِّسَاءِ، فَأَقْبَلَتْ تُجَاذِبُهُ ثَوْبَهُ. قَالَتْ: دَعْنِي أَكُونُ
مَعَكَ. فَنَادَاهَا الْحُسَيْنُ: انْصَرِفِي إِلَى النِّسَاءِ فَاجْلِسِي
مَعَهُنَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ قِتَالٌ. فَانْصَرَفَتْ
إِلَيْهِنَّ.
قَالَ: وَكَثُرَتِ الْمُبَارَزَةُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالنَّصْرُ
فِي ذَلِكَ لِأَصْحَابِ الْحُسَيْنِ ; لِقُوَّةِ بَأْسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ
مُسْتَمِيتُونَ، لَا عَاصِمَ لَهُمْ إِلَّا سُيُوفُهُمْ، فَأَشَارَ بَعْضُ
الْأُمَرَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِعَدَمِ الْمُبَارَزَةِ، وَحَمَلَ عَمْرُو
بْنُ الْحَجَّاجِ أَمِيرَ الْمَيْمَنَةِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: قَاتِلُوا مَنْ مَرَقَ
مِنَ الدِّينِ، وَفَارَقَ الْإِمَامَ وَالْجَمَاعَةَ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ:
وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ ! أَعَلَيَّ تُحَرِّضُ النَّاسَ ؟ ! أَنَحْنُ مَرَقْنَا
مِنَ الدِّينِ وَأَنْتُمْ ثَبَتُّمْ عَلَيْهِ ؟ ! سَتَعْلَمُونَ إِذَا فَارَقَتْ
أَرْوَاحُكُمْ أَجْسَادَكُمْ مَنْ أَوْلَى بِصِلِيِّ النَّارِ. وَقَدْ قُتِلَ فِي
هَذِهِ الْحَمْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ
أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ، فَمَشَى إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ،
وَهُوَ عَلَى آخِرِ رَمَقٍ، وَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مُظَهِّرٍ: أَبْشِرْ
بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ: بَشَّرَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ حَبِيبٌ: لَوْلَا أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى إِثْرِكَ
لَاحِقُكَ، لَكُنْتُ أَقْضِي مَا تُوصِينِي بِهِ. فَقَالَ لَهُ مُسْلِمُ بْنُ
عَوْسَجَةَ: أُوصِيكَ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى الْحُسَيْنِ - أَنْ تَمُوتَ
دُونَهُ.
قَالُوا: ثُمَّ حَمَلَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ بِالْمَيْسَرَةِ، وَقَصَدُوا
نَحْوَ الْحُسَيْنِ، فَدَافَعَتْ عَنْهُ الْفُرْسَانُ مِنْ أَصْحَابِهِ دِفَاعًا
عَظِيمًا، وَكَافَحُوا دُونَهُ مُكَافَحَةً بَلِيغَةً، فَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ
مِنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ طَائِفَةً مِنَ الرُّمَاةِ الرَّجَّالَةِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ خُيُولَ أَصْحَابِ
الْحُسَيْنِ، فَعَقَرُوهَا كُلَّهَا حَتَّى بَقِيَ جَمِيعُهُمْ رَجَّالَةً، وَلَمَّا
عَقَرُوا جَوَادَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ نَزَلَ عَنْهُ وَفِي يَدِهِ السَّيْفُ
كَأَنَّهُ لَيْثٌ وَهُوَ يَقُولُ
إِنْ تَعْقِرُوا بِي فَأَنَا ابْنُ الْحُرِّ أَشْجَعُ مِنْ ذِي لِبْدَةٍ هِزَبْرِ
وَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ أَمَرَ بِتَقْوِيضِ تِلْكَ الْأَبْنِيَةِ
الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ مَنْ أَتَى مِنْ نَاحِيَتِهَا، فَجَعَلَ
أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ يَقْتُلُونَ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ
بِتَحْرِيقِهَا، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: دَعُوهُمْ يَحْرِقُونَهَا، فَإِنَّهُمْ لَا
يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا مِنْهَا وَقَدِ أُحْرِقَتْ. وَجَاءَ شَمِرُ بْنُ
ذِي الْجَوْشَنِ قَبَّحَهُ اللَّهُ، إِلَى فُسْطَاطِ الْحُسَيْنِ، فَطَعَنَهُ
بِرُمْحِهِ - يَعْنِي الْفُسْطَاطَ - وَقَالَ: ائْتُونِي بِالنَّارِ لِأُحَرِّقَهُ
عَلَى مَنْ فِيهِ. فَصَاحَتِ النِّسْوَةُ وَخَرَجْنَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ
الْحُسَيْنُ: أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَحْرِقَ أَهْلِي ؟ ! أَحْرَقَكَ اللَّهُ
بِالنَّارِ. وَجَاءَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ إِلَى شَمِرٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ،
فَقَالَ لَهُ: مَا رَأَيْتُ أَقْبَحَ مِنْ قَوْلِكَ وَمَوْقِفِكَ هَذَا، أَتُرِيدُ
أَنْ تُرْعِبَ النِّسَاءَ ؟ ! فَاسْتَحْيَا، وَهَمَّ بِالرُّجُوعِ.
وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ: قُلْتُ لِشَمِرٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! إِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ لَكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ عَلَى نَفْسِكَ خَصْلَتَيْنِ ; تُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَتَقْتُلُ الْوِلْدَانَ وَالنِّسَاءَ ! وَاللَّهِ إِنَّ فِي قَتْلِكَ الرِّجَالَ لَمَا تُرْضِي بِهِ أَمِيرَكَ. قَالَ: فَقَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ: لَا أُخْبِرُكَ مَنْ أَنَا. وَخَشِيتُ أَنِّي إِنْ أَخْبَرْتُهُ فَعَرَفَنِي، أَنْ يَسُوءَنِي عِنْدَ السُّلْطَانِ. وَشَدَّ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ عَلَى شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ، فَأَزَالُوهُ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَقَتَلُوا أَبَا عَزَّةَ الضِّبَابِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ شَمِرٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ إِذَا قُتِلَ بَانَ فِيهِمُ الْخَلَلُ، وَإِذَا قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ لَمْ يَتَبَيَّنْ ذَلِكَ فِيهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وَقْتُ الظُّهْرِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: مُرُوهُمْ فَلْيَكُفُّوا عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى نُصَلِّيَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: إِنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْكُمْ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مُظَهِّرٍ: وَيْحَكَ ! أَتُقْبَلُ مِنْكُمُ الصَّلَاةُ وَلَا تُقْبَلُ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ! وَقَاتَلَ حَبِيبٌ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ.
ثُمَّ صَلَّى الْحُسَيْنُ بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا بَعْدَهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَوُصِلَ إِلَى الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَدَافَعَ عَنْهُ صَنَادِيدُ أَصْحَابِهِ، فَقُتِلَ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ، وَقَاتَلَ دُونَهُ نَافِعُ بْنُ هِلَالٍ الْجَمَلِيُّ، فَقَتَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ سِوَى مَنْ جَرَحَ، ثُمَّ
أُسِرَ
وَكُسِرَتْ عَضُدَاهُ وَمَعَ هَذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ
سَعْدٍ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ، ثُمَّ حَمَلَ شَمِرٌ عَلَى أَصْحَابِ
الْحُسَيْنِ وَهُوَ يَقُولُ
خَلُّوا عُدَاةَ اللَّهِ خَلُّوا عَنْ شَمِرْ يَضْرِبُهُمْ بِسَيْفِهِ وَلَا
يَفِرْ
وَصَمَّمَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِمْ،
وَتَفَانَى أَصْحَابُ
الْحُسَيْنِ
بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا سُوِيدُ بْنُ عَمْرِو
بْنِ أَبِي الْمُطَاعِ الْخَثْعَمِيُّ.
وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ بَنِي أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ عَلِيٌّ
الْأَكْبَرُ ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي
مُرَّةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ، طَعَنَهُ مُرَّةُ بْنُ
مُنْقِذِ بْنِ النُّعْمَانِ الْعَبْدِيُّ فَقَتَلَهُ، وَيُرْوَى أَنَّهُ جَعَلَ
يُقَاتِلُ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَلِي نَحْنُ وَرَبِّ الْبَيْتِ أَوْلَى
بِالنَّبِي
تَاللَّهِ لَا يَحْكُمُ فِينَا ابْنُ الدَّعِي كَيْفَ تَرَوْنَ الْيَوْمَ سَتْرِي
عَنْ أَبِي
فَلَمَّا طَعَنَهُ مُرَّةُ احْتَوَشَتْهُ الرِّجَالُ، فَقَطَّعُوهُ
بِأَسْيَافِهِمْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: قَتَلَ اللَّهُ قَوْمًا قَتَلُوكَ يَا
بُنَيَّ، مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ !
فَعَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ الْعَفَاءُ. قَالَ: وَخَرَجَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا
الشَّمْسُ حُسْنًا، فَقَالَتْ: يَا أُخَيَّاهُ وَيَا ابْنَ أُخَيَّاهُ. فَإِذَا
هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ مِنْ فَاطِمَةَ، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ وَهُوَ
صَرِيعٌ. قَالَ: فَجَاءَ الْحُسَيْنُ فَأَخَذَ بِيَدِهَا، فَأَدْخَلَهَا
الْفُسْطَاطَ، وَأَمَرَ بِهِ الْحُسَيْنُ فَحُوِّلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَيْنِ
يَدَيْهِ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ، ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ
عَقِيلٍ، ثُمَّ قُتِلَ عَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ،
ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَجَعْفَرٌ ابْنَا عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
ثُمَّ قُتِلَ الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحَدَّثَنِي فُضَيْلُ بْنُ خَدِيجٍ الْكِنْدِيُّ أَنَّ
يَزِيدَ بْنَ
زِيَادٍ
- وَكَانَ رَامِيًا، وَهُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ الْكِنْدِيُّ مِنْ بَنِي بَهْدَلَةَ
- جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ، فَرَمَى بِمِائَةِ سَهْمٍ
مَا سَقَطَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ
الرَّمْيِ قَالَ: قَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنِّي قَتَلْتُ خَمْسَةَ نَفَرٍ، وَكَانَ
فِي أَوَّلِ مَنْ قُتِلَ، وَكَانَ رَجَزُهُ يَوْمَئِذٍ:
أَنَا يَزِيدُ وَأَبِي مُهَاصِرْ أَشْجَعُ مِنْ لَيْثٍ بَغِيلٍ خَادِرْ
يَا رَبِّ إِنِّي لِلْحُسَيْنِ نَاصِرْ وَلِابْنِ سَعْدٍ تَارِكٌ وَهَاجِرْ
قَالُوا: وَمَكَثَ الْحُسَيْنُ نَهَارًا طَوِيلًا لَا يَأْتِي إِلَيْهِ رَجُلٌ
إِلَّا رَجَعَ عَنْهُ ; لَا يُحِبُّ أَنْ يَلِيَ قَتْلَهُ، حَتَّى جَاءَهُ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي بَدَّاءَ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ النُّسَيْرِ. فَضَرَبَ
الْحُسَيْنَ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ فَجَرَحَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ،
فَامْتَلَأَ دَمًا، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: لَا أَكَلْتَ بِهَا وَلَا شَرِبْتَ،
وَحَشَرَكَ اللَّهُ مَعَ الظَّالِمِينَ. ثُمَّ أَلْقَى الْحُسَيْنُ ذَلِكَ
الْبُرْنُسَ، وَدَعَا بِعِمَامَةٍ فَاعْتَمَّ بِهَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ
الْحُسَيْنَ أَعْيَا،
فَقَعَدَ عَلَى بَابِ فُسْطَاطِهِ، وَأُتِيَ بِصَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُقَبِّلُهُ وَيَشُمُّهُ وَيُوَدِّعُهُ وَيُوصِي أَهْلَهُ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ مُوقِدِ النَّارِ. بِسَهْمٍ فَذَبَحَ ذَلِكَ الْغُلَامَ، فَتَلَقَّى حُسَيْنٌ دَمَهُ فِي يَدِهِ، وَأَلْقَاهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَالَ: رَبِّ إِنْ تَكُ قَدْ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَاجْعَلْهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ، وَانْتَقِمْ لَنَا مِنَ الظَّالِمِينَ. وَرَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُقْبَةَ الْغَنَوِيُّ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْحُسَيْنِ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ أَيْضًا، ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْعَبَّاسُ وَعُثْمَانُ وَجَعْفَرٌ وَمُحَمَّدٌ بَنُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِخْوَةُ الْحُسَيْنِ لِأَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقَدِ اشْتَدَّ عَطَشُ الْحُسَيْنِ، فَحَاوَلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَاءِ الْفُرَاتِ فَمَانَعُوهُ دُونَهُ، فَخَلَصَ إِلَى شَرْبَةٍ مِنْهُ، فَلَمَّا أَهْوَى إِلَيْهَا رَمَاهُ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِسَهْمٍ فِي حَنَكِهِ فَأَثْبَتَهُ، فَانْتَزَعَهُ الْحُسَيْنُ مِنْ حَنَكِهِ، فَفَارَ الدَّمُ فَتَلَقَّاهُ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ وَهُمَا مَمْلُوءَتَانِ دَمًا، ثُمَّ رَمَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا، وَلَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ
مِنْهُمْ
أَحَدًا. وَدَعَا عَلَيْهِمْ دُعَاءً بَلِيغًا.
ثُمَّ جَاءَ شَمِرٌ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّجْعَانِ حَتَّى أَحَاطُوا
بِالْحُسَيْنِ وَهُوَ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ يَحُولُ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَجَاءَ غُلَامٌ يَشْتَدُّ مِنَ الْخِيَامِ كَأَنَّهُ
الْبَدْرُ فِي أُذُنَيْهِ دُرَّتَانِ تَذَبْذَبَانِ، فَخَرَجَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ
عَلِيٍّ لِتَرُدَّهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهَا، وَجَاءَ يُحَاجِفُ عَنْ عَمِّهِ،
فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ، فَاتَّقَاهُ بِيَدِهِ، فَأَطَنَّهَا
سِوَى جِلْدَةٍ، فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: يَا بُنَيَّ،
احْتَسِبْ أَجْرَكَ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّكَ تَلْحَقُ بِآبَائِكَ الصَّالِحِينَ.
ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ الرِّجَالُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَهُوَ يَجُولُ
فِيهِمْ بِالسَّيْفِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَتَنَافَرُونَ عَنْهُ كَتَنَافُرِ
الْمِعْزَى عَنِ السَّبُعِ، وَخَرَجَتْ أُخْتُهُ زَيْنَبُ بِنْتُ فَاطِمَةَ
إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: لَيْتَ السَّمَاءَ تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ. وَجَاءَ
عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، أَرَضِيتَ أَنْ يُقْتَلَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ وَأَنْتَ تَنْظُرُ ؟ فَتَحَادَرَتِ الدُّمُوعُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَصَرَفَ
وَجْهَهُ عَنْهَا، ثُمَّ جَعَلَ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ عَلَى قَتْلِهِ، حَتَّى
نَادَى شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ: وَيْحَكُمْ ! مَاذَا تَنْتَظِرُونَ
بِالرَّجُلِ ؟ اقْتُلُوهُ ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ. فَحَمَلَتِ الرِّجَالُ
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَضَرَبَهُ زُرْعَةُ
بْنُ شَرِيكٍ التَّمِيمِيُّ عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَضَرَبَ عَلَى عَاتِقِهِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ وَهُوَ يَنُوءُ وَيَكْبُو، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ سِنَانُ بْنُ أَنَسِ بْنِ عَمْرٍو النَّخَعِيُّ، فَطَعَنَهُ بِالرُّمْحِ فَوَقَعَ، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَحَزَّ رَأْسَهُ، ثُمَّ دَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى خَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ مَذْحِجٍ. وَقِيلَ: عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا كَانَ عُمَرُ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ الَّتِي قَتَلَتِ الْحُسَيْنَ فَقَطْ.
وَأَخَذَ
سِنَانٌ وَغَيْرُهُ سَلَبَهُ، وَتَقَاسَمَ النَّاسُ مَا كَانَ مِنْ أَمْوَالِهِ
وَحَوَاصِلِهِ، وَمَا فِي خِبَائِهِ، حَتَّى مَا عَلَى النِّسَاءِ مِنَ الثِّيَابِ
الظَّاهِرَةِ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: وُجِدَ بِالْحُسَيْنِ
حِينَ قُتِلَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ طَعْنَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ ضَرْبَةً.
وَهَمَّ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ بِقَتْلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
الْأَصْغَرِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَهُوَ صَغِيرٌ مَرِيضٌ، حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ
ذَلِكَ حُمَيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَحَدُ أَصْحَابِهِ. وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ،
فَقَالَ: أَلَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَى هَذِهِ النِّسْوَةِ أَحَدٌ وَلَا يَقْتُلْ
هَذَا الْغُلَامَ أَحَدٌ وَمَنْ أَخَذَ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا فَلْيَرُدَّهُ
عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ أَحَدٌ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ
بْنُ الْحُسَيْنِ: جُزِيتَ خَيْرًا، فَقَدْ دَفَعَ اللَّهُ عَنِّي بِمَقَالَتِكَ شَرًّا.
قَالُوا: ثُمَّ جَاءَ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ إِلَى بَابِ فُسْطَاطِ عُمَرِ بْنِ
سَعْدٍ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
أَوْقِرْ رِكَابِي فِضَّةً وَذَهَبًا أَنَا قَتَلْتُ الْمَلِكَ الْمُحَجَّبَا
قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ أُمًّا وَأَبَا وَخَيْرَهُمْ إِذْ يُنْسَبُونَ نَسَبَا
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: أَدْخِلُوهُ عَلَيَّ. فَلَمَّا دَخَلَ رَمَاهُ
بِالسَّوْطِ، وَقَالَ: وَيْحَكَ أَنْتَ مَجْنُونٌ ! وَاللَّهِ لَوْ سَمِعَكَ ابْنُ
زِيَادٍ تَقُولُ هَذَا لَضَرَبَ عُنُقَكَ. وَمَنَّ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى
عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَوْلًى، فَلَمْ يَنْجُ
مِنْهُمْ غَيْرُهُ، وَالْمُرَقَّعُ بْنُ ثُمَامَةَ أُسِرَ، فَمَنَّ عَلَيْهِ ابْنُ
زِيَادٍ.
وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ اثَنَانِ وَسَبْعُونَ نَفْسًا، فَدَفَنَهُمْ
أَهْلُ الْغَاضِرِيَّةِ مِنْ
بَنِي
أَسَدٍ بَعْدَ مَا قُتِلُوا بِيَوْمٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَأَكْرَمَهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ مَعَ
الْحُسَيْنِ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ سِتَّةَ
عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
يَوْمَئِذٍ لَهُمْ شِبْهٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: قُتِلَ مَعَهُ مِنْ وَلَدِهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ
ثَلَاثَةُ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، فَمِنْ أَوْلَادِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
; جَعْفَرٌ، وَالْحُسَيْنُ، وَالْعَبَّاسُ، وَمُحَمَّدٌ، وَعُثْمَانُ، وَأَبُو
بَكْرٍ. وَمِنْ أَوْلَادِ الْحُسَيْنِ عَلِيٌّ الْأَكْبَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ.
وَمِنْ أَوْلَادِ أَخِيهِ الْحَسَنِ ثَلَاثَةٌ ; عَبْدُ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ،
وَأَبُو بَكْرٍ بَنُو الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْ
أَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ اثَنَانِ ; عَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ. وَمِنْ
أَوْلَادِ عَقِيلٍ ; جَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ،
وَمُسْلِمٌ قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَا. فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ
لِصُلْبِهِ، واثَنَانِ آخَرَانِ ; هُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ
عَقِيلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدِ
بْنِ
عَقِيلٍ، فَكَمَلُوا سِتَّةً مِنْ وَلَدِ عَقِيلٍ، وَفِيهِمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
وَانْدُبِي تِسْعَةً لِصُلْبِ عَلِيٍّ قَدْ أُصِيبُوا وَسِتَّةً لِعَقِيلِ
وَسَمِيُّ النَّبِيِّ غُودِرَ فِيهِمْ قَدْ عَلَوْهُ بِصَارِمٍ مَصْقُولِ
وَمِمَّنْ قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ بِكَرْبَلَاءَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ مِنَ
الرَّضَاعَةِ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُقْطُرٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا
قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ بَعَثَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ،
فَحُمِلَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَقَتَلَهُ. وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ
أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا سِوَى الْجَرْحَى،
فَصَلَّى عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ وَدَفَنَهُمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ
بْنَ سَعْدٍ نَدَبَ عَشَرَةَ فُرْسَانٍ، فَدَاسُوا الْحُسَيْنَ بِأَفْرَاسِهِمْ
حَتَّى أَلْصَقُوهُ بِالْأَرْضِ يَوْمَ الْمَعْرَكَةِ، وَسُرِّحَ بِرَأْسِهِ مِنْ
يَوْمِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ مَعَ خَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ،
فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى الْقَصْرِ وَجَدَهُ مُغْلَقًا، فَرَجَعَ إِلَى
مَنْزِلِهِ، فَوَضَعَهُ تَحْتَ إِجَّانَةٍ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ نَوَارَ بِنْتِ
مَالِكٍ: جِئْتُكِ بِعِزِّ الدَّهْرِ. فَقَالَتْ: وَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ: هَذَا
رَأْسُ الْحُسَيْنِ. فَقَالَتْ: جَاءَ النَّاسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ،
وَجِئْتَ أَنْتَ بِرَأْسِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؟ ! وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُنِي وَإِيَّاكَ فِرَاشٌ أَبَدًا. ثُمَّ
نَهَضَتْ عَنْهُ مِنَ الْفِرَاشِ، وَاسْتَدْعَى بِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى مِنْ
بَنِي أَسَدٍ، فَنَامَتْ عِنْدَهُ. قَالَتِ الثَّانِيَةُ: فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ
أَرَى النُّورَ سَاطِعًا مِنْ تِلْكَ الْإِجَّانَةِ إِلَى السَّمَاءِ،
وَطُيُورًا
بَيْضَاءَ تُرَفْرِفُ حَوْلَهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِ إِلَى ابْنِ
زِيَادٍ، فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ مَعَهُ رُءُوسُ
بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَمَجْمُوعُهَا اثَنَانِ وَسَبْعُونَ
رَأْسًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا قُتِلَ قَتِيلٌ إِلَّا احْتَزُّوا رَأَسَهُ،
وَحَمَلُوهُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا ابْنُ زِيَادٍ إِلَى يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الشَّامِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُحَمَّدِ،
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ،
فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا،
فَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَخْضُوبًا بِالْوَسْمَةِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ
إِشْكَابٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُفَرِّجُ بْنُ شُجَاعِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَوْصِلِيُّ، ثَنَا غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثَنَا
يُوسُفُ بْنُ عَبْدَةَ، عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ،عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أُتِيَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ جَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ
ثَنَايَاهُ،
يَقُولُ
لَقَدْ كَانَ - أَحْسَبُهُ قَالَ - جَمِيلًا. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَسُوءَنَّكَ،
إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْثَمُ
حَيْثُ يَقَعُ قَضِيبُكَ. قَالَ: فَانْقَبَضَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبَزَّارُ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ حُمَيْدٍ غَيْرُ يُوسُفَ
بْنِ عَبْدَةَ، وَهُوَ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ، وَلَيْسَ بِهِ
بَأْسٌ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحَجَّاجِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ
أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ
أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ
مُسْلِمٍ قَالَ: دَعَانِي عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فَسَرَّحَنِي إِلَى أَهْلِهِ
لِأُبَشِّرَهُمْ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبِعَافِيَتِهِ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى
أَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَأَعْلَمْتَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى أَدْخَلَ،
فَأَجِدُ ابْنَ زِيَادٍ قَدْ جَلَسَ لِلنَّاسِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَفْدُ
الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ فِيمَنْ دَخَلَ، فَإِذَا رَأَسُ
الْحُسَيْنِ مَوْضُوعٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِذَا هُوَ يَنْكُتُ بِقَضِيبٍ بَيْنَ
ثَنِيَّتَيْهِ سَاعَةً، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: اعْلُ بِهَذَا
الْقَضِيبِ عَنْ هَاتَيْنِ الثَّنِيَّتَيْنِ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ
غَيْرُهُ، لَقَدْ رَأَيْتُ شَفَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى هَاتَيْنِ الشَّفَتَيْنِ يُقَبِّلُهُمَا. ثُمَّ انْفَضَخَ
الشَّيْخُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: أَبْكَى اللَّهُ عَيْنَيْكَ،
فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ شَيْخٌ
قَدْ
خَرِفْتَ، وَذَهَبَ عَقْلُكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَنَهَضَ فَخَرَجَ،
فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ النَّاسُ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ
كَلَامًا لَوْ سَمِعَهُ ابْنُ زِيَادٍ لَقَتَلَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: مَا قَالَ ؟
قَالُوا: مَرَّ بِنَا وَهُوَ يَقُولُ: مَلَكَ عَبْدٌ عَبْدًا، فَاتَّخَذَهُمْ
تُلَدًا، أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ الْعَبِيدُ بَعْدَ الْيَوْمِ،
قَتَلْتُمُ ابْنَ فَاطِمَةَ، وَأَمَّرْتُمُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، فَهُوَ يُقَتِّلُ
خِيَارُكُمْ، وَيَسْتَعْبِدُ شِرَارَكُمْ، فَرَضِيتُمْ بِالذُّلِّ، فَبُعْدًا
لِمَنْ رَضِيَ بِالذُّلِّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ السَّبِيعِيِّ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ
ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدٍ.
وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، ثَنَا
أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا
جِيءَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَأَصْحَابِهِ، نُصِبَتْ فِي
الْمَسْجِدِ فِي الرَّحْبَةِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ
جَاءَتْ، قَدْ جَاءَتْ. فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ تُخَلِّلُ الرُّءُوسَ حَتَّى
دَخَلَتْ فِي مِنْخَرَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَمَكَثَتْ هُنَيْهَةً،
ثُمَّ خَرَجَتْ، فَذَهَبَتْ حَتَّى تَغَيَّبَتْ، ثُمَّ قَالُوا: قَدْ جَاءَتْ،
قَدْ جَاءَتْ. فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَرَ
ابْنُ زِيَادٍ أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَصَعِدَ
الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِ الْحُسَيْنِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَسْلُبَهُمُ
الْمُلْكَ، وَيُفَرِّقَ الْكَلِمَةَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَفِيفٍ الْأَزْدِيُّ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ زِيَادٍ ! تَقْتُلُونَ
أَوْلَادَ النَّبِيِّينَ وَتَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ الصِّدِّيقِينَ. فَأَمَرَ
بِهِ ابْنُ زِيَادٍ، فَقُتِلَ وَصُلِبَ. ثُمَّ أَمَرَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ،
فَنُصِبَ بِالْكُوفَةِ وَطِيفَ بِهِ فِي أَزِقَّتِهَا، ثُمَّ سَيَّرَهُ مَعَ
زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ وَمَعَهُ رُءُوسُ أَصْحَابِهِ، إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
بِالشَّامِ، وَكَانَ مَعَ زَحْرٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسَانِ ; مِنْهُمْ أَبُو
بُرْدَةَ بْنُ عَوْفٍ الْأَزْدِيُّ، وَطَارِقُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ الْأَزْدِيُّ،
فَخَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا بِالرُّءُوسِ كُلِّهَا عَلَى يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ.
قَالَ هِشَامٌ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ رَوْحِ بْنِ
زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْغَازِ بْنِ رَبِيعَةَ
الْجُرَشِيِّ ; مِنْ حِمْيَرَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَعِنْدَ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بِدِمَشْقَ، إِذْ أَقْبَلَ زَحْرُ بْنُ قَيْسٍ، فَدَخَلَ عَلَى
يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: وَيْلَكَ ! مَا وَرَاءَكَ ؟ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَنَصْرِهِ، وَرَدَ عَلَيْنَا
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ
بَيْتِهِ، وَسِتُّونَ رَجُلًا مِنْ شِيعَتِهِ، فَسِرْنَا إِلَيْهِمْ،
فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا وَيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الْأَمِيرِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ أَوِ الْقِتَالَ، فَاخْتَارُوا الْقِتَالَ،
فَغَدَوْنَا عَلَيْهِمْ مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، فَأَحَطْنَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ
نَاحِيَةٍ حَتَّى أَخَذَتِ السُّيُوفُ مَأْخَذَهَا مِنْ هَامِ الْقَوْمِ،
فَجَعَلُوا يَهْرَبُونَ إِلَى غَيْرِ مَهْرَبٍ وَلَا وَزَرٍ، وَيَلُوذُونَ مِنَّا
بِالْآكَامِ وَالْحُفَرِ لِوَاذًا كَمَا لَاذَ الْحَمَامُ مِنْ صَقْرٍ،
فَوَاللَّهِ
مَا كَانَ إِلَّا جَزْرُ جَزُورٍ أَوْ نَوْمَةُ قَائِلٍ، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى
آخِرِهِمْ، فَهَاتِيكَ أَجْسَادُهُمْ مُجَرَّدَةً، وَثِيَابُهُمْ مُرَمَّلَةً،
وَخُدُودُهُمْ مُعَفَّرَةً، تَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ وَتَسْفِي عَلَيْهِمُ
الرِّيحُ، زُوَّارُهُمُ الْعِقْبَانُ وَالرَّخَمُ. قَالَ: فَدَمَعْتَ عَيْنَا
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَرْضَى مِنْ طَاعَتِكُمْ بِدُونِ
قَتْلِ الْحُسَيْنِ، لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ
أَنِّي صَاحِبُهُ لَعَفَوْتُ عَنْهُ، وَرَحِمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ. وَلَمْ يَصِلْ
زَحْرَ بْنَ قَيْسٍ بِشَيْءٍ.
وَلَمَّا وُضِعَ الْحُسَيْنُ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ
أَنِّي صَاحِبُكَ مَا قَتَلْتُكَ. ثُمَّ أَنْشَدَ قَوْلَ الْحُصَيْنِ بْنِ
الْحُمَامِ الْمُرِّيِّ الشَّاعِرِ:
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ
وَأَظْلَمَا
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْعَبْسِيُّ، عَنْ أَبِي
عُمَارَةَ الْعَبْسِيِّ قَالَ: وَقَامَ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ أَخُو مَرْوَانَ
بْنِ الْحَكَمِ فَقَالَ:
لَهَامٌ بِجَنْبِ الطَّفِّ أَدْنَى قَرَابَةً مِنِ ابْنِ زِيَادِ الْعَبْدِ ذِي
الْحَسَبِ الْوَغْلِ
سُمَيَّةُ أَضْحَى نَسْلُهَا عَدَدَ الْحَصَى وَبِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ
لَهَا نَسْلُ
قَالَ:
فَضَرَبَ يَزِيدُ فِي صَدْرِ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ، وَقَالَ: اسْكُتْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، وَهُوَ شِيعِيٌّ: ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يَحْيَى الْأَحْمَرِيُّ، ثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا جِيءَ
بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ تَمَثَّلَ بِهَذِهِ
الْأَبْيَاتِ:
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلْ
فَأَهَلُّوا وَاسْتَهَلُّوا فَرَحًا ثُمَّ قَالُوا لِي هَنِيًّا لَا تَسَلْ
حِينَ حَكَّتْ بِقُبَاءٍ بِرْكَهَا وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الْأَشَلْ
قَدْ قَتَلْنَا الضَّعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ
فَاعْتَدَلَ
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَافَقَ فِيهَا، وَاللَّهِ ثُمَّ وَاللَّهِ مَا بَقِيَ فِي
جَيْشِهِ أَحَدٌ إِلَّا تَرَكَهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ هَذَا فِي الرَّأْسِ هَلْ سَيَّرَهُ ابْنُ
زِيَادٍ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى يَزِيدَ بِالشَّامِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ،
وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ
أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
الثُّمَالِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ بُخَيْتٍ قَالَ: لَمَّا وُضِعَ رَأْسُ
الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ جَعَلَ يَنْكُتُ بِقَضِيبٍ
كَانَ فِي يَدِهِ فِي ثَغْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا وَإِيَّانَا كَمَا قَالَ
الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ الْمُرِّيُّ:
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ
وَأَظْلَمَا
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذَ
قَضِيبُكَ هَذَا مَأْخَذًا، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْشُفُهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّ هَذَا سَيَجِيءُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشَفِيعُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَتَجِيءُ وَشَفِيعُكَ ابْنُ زِيَادٍ. ثُمَّ قَامَ فَوَلَّى.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ:
لَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ، وَعِنْدَهُ أَبُو
بَرْزَةَ جَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى لِثَتِهِ وَيَقُولُ: يُفَلِّقْنَ
هَامًا. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ: ارْفَعْ قَضِيبَكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْثَمُهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَحَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، عَنِ
الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ:
قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ جَعَلَ يَزِيدُ يَطْعَنُ
بِالْقَضِيبِ. قَالَ: سُفْيَانُ: وَأَخْبِرْتُ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يُنْشِدُ
عَلَى إِثْرِ هَذَا
سُمَيَّةُ أَمْسَى نَسْلُهَا عَدَدَ الْحَصَى وَبِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ
لَهَا نَسْلُ
وَأَمَّا
بَقِيَّةُ أَهْلِهِ وَنِسَاؤُهُ وَحَرَمُهُ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ وَكَلَ
بِهِمْ مَنْ يَحْرُسُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ، فَأَرْكَبُوهُمْ عَلَى الرَّوَاحِلِ فِي
الْهَوَادِجِ، فَلَمَّا مَرُّوا بِمَكَانِ الْمَعْرَكَةِ رَأَوُا الْحُسَيْنَ
وَأَصْحَابَهُ مُجَدَّلِينَ، هُنَالِكَ بَكَتْهُ النِّسَاءُ، وَصَرَخْنَ
وَنَدَبَتْ زَيْنَبُ أَخَاهَا الْحُسَيْنَ وَأَهْلَهَا، فَقَالَتْ وَهِيَ تَبْكِي:
يَا مُحَمَّدَاهُ، يَا مُحَمَّدَاهُ، صَلَّى عَلَيْكَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ،
هَذَا حُسَيْنٌ بِالْعَرَاءِ، مُزَمَّلٌ بِالدِّمَاءِ، مُقَطَّعُ الْأَعْضَاءِ،
يَا مُحَمَّدَاهُ، وَبَنَاتُكَ سَبَايَا، وَذُرِّيَّتُكَ مُقَتَّلَةٌ تَسْفِي عَلَيْهَا
الصَّبَا. قَالَ: فَأَبْكَتْ وَاللَّهِ كُلَّ عَدُوٍّ وَصَدِيقٍ.
قَالَ: ثُمَّ سَارُوا بِهِمْ فِي الْهَوَادِجِ مِنْ كَرْبَلَاءَ حَتَّى دَخَلُوا
الْكُوفَةَ، فَأَكْرَمَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ النَّفَقَاتَ
وَالْكَسَاوِيَ وَالصِّلَاتِ.
ثُمَّ سَيَّرَهُمْ فَرَدَّهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الشَّامِ مَعَ شَمِرِ بْنِ
ذِي الْجَوْشَنِ وَمُحَفِّزِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْعَائِذِيِّ مِنْ قُرَيْشٍ،
وَمَعَهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَكَانَ أَرَادَ ابْنُ
زِيَادٍ قَتْلَهُ، فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا بَعَثَهُمْ سَيَّرَهُ مَعَ
أَهْلِهِ، وَلَكِنَّهُ مَغْلُولٌ إِلَى عُنُقِهِ، وَبَقِيَّةُ الْأَهْلِ فِي حَالٍ
سَيِّئَةٍ عَلَى مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: يَا عَلِيُّ، أَبُوكَ الَّذِي قَطَعَ رَحِمِي، وَجَهِلَ حَقِّي، وَنَازَعَنِي سُلْطَانِي، فَصَنَعَ اللَّهُ بِهِ مَا قَدْ رَأَيْتَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [ الْحَدِيدِ: 22 ]. فَقَالَ يَزِيدُ لِابْنِهِ خَالِدٍ: ارْدُدْ عَلَيْهِ. قَالَ: فَمَا
دَرَى
خَالِدٌ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: قُلْ: وَمَا أَصَابَكُمْ
مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ الشُّورَى:
30 ]. فَسَكَتَ عَنْهُ سَاعَةً، ثُمَّ دَعَا بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَرَأَى
هَيْئَةً قَبِيحَةً، فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، لَوْ كَانَتْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ وَرَحِمٌ مَا فَعَلَ هَذَا بِكُمْ، وَلَا بَعَثَ
بِكُمْ هَكَذَا.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ
عَلِيٍّ قَالَتْ: لَمَّا أُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ، رَقَّ لَنَا وَأَمَرَ
لَنَا بِشَيْءٍ وَأَلْطَفنَا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَحْمَرَ
قَامَ إِلَى يَزِيدَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَبْ لِي هَذِهِ.
يَعْنِينِي، وَكُنْتُ جَارِيَةً وَضِيئَةً، فَارْتَعَدْتُ فَزِعَةً مِنْ قَوْلِهِ،
وَظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، فَأَخَذْتُ بِثِيَابِ أُخْتِي زَيْنَبَ،
وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنِّي وَأَعْقَلَ، وَكَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا
يَجُوزُ، فَقَالَتْ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ وَلَؤُمْتَ، مَا
ذَلِكَ لَكَ وَلَا لَهُ. فَغَضِبَ يَزِيدُ، فَقَالَ لَهَا: كَذَبْتِ، وَاللَّهِ
إِنَّ ذَلِكَ لِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ لَفَعَلْتُ. قَالَتْ: كَلَّا
وَاللَّهِ، مَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكَ، إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلَّتِنَا
وَتَدِينَ بِغَيْرِ دِينِنَا. قَالَتْ: فَغَضِبَ يَزِيدُ وَاسْتَطَارَ، ثُمَّ
قَالَ: إِيَّايَ تَسْتَقْبِلِينَ بِهَذَا ؟ إِنَّمَا خَرَجَ مِنَ الدِّينِ أَبُوكِ
وَأَخُوكِ. فَقَالَتْ زَيْنَبُ: بِدِينِ اللَّهِ وَدِينِ أَبِي وَدِينِ أَخِي
وَجَدِّي، اهْتَدَيْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ وَجَدُّكَ. قَالَ: كَذَبْتِ يَا عَدُوَّةَ
اللَّهِ. قَالَتْ: أَنْتَ أَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، تَشْتُمُ ظَالِمًا وَتَقْهَرُ
بِسُلْطَانِكَ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّهُ اسْتَحْيَا فَسَكَتَ، ثُمَّ
قَامَ الشَّامِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَبْ لِي هَذِهِ. فَقَالَ
لَهُ يَزِيدُ: اعْزُبْ وَهَبَ اللَّهُ لَكَ حَتْفًا قَاضِيًا.
ثُمَّ
أَمَرَ يَزِيدُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ إِلَى
الْمَدِينَةِ رَجُلًا أَمِينًا، مَعَهُ رِجَالٌ وَخَيْلٌ، وَيَكُونُ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ مَعَهُمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ النِّسَاءَ عِنْدَ حَرَمِهِ فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُنَّ نِسَاءُ آلِ مُعَاوِيَةَ يَبْكِينَ وَيَنُحْنَ
عَلَى الْحُسَيْنِ، ثُمَّ أَقَمْنَ الْمَنَاحَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ
يَزِيدُ لَا يَتَغَدَّى وَلَا يَتَعَشَّى إِلَّا وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ وعَمْرُو بْنُ الْحَسَنِ، فَقَالَ يَزِيدُ يَوْمًا لِعَمْرٍو، وَهُوَ
صَغِيرٌ جِدًّا: أَتُقَاتِلُ هَذَا ؟ يَعْنِي ابْنَهُ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ،
فَقَالَ: أَعْطِنِي سِكِّينًا وَأَعْطِهِ سِكِّينًا حَتَّى نَتَقَاتَلَ.
فَأَخْذُهُ يَزِيدُ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مَنْ
أَخْزَمَ، هَلْ تَلِدُ الْحَيَّةُ إِلَّا حَيَّةً ؟ !
وَلَمَّا وَدَّعَهُمْ يَزِيدُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: قَبَّحَ اللَّهُ
ابْنَ مَرْجَانَةَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي صَاحِبُهُ، مَا سَأَلَنِي
خَصْلَةً إِلَّا أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا، وَلَدَفَعْتُ الْحَتْفَ عَنْهُ بِكُلِّ
مَا اسْتَطَعْتُ، وَلَوْ بِهَلَاكِ بَعْضِ وَلَدِي، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَضَى مَا
رَأَيْتَ. ثُمَّ جَهَّزَهُ وَأَعْطَاهُ مَالًا جَزِيلًا، وَقَالَ لَهُ: كَاتِبْنِي
بِكُلِّ حَاجَةٍ تَكُونُ لَكَ، وَكَسَاهُمْ وَأَوْصَى بِهِمْ ذَلِكَ الرَّسُولَ.
فَكَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ الَّذِي أَرْسَلَهُ مَعَهُنَّ يَسِيرُ بِمَعْزِلٍ
عَنْهُنَّ مِنَ الطَّرِيقِ، ويبَعُدُ عَنْهُنَّ بِحَيْثُ يُدْرِكُهُنَّ طَرَفُهُ،
وَهُوَ فِي خِدْمَتِهِنَّ حَتَّى وَصَلْنَ
الْمَدِينَةَ
فَجَمَعْنَ شَيْئًا مِنْ حُلِيِّهِنَّ، فَدَفَعْنَهُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ
فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِلَّهِ
وَلِقَرَابَتِكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الرَّافِضَةِ: إِنَّهُمْ حُمِلُوا عَلَى جَنَائِبِ
الْإِبِلَ سَبَايَا عَرَايَا. حَتَّى كَذَبَ مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ الْإِبِلَ
الْبَخَاتِيَّ إِنَّمَا نَبَتَتْ لَهَا الْأَسْنِمَةُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ
لِتَسْتُرَ
عَوْرَاتِهِنَّ.
وَكَتَبَ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَمِيرِ الْحَرَمَيْنِ
يُبَشِّرُهُ بِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى بِذَلِكَ فِي
الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا سَمِعَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ
بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ، فَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ يَقُولُ: هَذَا
بِبُكَاءِ نِسَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي " تَارِيخِهِ ":
فَحَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ
الْمِصِّيصِيُّ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ،
ثَنَا عَمَّارٌ الدُّهْنِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ: حَدِّثْنِي عَنْ
مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ كَأَنِّي حَضَرْتُهُ. فَقَالَ: أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ بِكِتَابِ
مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ الَّذِي كَانَ قَدْ كَتَبَهُ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ فِيهِ
بالْقُدُومِ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ
ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، لَقِيَهُ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ لَهُ:
أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ هَذَا الْمِصْرَ. فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ،
فَإِنِّي لَمْ أَدَعْ لَكَ خَلْفِي خَيْرًا أَرْجُوهُ. فَهَمَّ الْحُسَيْنُ أَنْ
يَرْجِعَ، وَكَانَ مَعَهُ إِخْوَةُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ
لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْخُذَ بِثَأْرِنَا مِمَّنْ قَتَلَ أَخَانَا أَوْ
نُقْتَلَ.
فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَكُمْ. فَسَارَ فَلَقِيَهُ أَوَائِلُ
خَيْلِ ابْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَادَ إِلَى كَرْبَلَاءَ، فَأَسْنَدَ
ظَهْرَهُ إِلَى قَصْبَاءٍ وَخَلًا ; لِئَلَّا يُقَاتِلَ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ
وَاحِدٍ، فَنَزَلَ وَضَرَبَ أَبْنِيَتَهُ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ خَمْسَةً
وَأَرْبَعِينَ فَارِسًا وَمِائَةَ رَاجِلٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ قَدْ وَلَّاهُ ابْنُ زِيَادٍ الرَّيَّ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ،
فَقَالَ: اكْفِنِي هَذَا الرَّجُلَ. فَقَالَ: أَعْفِنِي. فَأَبَى أَنْ يُعْفِيَهُ.
فَقَالَ: أَنْظِرْنِي اللَّيْلَةَ. فَأَخَّرَهُ فَنَظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَلَمَّا
أَصْبَحَ غَدَا عَلَيْهِ رَاضِيًا بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ
عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: اخْتَرْ وَاحِدَةً
مِنْ ثَلَاثٍ ; إِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي فَأَنْصَرِفَ مِنْ حَيْثُ جِئْتُ،
وَإِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي فَأَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ، وَإِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي
فَأَلْحَقَ بِالثُّغُورِ. فَقَبِلَ ذَلِكَ عُمَرُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ زِيَادٍ لَا وَلَا كَرَامَةَ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِي. فَقَالَ
الْحُسَيْنُ: لَا وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا. فَقَاتَلَهُ، فَقُتِلَ
أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ كُلُّهُمْ، وَفِيهِمْ بِضْعَةَ عَشَرَ شَابًّا مِنْ أَهْلِ
بَيْتِهِ، وَجَاءَهُ سَهْمٌ، فَأَصَابَ ابْنًا لَهُ مَعَهُ فِي حِجْرِهِ، فَجَعَلَ
يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ
دَعَوْنَا لِيَنْصُرُونَا، فَقَتَلُونَا. ثُمَّ أَمَرَ بِحِبَرَةٍ فَشَقَّهَا،
ثُمَّ لَبِسَهَا وَخَرَجَ بِسَيْفِهِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ
مِنْ مَذْحِجٍ، وَحَزَّ رَأْسَهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ،
وَقَالَ فِي ذَلِكَ
أَوْقِرْ رِكَابِي فِضَّةً وَذَهَبًا فَقَدْ قَتَلْتُ الْمَلِكَ الْمُحَجَّبَا
قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ أُمًّا وَأَبَا وَخَيْرَهُمْ إِذْ يُنْسَبُونَ نَسَبًا
قَالَ: فَأَوْفَدَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَعِنْدَهُ أَبُو بَرْزَةَ
الْأَسْلَمِيُّ
فَجَعَلَ يَزِيدُ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى فِيهِ، وَيَقُولُ:
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ
وَأَظْلَمَا
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ ارْفَعْ قَضِيبَكَ، فَوَاللَّهِ لَرُبَّمَا رَأَيْتُ
فَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِيهِ يَلْثَمُهُ.
قَالَ: وَسَرَّحَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِحَرَمِهِ وَعِيَالِهِ إِلَى عُبَيْدِ
اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ آلِ بَيْتِ الْحُسَيْنِ إِلَّا غُلَامٌ كَانَ
مَرِيضًا مَعَ النِّسَاءِ، فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ لِيُقْتَلَ، فَطَرَحَتْ
زَيْنَبُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا يُقْتَلُ حَتَّى تَقْتُلُونِي.
فَرَقَّ لَهَا فَتَرَكَهُ وَكَفَّ عَنْهُ. قَالَ: وَجَهَّزَهُمْ وَحَمَلَهُمْ
إِلَى يَزِيدَ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ جَمَعَ مَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مِنْ
أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ أَدْخَلُوهُمْ فَهَنَّئُوهُ بِالْفَتْحِ، فَقَالَ رَجُلٌ
مِنْهُمْ أَحْمَرُ أَزْرَقُ، وَنَظَرَ إِلَى وَصِيفَةٍ مِنْ بَنَاتِهِمْ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَبْ لِي هَذِهِ. فَقَالَتْ زَيْنَبُ: لَا وَاللَّهِ
وَلَا كَرَامَةَ لَكَ وَلَا لَهُ، إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ دِينِ اللَّهِ.
قَالَ: فَأَعَادَهَا الْأَزْرَقُ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: كُفَّ عَنْ هَذَا. ثُمَّ
أَدْخَلَهُمْ عَلَى عِيَالِهِ، فَجَهَّزَهُمْ وَحُمِلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَلَمَّا دَخَلُوهَا خَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
نَاشِرَةً شَعْرَهَا وَاضِعَةً كُمَّهَا عَلَى رَأْسِهَا، تَتَلَقَّاهُمْ وَهِيَ
تَبْكِي وَتَقُولُ:
مَاذَا تَقُولُونَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ مَاذَا فَعَلْتُمْ وَأَنْتُمْ
آخِرُ الْأُمَمِ
بِعِتْرَتِي وَبِأَهْلِي بَعْدَ مُفْتَقَدِي مِنْهُمْ أُسَارَى وَقَتْلَى
ضُرِّجُوا بِدَمِ
مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي إِذْ نَصَحْتُ لَكُمْ أَنْ تَخْلُفُونِي بِسُوءٍ فِي
ذَوِي رَحِمِي
وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ
عُبَيْدٍ
أَبِي الْكَنُودِ، أَنَّ بِنْتَ عَقِيلٍ هِيَ الَّتِي قَالَتْ هَذَا الشِّعْرَ.
وَهَكَذَا حَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ زَيْنَبَ الصُّغْرَى بِنْتَ
عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هِيَ الَّتِي قَالَتْ ذَلِكَ حِينَ دَخَلَ آلُ
الْحُسَيْنِ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ فَاطِمَةَ، وَهِيَ زَوْجُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ أُمُّ بَنِيهِ، رَفَعَتْ سِجْفَ خِبَائِهَا يَوْمَ كَرْبَلَاءَ يَوْمَ
قُتِلَ الْحُسَيْنُ، وَقَالَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَمْرِو
بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عِكْرِمَةَ قَالَ:
أَصْبَحْنَا صَبِيحَةَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا مَوْلَاةٌ
لَنَا تُحَدِّثُنَا قَالَتْ: سَمِعْتُ الْبَارِحَةَ مُنَادِيًا يُنَادِي وَهُوَ
يَقُولُ:
أَيُّهَا الْقَاتِلُونَ جَهْلًا حُسَيْنًا أَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ وَالتَّنْكِيلِ
كُلُّ أَهْلِ السَّمَاءِ يَدْعُو عَلَيْكُمْ مِنْ نَبِيٍّ وَمَلْأَكٍ وَقَبِيلِ
قَدْ لُعِنْتُمْ عَلَى لِسَانِ ابْنِ دَاوُ دَ وَمُوسَى وَحَامِلِ الْإِنْجِيلِ
قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَيْزُومٍ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أُمِّهِ
قَالَتْ: سَمِعْتُ هَذَا الصَّوْتَ.
وَمِمَّا
أَنْشَدَهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ وَغَيْرُهُ
لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينِ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ:
جَاءُوا بِرَأْسِكَ يَابْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ مُتَزَمِّلًا بِدِمَائِهِ تَزْمِيلَا
وَكَأَنَّمَا بِكَ يَابْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ قَتَلُوا جَهَارًا عَامِدِينَ
رَسُولَا
قَتَلُوكَ عَطْشَانًا وَلَمْ يَتَرَقَّبُوا فِي قَتْلِكَ التَّنْزِيلَ
وَالتَّأْوِيلَا
وَيُكَبِّرُونَ بِأَنْ قُتِلْتَ وَإِنَّمَا قَتَلُوا بِكَ التَّكْبِيرَ
وَالتَّهْلِيلَا
فَصْلٌ ( الْإِخْبَارُ بِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا )
وَكَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ -
وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَبُو نُعَيْمٍ: يَوْمَ السَّبْتِ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ:
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ. وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ. وَقَالَ
ابْنُ لَهِيعَةَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
سَنَةَ سِتِّينَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الطَّفُّ.
بِكَرْبَلَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ
سَنَةً أَوْ نَحْوُهَا، وَأَخْطَأَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ قُتِلَ
وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ وَسِتُّونَ سَنَةً.
قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانَ، ثَنَا
عُمَارَةُ، يَعْنِي ابْنَ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ اسْتَأْذَنُ
مَلَكُ الْقَطْرِ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَأُمِّ سَلَمَةَ: " احْفَظِي عَلَيْنَا الْبَابَ لَا
يَدْخُلُ أَحَدٌ ". فَجَاءَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَوَثَبَ حَتَّى
دَخَلَ، فَجَعَلَ يَصْعَدُ عَلَى مَنْكِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: أَتُحِبُّهُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ ". قَالَ: فَإِنَّ أُمَّتَكَ
تَقْتُلُهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ الْمَكَانَ الَّذِي يُقْتَلُ فِيهِ. قَالَ:
فَضَرَبَ بِيَدِهِ، فَأَرَاهُ تُرَابًا أَحْمَرَ، فَأَخَذَتْ أُمُّ سَلَمَةَ
ذَلِكَ التُّرَابَ، فَصَرَّتْهُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهَا. قَالَ: فَكُنَّا نَسْمَعُ:
يُقْتَلُ بِكَرْبَلَاءَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَوْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِإِحْدَاهُمَا: " "
لَقَدْ دَخَلَ عَلِيَّ الْبَيْتَ مَلَكٌ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيَّ قَبْلَهَا، فَقَالَ
لِي: إِنَّ ابْنَكَ هَذَا حُسَيْنٌ مَقْتُولٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ الْأَرْضَ
الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا ". قَالَ: " فَأَخْرَجَ تُرْبَةً حَمْرَاءَ
". وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَفِيهِ قِصَّةُ أُمِّ
سَلَمَةَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِ رِوَايَةِ
أُمِّ سَلَمَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثٍ زَيْنَبَ
بِنْتِ جَحْشٍ وَلُبَابَةَ أُمِّ الْفَضْلِ
امْرَأَةِ
الْعَبَّاسِ. وَأَرْسَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ أَبُو
بَكْرٍ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّقِّيُّ وَعَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ الرَّازِيُّ قَالَا: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
وَاقِدٍ الْحَرَّانِيُّ، ثَنَا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا أَشْعَثُ بْنُ
سُحَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ الْحَارِثِ يَقُولُ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ ابْنِي
هَذَا - يَعْنِي الْحُسَيْنَ - يُقْتَلُ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: كَرْبَلَاءُ.
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ ذَلِكَ فَلْيَنْصُرْهُ ". قَالَ: فَخَرَجَ أَنَسُ
بْنُ الْحَارِثِ إِلَى كَرْبَلَاءَ فَقُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا
أَعْلَمُ رَوَى غَيْرَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا
شُرَحْبِيلُ بْنُ مُدْرِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُجَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّهُ سَارَ مَعَ عَلِيٍّ - وَكَانَ صَاحِبَ مَطْهَرَتِهِ - فَلَمَّا حَاذَى
نِينَوَى وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ فَنَادَى عَلِيٌّ: اصْبِرْ أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ، اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بِشَطِّ الْفُرَاتِ. قُلْتُ: وَمَاذَا
؟ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ
يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَغْضَبَكَ أَحَدٌ
؟ وَمَا شَأْنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ ؟ قَالَ: " بَلْ قَامَ مِنْ عِنْدِي
جِبْرِيلُ قَبْلُ، فَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ
بِشَطِّ
الْفُرَاتِ ". قَالَ: " فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ أُشِمَّكَ مِنْ
تُرْبَتِهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَمَدَّ يَدَهُ، فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ
فَأَعْطَانِيهَا، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ أَنْ فَاضَتَا ". تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ
مِثْلَهُ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ مَرَّ بِكَرْبَلَاءَ، عِنْدَ أَشْجَارِ الْحَنْظَلِ،
وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى صِفِّينَ، فَسَأَلَ عَنِ اسْمِهَا فَقِيلَ: كَرْبَلَاءُ.
فَقَالَ: كَرْبٌ وَبَلَاءٌ. فَنَزَلَ وَصَلَّى عِنْدَ شَجَرَةٍ هُنَاكَ، ثُمَّ
قَالَ: يُقْتَلُ هَاهُنَا شُهَدَاءُ هُمْ خَيْرُ الشُّهَدَاءِ غَيْرَ
الصَّحَابَةِ، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ
هُنَاكَ، فَعَلَّمُوهُ بِشَيْءٍ، فَقُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ آثَارٌ فِي كَرْبَلَاءَ. وَقَدْ حَكَى
أَبُو الْجَنَابِ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَهْلَ كَرْبَلَاءَ لَا
يَزَالُونَ يَسْمَعُونَ نَوْحَ الْجِنِّ عَلَى الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَهُنَّ يَقُلْنَ:
مَسَحَ الرَّسُولُ جَبِينَهُ فَلَهُ بَرِيقٌ فِي الْخُدُودِ أَبَوَاهُ مِنْ عَلْيَا
قُرَيْ
شٍ جَدُّهُ خَيْرُ الْجُدُودِ
وَقَدْ أَجَابَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ:
خَرَجُوا بِهِ وَفَدًا إِلَيْ هِ فَهُمْ لَهُ شَرُّ الْوُفُودِ
قَتَلُوا
ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّهِمْ سَكَنُوا بِهِ نَارَ الْخُلُودِ
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ ذَهَبُوا فِي غَزْوَةٍ
إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَوَجَدُوا فِي كَنِيسَةٍ مَكْتُوبًا:
أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ
فَسَأَلُوهُمْ: مَنْ كَتَبَ هَذَا ؟ فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا مَكْتُوبٌ هَاهُنَا
مِنْ قَبْلِ مَبْعَثِ نَبِيِّكُمْ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوهُ رَجَعُوا، فَبَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ
الْخَمْرَ، وَالرَّأْسُ مَعَهُمْ، فَبَرَزَ لَهُمْ قَلَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَرَسَمَ
لَهُمْ فِي الْحَائِطِ بِدَمٍ هَذَا الْبَيْتَ
أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَفَّانُ، ثَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ
بِنِصْفِ النَّهَارِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، مَعَهُ قَارُورَةٌ فِيهَا دَمٌ، فَقُلْتُ:
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا ؟ قَالَ: " هَذَا
دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، لَمْ أَزَلْ أَلْتَقِطُهُ مُنْذُ الْيَوْمِ
". قَالَ عَمَّارٌ: فَأَحْصَيْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ
قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
هَانِئٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّحْوِيُّ،
ثَنَا مَعْدِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ
قَالَ اسْتَيْقَظَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ نَوْمِهِ فَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: قُتِلَ
الْحُسَيْنُ وَاللَّهِ. فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: كَلَّا يَابْنَ عَبَّاسٍ كَلَّا
! قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ
زُجَاجَةٌ مِنْ دَمٍ، فَقَالَ، أَلَا تَعْلَمُ مَا صَنَعَتْ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي
؟ قَتَلُوا ابْنِي الْحُسَيْنَ، وَهَذَا دَمُهُ وَدَمُ أَصْحَابِهِ أَرْفَعُهُمَا
إِلَى اللَّهِ. قَالَ: فَكُتِبَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ فِيهِ وَتِلْكَ
السَّاعَةُ، فَمَا لَبِثُوا إِلَّا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا حَتَّى
جَاءَهُمُ الْخَبَرُ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتِلْكَ
السَّاعَةِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ
الْأَحْمَرِ، عَنْ رَزِينٍ، عَنْ سَلْمَى قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ
وَهِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ ؟ فَقَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَعَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ
التُّرَابُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: شَهِدْتُ قَتْلَ
الْحُسَيْنِ آنِفًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ
عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ أُمِّ
سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْنَا
صَارِخَةً، فَأَقْبَلَتْ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ:
قُتِلَ الْحُسَيْنُ. فَقَالَتْ: قَدْ فَعَلُوهَا، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ -
أَوْ بُيُوتَهُمْ - عَلَيْهِمْ نَارًا.
وَوَقَعَتْ
مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، وَقُمْنَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ،
ثَنَا، حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ
قَالَتْ: سَمِعْتُ الْجِنَّ يَبْكِينَ عَلَى حُسَيْنٍ، وَسَمِعْتُ الْجِنَّ
تَنُوحُ عَلَى حُسَيْنٍ.
وَرَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أُمِّهِ،
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ الْجِنَّ تَنُوحُ عَلَى الْحُسَيْنِ،
وَهُنَّ يَقُلْنَ
أَيُّهَا الْقَاتِلُونَ ظُلْمًا حُسَيْنًا أَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ وَالتَّنْكِيلِ
كُلُّ أَهْلِ السَّمَاءِ يَدْعُو عَلَيْكَمْ مِنْ نَبِيٍّ وَمُرْسَلٍ وَقَبِيلِ
قَدْ لُعِنْتُمْ عَلَى لَسَانِ ابْنِ دَاوُدَ وَمُوسَى وَصَاحِبِ الْإِنْجِيلِ
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِشِعْرٍ آخَرَ غَيْرِ
هَذَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَيَّاحٍ
السُّكَّرِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الشَّافِعِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَدَّادٍ الْمِسْمَعِيُّ، ثَنَا أَبُو
نُعَيْمٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى
إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي قَتَلْتُ بِيَحْيَى
بْنِ زَكَرِيَّا سَبْعِينَ أَلْفًا، وَأَنَا قَاتِلٌ بِابْنِ ابْنَتِكَ سَبْعِينَ
أَلْفًا وَسَبْعِينَ أَلْفًا. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ
رَوَاهُ
الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ ". وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ
هَاهُنَا آثَارًا غَرِيبَةً جِدًّا.
وَلَقَدْ بَالَغَ الشِّيعَةُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَوَضَعُوا أَحَادِيثَ
كَثِيرَةً وَكَذِبًا فَاحِشًا ; مِنْ كَوْنِ الشَّمْسِ كَسَفَتْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى
بَدَتِ النُّجُومُ، وَمَا رُفِعَ يَوْمَئِذٍ حَجَرٌ إِلَّا وُجِدَ تَحْتَهُ دَمٌ،
وَأَنَّ أَرْجَاءَ السَّمَاءِ احْمَرَّتْ، وَأَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ تَطْلُعُ
وَشُعَاعُهَا كَأَنَّهُ دَمٌ، وَصَارَتِ السَّمَاءُ كَأَنَّهَا عَلَقَةٌ، وَأَنَّ
الْكَوَاكِبَ صَارَ يَضْرِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ دَمًا
أَحْمَرَ، وَأَنَّ الْحُمْرَةَ لَمْ تَكُنْ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ يَوْمِئِذٍ.
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ الْمُعَافِرِيِّ، أَنَّ الشَّمْسَ
كَسَفَتْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى بَدَتِ النُّجُومُ وَقْتَ الظُّهْرِ. وَأَنَّ رَأْسَ
الْحُسَيْنِ لَمَّا دَخَلُوا بِهِ قَصْرَ الْإِمَارَةِ جَعَلَتِ الْحِيطَانُ
تَسِيلُ دَمًا. وَأَنَّ الْأَرْضَ أَظْلَمَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَلَمْ يُمَسَّ
زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ مِمَّا كَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا احْتَرَقَ مَنْ
مَسَّهُ. وَلَمْ يُرْفَعْ حَجَرٌ مِنْ حِجَارَةِ بَيْتِ الْمَقَدْسِ إِلَّا ظَهَرَ
تَحْتَهُ دَمٌ عَبِيطٌ. وَأَنَّ الْإِبِلَ الَّتِي غَنِمُوهَا مِنْ إِبِلِ
الْحُسَيْنِ حِينَ طَبَخُوهَا صَارَ لَحْمُهَا مِثْلَ الْعَلْقَمِ. إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ
مِنْهَا شَيْءٌ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنَ الْأُمُورِ وَالْفِتَنِ الَّتِي أَصَابَتْ مَنْ قَتَلَهُ
فَأَكْثَرُهَا صَحِيحٌ ; فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا
إِلَّا أُصِيبَ بِمَرَضٍ، وَأَكْثَرُهُمْ أَصَابَهُ الْجُنُونُ.
وَلِلشِّيعَةِ وَالرَّافِضَةِ فِي صِفَةِ مَصْرَعِ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، كَذِبٌ كَثِيرٌ وَأَخْبَارٌ طَوِيلَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ،
وَفِي بَعْضِ مَا أَوْرَدْنَاهُ نَظَرٌ، وَلَوْلَا أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ
وَغَيْرَهُ
مِنَ الْحُفَّاظِ الْأَئِمَّةِ ذَكَرُوهُ مَا سُقْتُهُ، وَأَكْثَرُهُ مِنْ
رِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى، وَقَدْ كَانَ شِيعِيًّا، وَهُوَ
ضَعِيفُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَارِيٌّ حَافِظٌ،
عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَتَرَامَى
عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ مِمَّنْ بَعْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَسْرَفَ الرَّافِضَةُ فِي دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهٍ فِي حُدُودِ
الْأَرْبَعِمِائَةٍ وَمَا حَوْلَهَا، فَكَانَتِ الدَّبَادِبُ تُضْرَبُ بِبَغْدَادَ
وَنَحْوِهَا مِنَ الْبِلَادِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَيُذَرُّ الرَّمَادُ
وَالتِّبْنُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ، وَتُعَلَّقُ الْمُسُوحُ عَلَى
الدَّكَاكِينِ، وَيُظْهِرُ النَّاسُ الْحُزْنَ وَالْبُكَاءَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ لَيْلَتَئِذٍ مُوَافَقَةً لَلْحُسَيْنِ، لَأَنَّهُ قُتِلَ
عَطْشَانَ، ثُمَّ تَخْرُجُ النِّسَاءُ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ يَنُحْنَ
وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ وَصُدُورَهُنَّ، حَافِيَاتٍ فِي الْأَسْوَاقِ، إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ، وَالْأَهْوَاءِ الْفَظِيعَةِ، وَالْهَتَائِكِ
الْمُخْتَرَعَةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ أَنْ يُشَنِّعُوا
عَلَى دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ ; لَأَنَّهُ قُتِلَ فِي أَيَّامِهِمْ.
وَقَدْ عَاكَسَ الرَّافِضَةَ وَالشِّيعَةَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ النَّوَاصِبُ مِنْ
أَهْلِ الشَّامِ فَكَانُوا فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَطْبُخُونَ الْحُبُوبَ
وَيَغْتَسِلُونَ وَيَتَطَيَّبُونَ وَيَلْبَسُونَ أَفْخَرَ ثِيَابِهِمْ،
وَيَتَّخِذُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، يَصْنَعُونَ فِيهِ أَنْوَاعَ
الْأَطْعِمَةِ، وَيُظْهِرُونَ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ ; يُرِيدُونَ بِذَلِكَ
عِنَادَ الرَّوَافِضِ وَمُعَاكَسَتَهُمْ.
وَقَدْ تَأَوَّلَ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ أَنَّهُ جَاءَ لَيُفَرِّقَ كَلِمَةَ
الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ
اجْتِمَاعِهَا،
وَلِيَخْلَعَ مَنْ بَايَعَهُ النَّاسُ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي
" صَحِيحِ مُسْلِمٍ " الْحَدِيثُ بِالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ،
وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَالتَّوَعُّدِ عَلَيْهِ، وَبِتَقَدْيرِ أَنْ تَكُونَ
طَائِفَةٌ مِنَ الْجَهَلَةِ قَدْ تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ قَتْلُهُ، بَلْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِجَابَتُهُ إِلَى مَا سَأَلَ مِنْ
تِلْكَ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، فَإِذَا ذُمَّتْ
طَائِفَةٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ لَمْ تُذَمَّ الْأُمَّةُ بِكَمَالِهَا وَتُتَّهَمْ
عَلَى نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا
ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَلَا كَمَا سَلَكُوهُ، بَلْ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ قَدْيمًا
وَحَدِيثًا كَارِهٌ مَا وَقَعَ مِنْ قَتْلِهِ وَقَتْلِ أَصْحَابِهِ سِوَى
شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ،
وَأَكْثَرُهُمْ كَانُوا قَدْ كَاتَبُوهُ لَيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى أَغْرَاضِهِمْ
وَمَقَاصِدِهِمُ الْفَاسِدَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ ابْنُ زِيَادٍ مِنْهُمْ
بَلَّغَهُمْ مَا يُرِيدُونَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَخَذَهُمْ عَلَى ذَلِكَ،
وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، فَانْكَفُّوا عَنِ
الْحُسَيْنِ وَخَذَلُوهُ ثُمَّ قَتَلُوهُ، وَلَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ الْجَيْشِ كَانَ
رَاضِيًا بِمَا وَقَعَ مِنْ قَتْلِهِ، بَلْ وَلَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ
بِذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَلَا كَرِهَهُ، وَالَّذِي يَكَادُ يَغْلِبُ
عَلَى الظَّنِّ أَنَّ يَزِيدَ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ لَعَفَا
عَنْهُ، كَمَا أَوْصَاهُ بِذَلِكَ أَبُوهُ، وَكَمَا صَرَّحَ هُوَ بِهِ مُخْبِرًا
عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ.
وَقَدْ لَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ عَلَى فِعْلِهِ ذَلِكَ وَشَتَمَهُ فِيمَا يَظْهَرُ
وَيَبْدُو، وَلَكِنْ لَمْ يَعْزِلْهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا عَاقَبَهُ وَلَا أَرْسَلَ
يَعِيبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَكُلُّ
مُسْلِمٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْزِنَهُ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْ قَتْلِهِ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ
الصَّحَابَةِ، وَابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ بْناتِهِ، وَقَدْ كَانَ عَابِدًا وَشُجَاعًا وَسَخِيًّا،
وَلَكِنْ لَا يُحْسِنُ مَا يَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ مِنْ إِظْهَارِ الْجَزَعِ
وَالْحُزْنِ الَّذِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُ تَصَنُّعٌ وَرِيَاءٌ، وَقَدْ كَانَ
أَبُوهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَهُمْ لَا يَتَّخِذُونَ مَقْتَلَهُ مَأْتَمًا كَيَوْمِ
مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، فَإِنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ خَارِجٌ
إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ
أَرْبَعِينَ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ، عِنْدَ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ قُتِلَ وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي دَارِهِ فِي
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ،
وَقَدْ ذُبِحَ مِنَ الْوَرِيدِ إِلَى الْوَرِيدِ، وَلَمْ يَتَّخِذِ النَّاسُ
يَوْمَ مَقْتَلِهِ مَأْتَمًا، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ
أَفْضَلُ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، قُتِلَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرَابِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَتَّخِذِ
النَّاسَ يَوْمَ قَتْلِهِ مَأْتَمًا، وَكَذَلِكَ الصِّدِّيقُ كَانَ أَفْضَلَ
مِنْهُ، وَلَمْ يَتَّخِذِ النَّاسُ يَوْمَ وَفَاتِهِ مَأْتَمًا، وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ كَمَا مَاتَ الْأَنْبِيَاءُ
قَبْلَهُ، وَلَمْ يَتَّخِذْ أَحَدٌ يَوْمَ مَوْتِهِ مَأْتَمًا يَفْعَلُونَ فِيهِ
مَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنَ الرَّافِضَةِ يَوْمَ مَصْرَعِ
الْحُسَيْنِ، وَلَا ذَكَرَ أَحَدٌ أَنَّهُ ظَهَرَ يَوْمَ مَوْتِهِمْ وَقِبَلَهُمْ
شَيْءٌ مِمَّا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ يَوْمَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ مِنَ الْأُمُورِ
الْمُتَقَدِّمَةِ، مِثْلَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْحُمْرَةِ الَّتِي تَطْلُعُ فِي
السَّمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَصَائِبِ وَأَمْثَالِهَا مَا
رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ،
عَنْ
جَدِّهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا
مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَتَذَكَّرُهَا وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا،
فَيُحْدِثُ لَهَا اسْتِرْجَاعًا، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ
يَوْمٍ أُصِيبَ بِهَا ". رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَأَمَّا قَبْرُ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ فِي مَشْهَدِ عَلِيٍّ
بِمَكَانٍ مِنَ الطَّفِّ عِنْدَ نَهْرِ كَرْبَلَاءَ، فَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ
الْمَشْهَدَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَبْرِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَوْضِعَ مَقْتَلِهِ عَفَا أَثَرُهُ، حَتَّى لَمْ
يَطَّلِعْ أَحَدٌ عَلَى تَعْيِينِهِ بِخَبَرٍ. وَقَدْ كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ
الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْرِفُ قَبْرَ
الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا أُجْرِيَ عَلَى قَبْرِ
الْحُسَيْنِ لَيُمْحَى أَثَرُهُ نَضَبَ الْمَاءُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ قَبْضَةً قَبْضَةً،
وَيَشُمُّهَا حَتَّى وَقَعَ عَلَى قَبْرِ الْحُسَيْنِ، فَبَكَى وَقَالَ: بِأَبِي
أَنْتَ وَأُمِّي، مَا كَانَ أَطْيَبَكَ وَأَطْيَبَ تُرْبَتِكَ ! ثُمَّ أَنْشَأَ
يَقُولُ:
أَرَادُوا لَيُخْفُوا قَبْرَهُ عَنْ عَدُوِّهِ فَطِيبُ تُرَابِ الْقَبْرِ دَلَّ
عَلَى الْقَبْرِ
وَأَمَّا رَأْسُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَالْمَشْهُورُ بَيْنَ أَهْلِ التَّارِيخِ وَعُلَمَاءِ السِّيَرِ أَنَّهُ بَعَثَ
بِهِ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَكَانَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الرَّأْسُ ;
فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ
أَنَّ
يَزِيدَ بَعَثَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ نَائِبِ
الْمَدِينَةِ فَدَفَنَهُ عِنْدَ أُمِّهِ بِالْبَقِيعِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ صَالِحٍ - وَهُمَا ضَعِيفَانِ - أَنَّ الرَّأْسَ
لَمْ يَزَلْ فِي خِزَانَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَأُخِذَ
مِنْ خِزَانَتِهِ، فَكُفِّنَ وَدُفِنَ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ مِنْ مَدِينَةِ
دِمَشْقَ. قُلْتُ: وَيُعْرَفُ مَكَانُهُ بِمَسْجِدِ الرَّأْسِ الْيَوْمَ دَاخِلَ
بَابِ الْفَرَادِيسِ الثَّانِي.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " فِي تَرْجَمَةِ
رَيَّا حَاضِنَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَنَّ يَزِيدَ حِينَ وَضَعَ رَأَسَ
الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ تَمَثَّلَ بِشِعْرِ ابْنِ الزِّبْعَرَى، يَعْنِي قَوْلَهُ:
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلْ
قَالَتْ: ثُمَّ نَصَبَهُ بِدِمَشْقَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ وُضِعَ فِي
خَزَائِنِ السِّلَاحِ، حَتَّى كَانَ زَمَانُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
فَجِيءَ بِهِ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَقِيَ عَظْمًا أَبْيَضَ، فَكَفَّنَهُ وَطَيَّبَهُ
وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدَفَنَهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا جَاءَتِ
الْمُسَوِّدَةُ - يَعْنِي بَنِي الْعَبَّاسِ - نَبَشُوا عَنْ رَأْسِ الْحُسَيْنِ
وَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ
بَقِيَتْ بَعْدَ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَقَدْ جَاوَزَتِ الْمِائَةَ سَنَةٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَادَّعَتِ
الطَّائِفَةُ الْمُسَمَّوْنَ بِالْفَاطِمِيِّينَ، الَّذِينَ مَلَكُوا الدِّيَارَ
الْمِصْرِيَّةَ قَبْلَ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى مَا بَعْدَ سَنَةِ سِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، أَنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ وَصَلَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَدَفَنُوهُ بِهَا وَبَنُوا عَلَيْهِ الْمَشْهَدَ الْمَشْهُورَ
بِهِ بِمِصْرَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: تَاجُ الْحُسَيْنِ. بَعْدَ سَنَةِ خَمْسِمِائَةٍ.
وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا
أَصْلَ لَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يُرَوِّجُوا بِذَلِكَ بُطْلَانَ مَا
ادَّعَوْهُ مِنَ النَّسَبِ الشَّرِيفِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَذَبَةٌ خَوَنَةٌ،
وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي الْبَاقِلَانِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ فِي دَوْلَتِهِمْ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ،
كَمَا سَنُبَيِّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِهِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَمَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنِ الْمُحْرِمِ
يَقْتُلُ الذُّبَابَ، فَقَالَ: أَهْلُ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ عَنْ قَتْلِ
الذُّبَابِ،
وَقَدْ
قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ !
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُمَا
رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا " ؟ ! وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ مُكْرَمٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ بِهِ نَحْوَهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَأَلَ
ابْنَ عُمَرَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
انْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ
قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي
الْجَحَّافِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ
أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي ". يَعْنِي حَسَنًا
وَحُسَيْنًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا تَلِيدُ بْنُ سُلَيْمانَ، كُوفِيٌّ، ثَنَا
أَبُو الْجَحَّافِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَظَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ
وَالْحُسَيْنِ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ: " أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُمْ،
سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُمْ ". تَفَرَّدَ بِهِمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، ثَنَا حَجَّاجٌ، يَعْنِي
ابْنَ دِينَارٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، هَذَا عَلَى عَاتِقِهِ،
وَهَذَا عَلَى عَاتِقِهِ،
وَهُوَ
يَلْثَمُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتُحِبُّهُمَا. فَقَالَ: "
مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي
". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ
الْأَشَجُّ، حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ
أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: " الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ". قَالَ: وَكَانَ
يَقُولُ: " ادْعُ لِيَ ابْنَيَّ ". فَيَشُمُّهُمَا وَيَضُمُّهُمَا
إِلَيْهِ. وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ بِهِ،
وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ وَعَفَّانُ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَنَسٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِبَيْتِ
فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَيَقُولُ:
" الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ
عَفَّانَ بِهِ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، ثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ
الْبَرَاءِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ
حَسَنًا وَحُسَيْنًا
فَقَالَ:
" اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ". ثُمَّ قَالَ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ وَاقِدٍ، وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ
وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا، إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ،
فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمِنْبَرِ
فَحَمَلَهُمَا، فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " صَدَقَ
اللَّهُ: " إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ "
فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ
أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا ". وَهَذَا لَفْظُ
التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ
بْنِ وَاقِدٍ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
رَاشِدٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ
اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الْأَسْبَاطِ ". ثُمَّ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ،
عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ بِهِ. وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ،
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ
سَعْدٍ،
عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنْ يَزِيدَ
بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ، عَنْ
مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
نُعْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، إِلَّا ابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
". وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
الْفَزَارِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
حَازِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
أَبِي سَابِطٍ قَالَ:دَخَلَ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ جَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ
إِلَى
سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ". سَمِعْتُهُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ
مَيْسَرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زِرِّ بْنِ
حُبَيْشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّ أُمَّهُ بَعَثَتْهُ لَيَسْتَغْفِرَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهَا. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ
فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ صَلَّى حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ
انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ، فَسَمِعَ صَوْتِي فَقَالَ: " مَنْ هَذَا ؟
حُذَيْفَةُ ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " مَا حَاجَتُكَ ؟ غَفَرَ
اللَّهُ لَكَ وَلِأُمِّكَ، إِنَّ هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى الْأَرْضِ
قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ
وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ
الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ " ثُمَّ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ
إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، وَمِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ نَفْسِهِ، وَعُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي
أَسَانِيدِهِ كُلِّهَا ضَعْفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَيَقُولُ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: " مَنْ أَحَبَّنِي
فَلْيُحِبَّ هَذَيْنِ ".
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ،
يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَرْمَلَةَ،
عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ رَجُلًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضُمُّ إِلَيْهِ حَسَنًا وَحُسَيْنًا وَيَقُولُ: "
اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ شَيْءٌ يُشْبِهُ هَذَا، وَفِيهِ
ضَعْفٌ وَسَقَمٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا كَامِلٌ،
وَأَبُو الْمُنْذِرِ أَنَا كَامِلٌ - قَالَ أَسْوَدُ: أَنَا الْمَعْنَى - عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كُنَّا نُصْلِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا أَخْذًا
رَفِيقًا، فَيَضَعُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا، حَتَّى قَضَى
صَلَاتَهُ أَقْعَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ. قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرُدُّهُمَا ؟ فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَقَالَ لَهُمَا: "
الْحَقَا بِأُمِّكُمَا ". قَالَ: فَمَكَثَ ضَوْءُهَا حَتَّى دَخَلَا.
وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنُ عُثْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
وَعُمَرَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا.
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، ثَنَا قَيْسُ
بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْمِقَدْامِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْرَقِ،
عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى الْمَنَامَةِ، فَاسْتَسْقَى الْحَسَنُ أَوِ
الْحُسَيْنُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
شَاةٍ لَنَا بَكِئٍ فَحَلَبَهَا فَدَرَّتْ، فَجَاءَهُ الْآخَرُ فَنَحَّاهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، كَأَنَّهُ أَحَبَّهُمَا إِلَيْكَ ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنَّهُ
اسْتَسْقَى قَبْلَهُ ". ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي وَإِيَّاكِ وَهَذَيْنِ
وَهَذَا الرَّاقِدَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". تَفَرَّدَ
بِهِ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ مَيْمُونَةَ وَأُمِّ
سَلَمَةَ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُحِبُّهُمَا وَيُكْرِمُهُمَا
وَيَحْمِلُهُمَا وَيُعْطِيهِمَا فِي الدِّيوَانِ كَمَا يُعْطِي أَبَاهُمَا، وَجِيءَ
مَرَّةً بِحُلَلٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ،
وَلَمْ يُعْطِهِمَا مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصْلُحُ
لَهُمَا. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى نَائِبِ الْيَمَنِ، فَاسْتَعْمَلَ لَهُمَا
حُلَّتَيْنِ تُنَاسِبُهُمَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ ثَنَا يُونُسُ بْنُ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ
الْعَيْزَارِ
بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: بَيْنَمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ
الْكَعْبَةِ إِذْ رَأَى الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ مُقْبِلًا، فَقَالَ: هَذَا
أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ
الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ
وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، وَهُمْ صِغَارٌ
لَمْ يَبْلُغُوا، وَلَمْ يُبَايِعْ صَغِيرًا إِلَّا مِنَّا. وَهَذَا مُرْسَلٌ
غَرِيبٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ قَالَ: حَجَّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ حَجَّةً
مَاشِيًا، وَنَجَائِبُهُ تُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ،
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ
حَجَّ مَاشِيًا، وَإِنَّ نَجَائِبَهُ تُقَادُ وَرَاءَهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ
ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْحَسَنُ أَخُوهُ، كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: جَرَى بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَلَامٌ
فَتَهَاجَرَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْبَلَ الْحَسَنُ إِلَى
الْحُسَيْنِ، فَأَكَبَّ عَلَى رَأْسِهِ فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي
مَنَعَنِي
مِنِ ابْتِدَائِكَ بِهَذَا أَنِّي رَأَيْتُ أَنَّكَ أَحَقُّ بِالْفَضْلِ مِنِّي،
فَكَرِهْتُ أَنْ أُنَازِعَكَ مَا أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ.
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، أَنَّ الْحَسَنَ كَتَبَ إِلَى
الْحُسَيْنِ يَعِيبُ عَلَيْهِ إِعْطَاءَ الشُّعَرَاءِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنَّ
خَيْرَ الْمَالِ مَا وَقَى الْعِرْضَ.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ مُحَمَّدُ بْنُ
حَنِيفَةَ الْوَاسِطِيُّ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْبَرَاءِ
الْغَنَوِيُّ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ: كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ
عَلِيٍّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ، فَأَوْسَعَ لَهُ
النَّاسُ، وَالْفَرَزْدَقُ بْنُ غَالِبٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا
أَبَا فِرَاسٍ، مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ
وَالْحَرَمُ هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ
هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ
رَاحَتِهِ
رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ
قَائِلُهَا
إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ
مَهَابَتِهِ
فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
فِي
كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهَا عَبِقٌ
بِكَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
نِسْبَتُهُ
طَابَتْ عَنَاصِرُهُ وَالْخِيمُ وَالشِّيَمُ لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ
غَايَتِهِ
وَلَا يُدَانِيهِ قَوْمٌ إِنْ هُمُ كَرُمُوا أَيُّ الْعَشَائِرِ لَيْسَتْ فِي
رِقَابِهِمُ
لَأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَوْ لَهُ نِعَمُ مَنْ يَعْرِفِ اللَّهَ يَعْرِفْ
أَوَّلِيَّةَ ذَا
فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الْأُمَمُ
هَكَذَا أَوْرَدَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الْحُسَيْنِ فِي "
مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ " وَهُوَ غَرِيبٌ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهَا مِنْ
قِيلِ الْفَرَزْدَقِ فِي عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، لَا فِي أَبِيهِ، وَهُوَ
أَشْبَهُ ; فَإِنَّ الْفَرَزْدَقَ لَمْ يَرَ الْحُسَيْنَ إِلَّا وَهُوَ مُقْبِلٌ
إِلَى الْحَجِّ وَالْحُسَيْنُ ذَاهِبٌ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَأَلَ الْحُسَيْنُ
الْفَرَزْدَقَ عَنِ النَّاسِ، فَذَكَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّ
الْحُسَيْنَ قُتِلَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهُ بِأَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، فَمَتَى
رَآهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ؟ ! وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى هِشَامٌ، عَنْ عَوَانَةَ قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ
لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبْتُهُ إِلَيْكَ فِي قَتْلِ
الْحُسَيْنِ ؟ فَقَالَ: مَضَيْتُ لَأَمْرِكَ وَضَاعَ الْكِتَابُ. فَقَالَ لَهُ
ابْنُ زِيَادٍ: لَتَجِيئَنَّ بِهِ. قَالَ: ضَاعَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَتَجِيئَنَّ
بِهِ. قَالَ: تُرِكَ وَاللَّهِ يُقْرَأُ عَلَى عَجَائِزِ قُرَيْشٍ أَعْتَذِرُ
إِلَيْهِنَّ بِالْمَدِينَةِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ نَصَحْتُكَ فِي حُسَيْنٍ
نَصِيحَةً لَوْ نَصَحْتُهَا أَبِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ لَكُنْتُ قَدْ
أَدَّيْتُ حَقَّهُ. فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ زِيَادٍ أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ:
صَدَقَ عُمَرُ وَاللَّهِ، وَلَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَنِي زِيَادٍ
رَجُلٌ إِلَّا وَفَى أَنْفِهِ خِزَامَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ
حُسَيْنًا لَمْ يُقْتَلْ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ
عُبَيْدُ اللَّهِ.
فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَشْعَارِهِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ
فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ كَامِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
اغْنَ عَنِ الْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ تَغْنَ عَنِ الْكَاذِبِ وَالصَّادِقِ
وَاسْتَرْزِقِ الرَّحْمَنَ مِنْ فَضْلِهِ
فَلَيْسَ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ رَازِقٍ مَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّاسَ يُغْنُونَهُ
فَلَيْسَ بِالرَّحْمَنِ بِالْوَاثِقِ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الْمَالَ مِنْ كَسْبِهِ
زَلَّتْ بِهِ النَّعْلَانِ مِنْ حَالِقٍ
وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ:
كُلَّمَا زِيدَ صَاحِبُ الْمَالِ مَالًا زِيدَ فِي هَمِّهِ وَفِي الِاشْتِغَالِ
قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا مُنَغِّصَةَ الْعَيْ شِ وَيَا دَارَ كُلِّ فَانٍ وَبَالِ
لَيْسَ يَصْفُوَا لِزَاهِدٍ طَلَبُ الزُّهْ دِ إِذَا كَانَ مُثْقَلًا بِالْعِيَالِ
وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ زَارَ
مَقَابِرَ الشُّهَدَاءِ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ:
نَادَيْتُ
سُكَّانَ الْقُبُورِ فَأَسْكَتُوا وَأَجَابَنِي عَنْ صَمْتِهِمْ نَدْبُ الْجُثَى
قَالَتْ أَتَدْرِي مَا صَنَعْتُ بِسَاكِنِيَّ مَزَّقْتُ أَلْحُمَهُمْ وَخَرَّقْتُ
الْكُسَا
وَحَشَوْتُ أَعْيُنَهُمْ تُرَابًا بَعْدَ مَا كَانَتْ تَأَذَّى بِالْيَسِيرِ مِنَ
الْقَذَى
أَمَّا الْعِظَامُ فَإِنَّنِي مَزَّقْتُهَا حَتَّى تَبَايَنَتِ الْمَفَاصِلُ
وَالشَّوَى
قَطَّعْتُ ذَا مِنْ ذَا وَمِنْ هَذَا كَذَا فَتَرَكْتُهَا رِمَمًا يَطُولُ بِهَا
الْبِلَى
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لَلْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا:
لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيَا تُعَدُّ نَفِيسَةً فَدَارُ ثَوَابِ اللَّهِ أَعَلَى
وَأَنْبَلُ
وَإِنْ كَانَتِ الْأَبْدَانُ لَلْمَوْتِ أُنْشِئَتْ فَقَتْلُ سَبِيلِ اللَّهِ
بِالسَّيْفِ أَفْضَلُ
وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْزَاقُ شَيْئًا مُقَدَّرًا فَقِلَّةُ سَعْيِ الْمَرْءِ فِي
الْكَسْبِ أَجْمَلُ
وَإِنْ كَانَتِ الْأَمْوَالُ لَلتَّرْكِ جُمِّعَتْ فَمَا بَالُ مَتْرُوكٍ بِهِ
الْمَرْءُ يَبْخَلُ
وَمِمَّا أَنْشَدَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ شِعْرِهِ فِي امْرَأَتِهِ
الرَّبَابِ بِنْتِ أُنَيْفٍ، وَيُقَالُ:
بِنْتُ
امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَوْسٍ الْكَلْبِيِّ، أُمِّ ابْنَتِهِ
سُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي لَأُحِبُّ دَارًا تَحُلُّ بِهَا سُكَيْنَةُ وَالرَّبَابُ
أُحِبُّهُمَا وَأَبْذُلُ جُلَّ مَالِي وَلَيْسَ لِلَائِمِي فِيهَا عِتَابُ
وَلَسْتُ لَهُمْ وَإِنْ عَتَبُوا مُطِيعًا حَيَاتِيَ أَوْ يُغَيِّبَنِي التُّرَابُ
وَقَدْ أَسْلَمَ أَبُوهَا عَلَى يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَمَّرَهُ
عُمَرُ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ خَطَبَ إِلَيْهِ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ مِنْ
بَنَاتِهِ، فَزَوَّجَ الْحَسَنَ ابْنَتَهُ سَلْمَى، وَالْحُسَيْنَ ابْنَتَهُ
الرَّبَابَ، وَزَوَّجَ عَلِيًّا ابْنَتَهُ الثَّالِثَةَ، وَهِيَ الْمُحَيَّاةُ
بِنْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَحَبَّ الْحُسَيْنُ
زَوْجَتَهُ الرَّبَابَ حُبًّا شَدِيدًا، وَكَانَ بِهَا مُعْجَبًا، يَقُولُ فِيهَا
الشِّعْرَ، وَلَمَّا قُتِلَ بِكَرْبَلَاءَ كَانَتْ مَعَهُ، فَوَجَدَتْ عَلَيْهِ
وَجْدًا شَدِيدًا، وَذُكِرَ أَنَّهَا أَقَامَتْ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ
انْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا
كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ
وَقَدْ خَطَبَهَا بَعْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ:
مَا كُنْتُ لِأَتَّخِذَ حَمًى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَوَاللَّهِ لَا يُؤْوِينِي وَرَجُلًا بَعْدَ الْحُسَيْنِ سَقْفٌ
أَبَدًا. وَلَمْ
تَزَلْ
عَلَيْهِ كَمِدَةً حَتَّى مَاتَتْ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا إِنَّمَا عَاشَتْ بَعْدَهُ
أَيَّامًا يَسِيرَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَابْنَتُهَا سُكَيْنَةُ بِنْتُ
الْحُسَيْنِ كَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي
زَمَانِهَا أَحْسَنُ مِنْهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ عُبَيْدَ
اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ تَفَقَّدَ أَشْرَافَ أَهْلِ
الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ،
فَتَطَلَّبَهُ حَتَّى جَاءَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ يَابْنَ
الْحُرِّ ؟ قَالَ: كُنْتُ مَرِيضًا. قَالَ: مَرِيضُ الْقَلْبِ أَمْ مَرِيضُ
الْبَدَنِ ؟ قَالَ: أَمَّا قَلْبِي فَلَمْ يَمْرَضْ، وَأَمَّا بَدَنِي فَقَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَافِيَةِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: كَذَبْتَ،
وَلَكِنَّكَ كُنْتَ مَعَ عَدُوِّنَا. قَالَ: لَوْ كُنْتُ مَعَ عَدُوِّكَ لَمْ
يَخْفَ مَكَانُ مِثْلِي، وَلَكَانَ النَّاسُ شَاهَدُوا ذَلِكَ. قَالَ: وَغَفَلَ
عَنْهُ ابْنُ زِيَادٍ غَفْلَةً، فَخَرَجَ ابْنُ الْحُرِّ، فَقَعَدَ عَلَى
فَرَسِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَبْلِغُوهُ أَنِّي لَا آتِيهِ وَاللَّهِ طَائِعًا. فَقَالَ
ابْنُ زِيَادٍ: أَيْنَ ابْنُ الْحُرِّ ؟ قَالُوا: خَرَجَ. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ.
فَخَرَجَ الشُّرَطُ فِي طَلَبِهِ، فَأَسْمَعَهُمْ غَلِيظَ مَا يَكْرَهُونَ،
وَتَرَضَّى عَنِ الْحُسَيْنِ وَأَخِيهِ وَأَبِيهِ، ثُمَّ أَسْمَعَهُمْ فِي ابْنِ
زِيَادٍ غَلِيظًا مِنَ الْقَوْلِ، ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْهُمْ، وَقَالَ فِي
الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ شِعْرًا:
يَقُولُ أَمِيرٌ غَادِرٌ حَقُّ غَادِرٍ أَلَا كُنْتَ قَاتَلْتَ الشَّهِيدَ ابْنَ
فَاطِمَهْ
فَيَا نَدَمِي أَنْ لَا أَكُونَ نَصَرْتُهُ أَلَا كُلُّ نَفْسٍ لَا تُسَدِّدُ
نَادِمَهْ
وَإِنِّي
لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهِ لَذُو حَسْرَةٍ مَا إِنْ تُفَارِقُ لَازِمَهْ
سَقَى اللَّهُ أَرْوَاحَ الَّذِينَ تَأَزَّرُوا عَلَى نَصْرِهِ سَقْيًا مِنَ
الْغَيْثِ دَائِمَهْ
وَقَفْتُ عَلَى أَجْدَاثِهِمْ وَمَجَالِهِمْ فَكَادَ الْحَشَا يَنْفَضُّ
وَالْعَيْنُ سَاجِمَهْ
لَعَمْرِي لَقَدْ كَانُوا مَصَالِيتَ فِي الْوَغَى سِرَاعًا إِلَى الْهَيْجَا
حُمَاةً خَضَارِمَهْ
تَآسَوْا عَلَى نَصْرِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِمْ بِأَسْيَافِهِمْ آسَادَ غِيلٍ
ضَرَاغِمَهْ
فَإِنْ يُقْتَلُوا فَكُلُّ نَفْسٍ تَقِيَّةٍ عَلَى الْأَرْضِ قَدْ أَضْحَتْ
لَذَلِكَ وَاجِمَهْ
وَمَا إِنْ رَأَى الرَّاءُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمُ لَدَى الْمَوْتِ سَادَاتٍ
وَزَهْرًا قَمَاقِمَهْ
أَتَقْتُلُهُمْ ظُلْمًا وَتَرْجُو وِدَادَنَا فَدَعْ خُطَّةً لَيْسَتْ لَنَا
بِمُلَائِمَهْ
لَعَمْرِي لَقَدْ رَاغَمْتُمُونَا بِقَتْلِهِمْ فَكَمْ نَاقِمٍ مِنَّا عَلَيْكُمْ
وَنَاقِمَهْ
أَهُمُّ مِرَارًا أَنْ أَسِيرَ بِجَحْفَلٍ إِلَى فِئَةٍ زَاغَتْ عَنِ الْحَقِّ
ظَالِمَهْ
فَيَا بْنَ زِيَادٍ اسْتَعَدَّ لِحَرْبِنَا وَمَوْقِفِ ضَنْكٍ يَقْصِمُ الظَّهْرَ
قَاصِمَهْ
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: قَالَ سُلَيْمَانُ ابْنُ قَتَّةَ يَرْثِي
الْحُسَيْنَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَإِنَّ قَتِيلَ الطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ أَذَلَّ رِقَابًا مِنْ قُرَيْشٍ
فَذَلَّتِ
فَإِنْ
تُتْبِعُوهُ عَائِذَ الْبَيْتِ تُصْبِحُوا كَعَادٍ تَعَمَّتْ عَنْ هُدَاهَا فَضَلَّتِ
مَرَرْتُ عَلَى أَبْيَاتِ آلِ مُحَمَّدٍ فَأَلْفَيْتُهَا أَمْثَالَهَا حَيْثُ
حَلَّتِ
وَكَانُوا لَنَا غُنْمًا فَعَادُوا رَزِيَّةً لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا
وَجَلَّتِ
فَلَا يُبْعِدُ اللَّهُ الدِّيَارَ وَأَهْلَهَا وَإِنْ أَصْبَحَتْ مِنْهُمْ بِرَغْمِي
تَخَلَّتِ
إِذَا افْتَقَرَتْ قَيْسٌ جَبَرْنَا فَقِيرَهَا وَتَقْتُلُنَا قَيْسٌ إِذَا
النَّعْلُ زَلَّتِ
وَعِنْدَ غَنِيٍّ قَطْرَةٌ مِنْ دِمَائِنَا سَنَجْزِيهِمْ يَوْمًا بِهَا حَيْثُ
حَلَّتِ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ أَضْحَتْ مَرِيضَةً لِقَتْلِ حُسَيْنٍ وَالْبِلَادَ
اقْشَعَرَّتِ
وَمِمَّا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى
وَسِتِّينَ - بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ ; فَفِيهَا وَلَّى يَزِيدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ سِجِسْتَانَ وَخُرَاسَانَ حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ
وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَعَزَلَ عَنْهَا
أَخَوَيْهِ عَبَّادًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَارَ سَلْمٌ إِلَى عَمَلِهِ،
فَجَعَلَ يَنْتَخِبُ الْوُجُوهَ وَالْفُرْسَانَ، وَيُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى
الْجِهَادِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ لَيَغْزُوَ بِلَادَ التُّرْكِ
وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ مُحَمَّدٍ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ قُطِعَ بِهَا
النَّهْرُ، وَوَلَدَتْ هُنَاكَ وَلَدًا أَسْمَوْهُ صُغْدِيًّا، وَبَعَثَتْ
إِلَيْهَا امْرَأَةُ صَاحِبِ الصُّغْدِ بِتَاجِهَا مِنْ ذَهَبٍ وَلَآلِئَ، وَكَانَ
الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُشَتُّونَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، فَشَتَّى
بِهَا سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ،
وَبَعَثَ
الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ
لِلتُّرْكِ، وَهِيَ خُوَارَزْمُ، فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى صَالَحُوهُ عَلَى نَيِّفٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ عُرُوضًا عِوَضًا،
فَيَأْخُذُ الشَّيْءَ بْنصْفِ قِيمَتِهِ، فَبَلَغَتْ قِيمَةُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ
خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَحَظِيَ بِذَلِكَ الْمُهَلَّبُ عِنْدَ سَلْمِ بْنِ
زِيَادٍ ثُمَّ بَعَثَ مِنْ ذَلِكَ مَا اصْطَفَاهُ لَيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَعَ
مَرْزُبَانٍ، وَمَعَهُ وَفْدٌ، وَصَالَحَ سَلْمٌ أَهْلَ سَمَرْقَنْدَ فِي هَذِهِ
الْغَزْوَةِ عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ.
وَفِيهَا عَزَلَ يَزِيدُ عَنْ إِمْرَةِ الْحَرَمَيْنِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ،
وَأَعَادَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَوَلَّاهُ
الْمَدِينَةَ ; وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ
الْحُسَيْنِ شَرَعَ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَيُعَظِّمُ قَتْلَ الْحُسَيْنِ
وَأَصْحَابِهِ جِدًّا، وَيَعِيبُ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ مَا
صَنَعُوهُ مِنْ خِذْلَانِهِمُ الْحُسَيْنَ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَى الْحُسَيْنِ
وَيَلْعَنُ مَنْ قَتَلَهُ، وَيَقُولُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَتَلُوهُ، طَوِيلًا
بِاللَّيْلِ قِيَامُهُ، كَثِيرًا فِي النَّهَارِ صِيَامُهُ، أَمَا وَاللَّهِ مَا
كَانَ يَسْتَبْدِلُ بِالْقُرْآنِ الْغِنَاءَ وَالْمَلَاهِيَ، وَلَا بِالْبُكَاءِ
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الْحُدَاءَ، وَلَا بِالصِّيَامِ شُرْبَ الْحَرَامِ، وَلَا
بِالْجُلُوسِ فِي حِلَقِ الذِّكْرِ تَطْلَابَ الصَّيْدِ - يُعَرِّضُ فِي ذَلِكَ
بِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ - فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. وَيُؤَلِّبُ النَّاسَ
عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَخَلْعِ يَزِيدَ،
فَبَايَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْبَاطِنِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُظْهِرَهَا، فَلَمْ
يُمْكِنْهُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ
وَلَكِنْ فِيهِ رِفْقٌ، وَقَدْ كَانَ كَاتَبَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ،
وَقَالَ النَّاسُ: أَمَّا إِذْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ فَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَازِعُ
ابْنَ الزُّبَيْرِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ
سَعِيدٍ
لَوْ
شَاءَ لَبَعَثَ إِلَيْكَ بِرَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَوْ يُحَاصِرُهُ حَتَّى
يُخْرِجَهُ مِنَ الْحَرَمِ. فَبَعَثَ فَعَزَلَهُ، وَوَلَّى الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ.
فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَلَفَ يَزِيدُ
لَيَبْعَثَنَّ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَلَيُؤْتَيَنَّ بِهِ فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ
فِضَّةٍ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ الْبَرِيدِ وَمَعَهُ بُرْنُسٌ مِنْ خَزٍّ ;
لِتَبَرَّ يَمِينُهُ، فَلَمَّا مَرَّ الْبَرِيدُ عَلَى مَرْوَانَ وَهُوَ
بِالْمَدِينَةِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا هُوَ قَاصِدٌ لَهُ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْغُلِّ
أَنْشَأَ مَرْوَانُ يَقُولُ:
فَخُذْهَا فَمَا هِيَ لَلْعَزِيزِ بِخُطَّةٍ وَفِيهَا مَقَالٌ لَامْرِئٍ
مُتَذَلِّلِ
أَعَامِرَ إِنَّ الْقَوْمَ سَامُوكَ خُطَّةً وَذَلِكَ فِي الْجِيرَانِ غَزْلٌ
بِمِغْزَلِ
أَرَاكَ إِذَا مَا كُنْتَ فِي الْقَوْمِ نَاصِحًا يُقَالُ لَهُ بِالدَّلْوِ
أَدْبِرْ وَأَقْبِلِ
فَلَمَّا انْتَهَتِ الرُّسُلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، بَعَثَ
مَرْوَانُ ابْنَيْهِ عَبْدَ الْمَلِكِ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ لَيَحْضُرَا
مُرَاجَعَتَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: أَسْمِعَاهُ قَوْلِي فِي ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ: فَلَمَّا جَلَسَ الرُّسُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعَلْتُ أُنْشِدُهُ
ذَلِكَ وَهُوَ يَسْمَعُ وَلَا أُشْعِرُهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: أَخْبِرَا
أَبَاكُمَا أَنِّي أَقُولُ:
إِنِّي لَمِنْ نَبْعَةٍ صُمٍّ مَكَاسِرُهَا إِذَا تَنَاوَحَتِ الْقَصْبَاءُ
وَالْعُشَرُ
وَلَا أَلِينُ لَغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ
الْحَجَرُ
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: فَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ أَعْجَبَ !
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ
عُتْبَةَ حَجَّ
بِالنَّاسِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ
وَالْكُوفَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ
سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَعَلَى قَضَاءِ
الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَعَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ
مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، قُتِلُوا جَمِيعًا بِكَرْبَلَاءَ، وَقِيلَ: بِضْعَةٌ
وَعِشْرُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقُتِلَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ
وَالْفُرْسَانِ.
جَابِرُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ قَيْسٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ
شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ حَامِلَ رَايَةِ بَنِي مُعَاوِيَةَ
يَوْمَ الْفَتْحِ. كَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. قَالَ: وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً.
حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ، ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ
عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرَو رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ:
إِنِّي كَثِيرُ الصِّيَامِ، أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ لَهُ " إِنْ
شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ ". وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ الشَّامَ
وَكَانَ هُوَ الْبَشِيرَ لِلصِّدِّيقِ يَوْمَ أَجْنَادِينَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ الَّذِي بَشَّرَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ بِتَوْبَةِ
اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَعْطَاهُ ثَوْبَيْهِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ " بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْهُ،
أَنَّهُ قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَضَاءَتْ لِي أَصَابِعِي حَتَّى جَمَعْتُ عَلَيْهَا كُلَّ
مَتَاعٍ كَانَ لَلْقَوْمِ.
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى
وَسِتِّينَ.
شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ
صَاحِبُ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، كَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ أُحُدٍ كَافِرًا، وَأَظْهَرَ شَيْبَةُ الْإِسْلَامَ يَوْمَ
الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَفِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الشَّكِّ، وَقَدْ هَمَّ
بِالْفَتْكِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَطْلَعَ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ
بِمَا هَمَّ بِهِ، فَأَسْلَمَ بَاطِنًا، وَجَادَ إِسْلَامُهُ، وَقَاتَلَ
يَوْمَئِذٍ وَصَبَرَ فِيمَنْ صَبَرَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ أَشْيَاخِهِ: إِنَّ شَيْبَةَ قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ
وَاللَّهِ لَوْ آمَنَ
بِمُحَمَّدٍ
جَمِيعُ النَّاسِ مَا آمَنْتُ بِهِ. فَلَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ، وَخَرَجَ إِلَى
هَوَازِنَ خَرَجْتُ مَعَهُ ; رَجَاءَ أَنْ أَجِدَ فُرْصَةً آخُذُ بِثَأْرِ
قُرَيْشٍ كُلِّهَا مِنْهُ. قَالَ: فَاخْتَلَطَ النَّاسُ ذَاتَ يَوْمٍ، وَنَزَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ، فَدَنَوْتُ
مِنْهُ، وَانْتَضَيْتُ سَيْفِي لِأَضْرِبَهُ بِهِ، فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ
نَارٍ كَادَ يَمْحَشُنِي، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " يَا شَيْبَةُ، ادْنُ مِنِّي ".
فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ
أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ " قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى
لَهْوَ يَوْمَئِذٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي، ثُمَّ قَالَ: "
اذْهَبْ فَقَاتِلْ ". قَالَ: فَتَقَدَّمْتُ إِلَى الْعَدُوِّ، وَاللَّهِ لَوْ
لَقِيتُ أَبِي لَقَتَلْتُهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا تَرَاجَعَ النَّاسُ قَالَ
لِي: " يَا شَيْبَةُ، الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ لَنَفْسِكَ
". ثُمَّ حَدَّثَنِي بِكُلِّ مَا كَانَ فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ يَطَّلِعْ
عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَشَهَّدْتُ وَقُلْتُ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. فَقَالَ: " غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ".
وَلِيَ الْحِجَابَةَ بَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَاسْتَقَرَّتِ الْحِجَابَةُ
فِي بَنِيهِ وَبَيْتِهِ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ بَنُو شَيْبَةَ،
وَهُمْ حَجَبَةُ الْكَعْبَةِ.
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: بَقِيَ إِلَى أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": مَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ
هَاشِمٍ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، مِمَّنِ انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَهُ بِهَا
دَارٌ، وَلَمَّا مَاتَ أَوْصَى إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ.
الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ بْنِ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو
ذَكْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ،
أَبُو وَهْبٍ الْقُرَشِيُّ الْعَبْشَمِيُّ، وَهُوَ أَخُو عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
لِأُمِّهِ أَرْوَى بِنْتِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ، وَأُمُّهَا أُمُّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وَلِلْوَلِيدِ مِنَ الْإِخْوَةِ خَالِدٌ وَعُمَارَةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَقَدْ
قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاهُ بَعْدَ
وَقْعَةِ بَدْرٍ مِنْ بَيْنِ الْأَسْرَى صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا
مُحَمَّدُ، مَنْ لِلصِّبْيَةِ ؟ فَقَالَ: " لَهُمُ النَّارُ "
وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ.
وَأَسْلَمَ الْوَلِيدُ هَذَا يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ،
فَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ، فَظَنَّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَرَجُوا لَقِتَالِهِ،
فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَرَادَ أَنْ يُجَهِّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَبَلَغَهُمْ ذَلِكَ، فَجَاءَ مَنْ
جَاءَ مِنْهُمْ لَيَعْتَذِرُوا إِلَيْهِ وَيُخْبِرُوهُ بِصُورَةِ مَا وَقَعَ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
الْآيَةَ [ الْحُجُرَاتِ: 6 ]. ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَقَدْ حَكَى
أَبُو
عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ.
وَقَدْ وَلَّاهُ عُمَرُ صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ، وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ نِيَابَةَ
الْكُوفَةِ بَعْدَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ
شَرِبَ الْخَمْرَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ:
أَزِيدُكُمْ ؟ وَوَقَعَ مِنْهُ تَخْبِيطٌ، ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ جَلَدَهُ
وَعَزَلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَأَقَامَ بِهَا، فَلَمَّا
جَاءَ عَلِيٌّ إِلَى الْعِرَاقِ سَارَ إِلَى الرَّقَّةِ، وَاشْتَرَى لَهُ
عِنْدَهَا ضَيْعَةً، وَأَقَامَ بِهَا مُعْتَزِلًا جَمِيعَ الْحُرُوبِ الَّتِي
كَانَتْ أَيَّامَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
بِضَيْعَتِهِ هَذِهِ، وَدُفِنَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ عَلَى خَمْسَةَ
عَشَرَ مِيلًا مِنَ الرَّقَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ
مُعَاوِيَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رَوَى لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا وَاحِدًا فِي فَتْحِ
مَكَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَذَكَرَ أَيْضًا وَفَاةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ
الْهِلَالِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وَفَاتِهَا فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تُوُفِّيَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ:
سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ حُذَيْفَةَ - وَقِيلَ: سُهَيْلٌ - بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيَّةُ
الْمَخْزُومِيَّةُ، كَانَتْ أَوَّلًا تَحْتَ ابْنِ عَمِّهَا أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الْأَسَدِ، فَمَاتَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ
بِهَا
فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَتْ سَمِعَتْ
مِنْ زَوْجِهَا أَبِي سَلَمَةَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ
فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي
فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا. إِلَّا أَبْدَلَهُ اللَّهُ خَيْرًا
مِنْهَا ". قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ ذَلِكَ، ثُمَّ
قُلْتُ: وَمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوَّلِ رَجُلٍ هَاجَرَ ؟ !.
ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي فَقُلْتُهَا، فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ،
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَتْ مِنْ حِسَانِ
النِّسَاءِ وَعَابِدَاتِهِنَّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا
أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: تُوُفِّيَتْ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ قُلْتُ: وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عَاشَتْ إِلَى مَا بَعْدَ مَقْتَلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ
يُقَالُ: فِيهَا قَدِمَ وَفْدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَجَازَهُمْ بِجَوَائِزَ سَنِيَّةٍ، ثُمَّ عَادُوا
مِنْ عِنْدِهِ بِالْجَوَائِزِ فَخَلَعُوهُ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ جُنْدًا فِي السَّنَةِ
الْآتِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ عَلَى مَا
سَنُبَيِّنُهُ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ
يَزِيدُ عَزَلَ عَنِ الْحِجَازِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَوَلَّى
عَلَيْهِمْ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا دَخَلَ
الْمَدِينَةَ احْتَاطَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ وَالْأَمْلَاكِ،
وَأَخَذَ الْعَبِيدَ الَّذِينَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَحَبَسَهُمْ، وَكَانُوا
نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ عَبْدٍ، فَتَجَهَّزَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ إِلَى
يَزِيدَ فَرَكِبَ وَبَعَثَ إِلَى عَبِيدِهِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ السَّجْنِ
وَيَلْحَقُوا بِهِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ إِبِلًا يَرْكَبُونَهَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ،
فَمَا لَحِقُوهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى يَزِيدَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ
أَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَرَحَّبَ بِهِ يَزِيدُ، وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، ثُمَّ
إِنَّهُ عَاتَبَهُ فِي تَقْصِيرِهِ فِي شَأْنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ، وَإِنَّ
جُلَّ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْحِجَازِ مَالَئُوهُ عَلَيْنَا وَأَحَبُّوهُ، وَلَمْ
يَكُنْ لِي جُنْدٌ أَقْوَى بِهِمْ عَلَيْهِ لَوْ نَاهَضْتُهُ، وَقَدْ كَانَ
يَحْذَرُنِي وَيَحْتَرِسُ مِنِّي، وَكُنْتُ أَرْفُقُ بِهِ كَثِيرًا، وَأُدَارِيهِ
لِأَسْتَمْكِنَ مِنْهُ فَأَثِبُ عَلَيْهِ، مَعَ أَنِّي قَدْ ضَيَّقْتُ عَلَيْهِ
وَمَنَعْتُهُ مِنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَجَعَلْتُ عَلَى مَكَّةَ وَطُرُقِهَا
وَشِعَابِهَا
رِجَالًا
لَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَدْخُلُهَا حَتَّى يَكْتُبُوا إِلَيَّ اسْمَهُ وَاسْمَ
أَبِيهِ، وَمِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ هُوَ وَمَا جَاءَ لَهُ، وَمَاذَا يُرِيدُ،
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ مِمَّنْ أَرَى أَنَّهُ يُرِيدُهُ رَدَدْتُهُ
صَاغِرًا، وَإِلَّا خَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، وَقَدْ وَلَّيْتَ الْوَلِيدَ،
وَسَيَأْتِيكَ مِنْ عَمَلِهِ وَأَمْرِهِ مَا لَعَلَّكَ تَعْرِفُ بِهِ فَضْلَ
مُبَالَغَتِي فِي أَمْرِكَ وَمُنَاصَحَتِي لَكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاللَّهُ
يَصْنَعُ لَكَ وَيَكْبِتُ عَدُوَّكَ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: أَنْتَ أَصْدَقُ
مِمَّنْ رَمَاكَ وَحَمَلَنِي عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ وَأَرْجُو
مَعُونَتَهُ وَأَدَّخِرُهُ لِرَأْبِ الصَّدْعِ، وَكِفَايَةِ الْمُهِمِّ وَكَشْفِ
نَوَازِلِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ.
وَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ فَإِنَّهُ أَقَامَ بِالْحِجَازِ، وَقَدْ هَمَّ
مِرَارًا أَنْ يَبْطِشَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَا يَجِدُهُ إِلَّا
مُتَحَذِّرًا مُمْتَنِعًا، قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا، وَثَارَ
بِالْيَمَامَةِ رَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ.
حِينَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، وَخَالَفَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَلَمْ يُخَالِفِ ابْنَ
الزُّبَيْرِ بَلْ بَقِيَ عَلَى حِدَةٍ، لَهُ أَصْحَابٌ يَتَّبِعُونَهُ، فَإِذَا
كَانَ لَيْلَةُ عَرَفَةَ دَفَعَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بِالْجُمْهُورِ،
وَتَخَلَّفَ عَنْهُ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَصْحَابُ نَجْدَةَ، ثُمَّ
يَدْفَعُ كُلُّ فَرِيقٍ وَحْدَهُمْ. ثُمَّ كَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى يَزِيدَ: إِنَّكَ
بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَجُلًا أَخْرَقَ، لَا يَتَّجِهُ لِأَمْرِ رُشْدٍ وَلَا
يَرْعَوِي لِعِظَةِ الْحَكِيمِ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَجُلًا سَهْلَ
الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْكَنَفِ، رَجَوْتُ أَنْ يَسْهُلَ مِنَ الْأُمُورِ مَا
اسْتَوْعَرَ مِنْهَا، وَأَنْ يَجْتَمِعَ مَا تَفَرَّقَ، فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ،
فَإِنَّ فِيهِ صَلَاحَ خَوَاصِّنَا وَعَوَامِّنَا،
إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالُوا: فَعَزَلَ يَزِيدُ الْوَلِيدَ، وَوَلَّى عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي سُفْيَانَ، فَسَارَ إِلَى الْحِجَازِ، وَإِذَا هُوَ فَتًى غِرٌّ حَدَثٌ
غُمْرٌ، لَمْ يُمَارِسِ الْأُمُورَ، فَطَمِعُوا فِيهِ، وَلَمَّا دَخَلَ
الْمَدِينَةَ بَعَثَ إِلَى يَزِيدَ مِنْهَا وَفْدًا، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَنْظَلَةَ الْغَسِيلُ الْأَنْصَارِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ
حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَرِجَالٌ كَثِيرٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَدِمُوا عَلَى يَزِيدَ،
فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْظَمَ جَوَائِزَهُمْ، ثُمَّ
انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَّا الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ،
فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى صَاحِبِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ،
وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ أَجَازَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ نَظِيرَ أَصْحَابِهِ مِنْ
أُولَئِكَ الْوَفْدِ، وَلَمَّا رَجَعَ وَفْدُ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا أَظْهَرُوا
شَتْمَ يَزِيدَ وَعَيْبَهُ، وَقَالُوا: قَدِمْنَا مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ
دِينٌ، يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عِنْدَهُ الْقَيْنَاتُ بِالْمَعَازِفِ،
وَإِنَّا نُشْهِدُكُمْ أَنَّا قَدْ خَلَعْنَاهُ. فَتَابَعَهُمُ النَّاسُ عَلَى
خَلْعِهِ، وَبَايَعُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلَ عَلَى
الْمَوْتِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
وَرَجَعَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَافَقَ
أُولَئِكَ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ يَشْرَبُ
الْخَمْرَ وَيَسْكَرُ حَتَّى يَتْرُكَ الصَّلَاةَ، وَعَابَهُ أَكْثَرُ مِمَّا
عَابَهُ أُولَئِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
آثَرْتُهُ وَأَكْرَمْتُهُ فَفَعَلَ مَا قَدْ رَأَيْتَ، فَأَدْرِكْهُ وَانْتَقِمَ
مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بَعَثَ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ النُّعْمَانَ بْنَ
بَشِيرٍ يَنْهَاهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، وَيُحَذِّرُهُمْ غِبَّ ذَلِكَ،
وَيَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
وَلُزُومِ
الْجَمَاعَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ يَزِيدُ وَخَوَّفَهُمُ
الْفِتْنَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْفِتْنَةَ وَخِيمَةٌ. وَقَالَ: لَا طَاقَةَ
لَكُمْ بِأَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ
الْعَدَوِيُّ: مَا حَمَلَكَ يَا نُعْمَانُ عَلَى تَفْرِيقِ جَمَاعَتِنَا وَفَسَادِ
مَا أَصْلَحَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِنَا ؟ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: أَمَا
وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ قَدْ نَزَلَتْ تِلْكَ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا،
وَقَامَتِ الرِّجَالُ عَلَى الرَّكْبِ تَضْرِبُ مَفَارِقَ الْقَوْمِ وَجِبَاهَهُمْ
بِالسُّيُوفِ، وَدَارَتْ رَحَا الْمَوْتِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَأَنِّي بِكَ
قَدْ ضَرَبْتَ جَنْبَ بَغْلَتِكَ إِلَى مَكَّةَ وَخَلَّفْتَ هَؤُلَاءِ
الْمَسَاكِينَ - يَعْنِي الْأَنْصَارَ - يُقْتَلُونَ فِي سِكَكِهِمْ
وَمَسَاجِدِهِمْ، وَعَلَى أَبْوَابِ دُورِهِمْ. فَعَصَاهُ النَّاسُ، فَلَمْ
يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَانْصَرَفَ وَكَانَ الْأَمْرُ وَاللَّهِ كَمَا قَالَ سَوَاءً.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْوَلِيدُ بْنُ
عُتْبَةَ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ وَفَدَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ - وَقَدْ رَجَعُوا مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ - فَإِنَّمَا وَفَّدَهُمْ
عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ فَمَا قَدِمَ وَفْدُ الْمَدِينَةِ إِلَى يَزِيدَ إِلَّا
فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ، كَانَ إِسْلَامُهُ حِينَ اجْتَازَ
بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ
مُهَاجِرٌ إِلَى الْمَدِينَةِ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَلَمَّا كَانَ هُنَاكَ
تَلَقَّاهُ بُرَيْدَةُ فِي ثَمَانِينَ نَفْسًا مِنْ أَهْلِهِ، فَأَسْلَمُوا،
وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ، وَعَلَّمَهُ لَيْلَتَئِذٍ صَدْرًا مِنْ سُورَةِ
" مَرْيَمَ "، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ أُحُدٍ، فَشَهِدَ بَقِيَّةَ الْمُشَاهِدِ
كُلَّهَا، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا فُتِحَتِ الْبَصْرَةُ نَزَلَهَا
وَاخْتَطَّ بِهَا دَارًا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى غَزْوِ خُرَاسَانَ، فَمَاتَ بِمَرْوَ
فِي خِلَافَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. ذَكَرَ مَوْتَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ
أَبُو يَزِيدَ الثَّوْرِيُّ الْكُوفِيُّ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ
لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا رَأَيْتُكَ إِلَّا ذَكَرْتُ
الْمُخْبِتِينَ، وَلَوْ رَآكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَأَحَبَّكَ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُجِلُّهُ كَثِيرًا.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ الرَّبِيعُ مِنْ مَعَادِنَ الصِّدْقِ، وَكَانَ
أَوَرَعَ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا يُسْأَلُ عَنْ
مِثْلِهِ.
وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، أَرَّخَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ أَبُو شِبْلٍ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ
ابْنِ
مَسْعُودٍ وَعُلَمَائِهِمْ، وَكَانَ يُشَبَّهُ بِابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ رَوَى
عَلْقَمَةُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ خَلْقٌ مِنَ
التَّابِعِينَ.
عُقْبَةُ بْنُ نَافِعٍ الْفِهْرِيُّ
بَعَثَهُ مُعَاوِيَةُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَافْتَتَحَهَا،
وَاخْتَطَّ الْقَيْرَوَانَ، وَكَانَ مَوْضِعُهَا غَيْضَةً لَا تُرَامُ ; مِنَ
السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَالْحَشَرَاتِ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَجَعَلْنَ
يَخْرُجْنَ بِأَوْلَادِهِنَّ مِنَ الْأَوْكَارِ وَالْجِحَارِ، فَبَنَاهَا وَلَمْ
يَزَلْ بِهَا حَتَّى هَذِهِ السَّنَةِ.
غَزَا أَقْوَامًا مِنَ الْبَرْبَرِ وَالرُّومِ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى نَجْرَانَ وَعُمْرُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَقَامَ بِهَا
مُدَّةً، وَأَدْرَكَ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
مَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ الزُّرَقِيُّ
وُلِدَ عَامَ الْهِجْرَةِ، وَسَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَشَهِدَ فَتَحَ مِصْرَ، وَوَلِيَ الْجُنْدَ بِهَا لِمُعَاوِيَةَ
وَيَزِيدَ، وَمَاتَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ
مَعَ
الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ لَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ نِكَايَةٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ
وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَشَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ وَحُنَيْنًا، وَحَجَّ مَعَ أَبِي
بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَشَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَعُمِّرَ سِتِّينَ سَنَةً
فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمِثْلَهَا فِي الْإِسْلَامِ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. قَالَ:
وَأَدْرَكَ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَاتَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتِ الرَّبَابُ بِنْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ امْرَأَةُ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيٍّ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةً أَهْلَ الْعِرَاقِ إِذْ هُمْ يَعْدُونَ
فِي السَّبْتِ أَوْ فِي الْجُمُعَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ
ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ
فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ، وَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ لَمَّا خَلَعُوا يَزِيدَ، وَوَلَّوْا عَلَى قُرَيْشٍ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْأَنْصَارِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي
عَامِرٍ وَعَلَى قَبَائِلِ الْمُهَاجِرِينَ مَعْقِلَ بْنَ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيَّ،
فَلَمَّا كَانَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرُوا ذَلِكَ، وَاجْتَمَعُوا
عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: قَدْ خَلَعْتُ يَزِيدَ
كَمَا خَلَعْتُ عِمَامَتِي هَذِهِ. وَيُلْقِيهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَيَقُولُ
الْآخَرُ: قَدْ خَلَعْتُهُ كَمَا خَلَعْتُ نَعْلِي هَذِهِ. حَتَّى اجْتَمَعَ
شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَمَائِمِ وَالنِّعَالِ هُنَاكَ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عَلَى
إِخْرَاجِ عَامِلِ يَزِيدَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ابْنُ عَمِّ يَزِيدَ، وَعَلَى إِجْلَاءِ بَنِي
أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاجْتَمَعَتْ بَنُو أُمَيَّةَ وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ
أَلْفِ رَجُلٍ فِي دَارِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَأَحَاطَ بِهِمْ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يُحَاصِرُونَهُمْ، وَاعْتَزَلَ النَّاسَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
لَمْ يَخْلَعْ يَزِيدَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ
عُمَرَ لِأَهْلِهِ: لَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ فَيَكُونَ
الْفَيْصَلُ - وَيُرْوَى: الصَّيْلَمُ - بَيْنِي وَبَيْنَهُ. وَسَيَأْتِي هَذَا
الْحَدِيثُ بِلَفْظِهِ وَإِسْنَادِهِ فِي تَرْجَمَةِ يَزِيدَ، وَأَنْكَرَ عَلَى
أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مُبَايَعَتِهِمْ لِابْنِ مُطِيعٍ وَابْنِ حَنْظَلَةَ
عَلَى الْمَوْتِ، وَقَالَ: إِنَّمَا كُنَّا نُبَايِعُ
رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ. وَكَذَلِكَ
لَمْ يَخْلَعْ يَزِيدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ سُئِلَ
مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَى
أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَنَاظَرَهُمْ وَجَادَلَهُمْ فِي يَزِيدَ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ
مَا اتَّهَمُوهُ بِهِ مِنْ شُرْبِهِ الْخَمْرَ وَتَرْكِهِ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ،
كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا فِي تَرْجَمَةِ يَزِيدَ قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَكَتَبَ بَنُو أُمَيَّةَ إِلَى يَزِيدَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ
وَالْإِهَانَةِ، وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ
مَنْ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَإِلَّا اسْتُؤْصِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ،
وَبَعَثُوا ذَلِكَ مَعَ الْبَرِيدِ، فَلَمَّا قَدِمَ بِذَلِكَ عَلَى يَزِيدَ
وَجَدَهُ جَالِسًا عَلَى سَرِيرِهِ وَرِجْلَاهُ فِي مَاءٍ يَتَبَرَّدُ مِمَّا بِهِ
مِنَ النِّقْرِسِ فِي رِجْلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ انْزَعَجَ لِذَلِكَ،
وَقَالَ: وَيْلَكَ ! أَمَا فِيهِمْ أَلْفُ رَجُلٍ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَلَا
قَاتَلُوا وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ؟ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ
بْنِ الْعَاصِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَاسْتَشَارَهُ فِيمَنْ يَبْعَثُهُ
إِلَيْهِمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَأَبَى وَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَزَلَنِي عَنْهَا وَهِيَ مَضْبُوطَةٌ، وَأُمُورُهَا مُحْكَمَةٌ،
فَأَمَّا الْآنَ فَإِنَّمَا هِيَ دِمَاءُ قُرَيْشٍ تُرَاقُ بِالصَّعِيدِ، فَلَا
أُحِبُّ أَنْ أَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ، لِيَتَوَلَّ ذَلِكَ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ
مِنْهُمْ مِنِّي. قَالَ: فَبَعَثَ الْبَرِيدُ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ
الْمُرِّيِّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعِيفٌ، فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ، وَأَرْسَلَ
مَعَهُ يَزِيدُ عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَنَادَى
مُنَادِي يَزِيدَ بِدِمَشْقَ أَنْ سِيرُوا عَلَى أَخْذِ أَعْطِيَاتِكُمْ كَامِلًا
وَمَعُونَةِ أَرْبَعِينَ دِينَارًا. قَالَ
الْمَدَائِنِيُّ:
وَيُقَالُ: فِي سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا ; اثَنَا عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ
وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِائَةَ دِينَارٍ.
وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ دِينَارًا. ثُمَّ اسْتَعْرَضَهُمْ يَزِيدُ وَهُوَ عَلَى
فَرَسٍ لَهُ.
قَالَ: الْمَدَائِنِيُّ: وَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ حِمْصَ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ
السَّكُونِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ الْأُرْدُنِّ حُبَيْشَ بْنَ دُلْجَةَ الْقَيْنِيَّ،
وَعَلَى أَهْلِ فِلَسْطِينَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ وَشَرِيكَ
الْكِنَانِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ قِنَّسْرِينَ طَرِيفَ بْنَ الْحَسْحَاسِ
الْهِلَالِيَّ، وَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ،
مُرَّةَ غَطَفَانَ، فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَلِّنِي عَلَيْهِمْ أَكْفِكَ - وَكَانَ النُّعْمَانُ أَخَا
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ لِأُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ - فَقَالَ
يَزِيدُ: لَا، لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا هَذَا الْعَشَمَةُ، وَاللَّهِ لَا أَقْبَلُهُمْ
بَعْدَ إِحْسَانِي إِلَيْهِمْ وَعَفْوِي عَنْهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. فَقَالَ
النُّعْمَانُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَشِيرَتِكَ
وَأَنْصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ رَجَعُوا إِلَى
طَاعَتِكَ أَتَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ: إِنْ فَعَلُوا فَلَا سَبِيلَ
عَلَيْهِمْ. وَقَالَ يَزِيدُ لِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ: إِذَا قَدِمْتَ
الْمَدِينَةَ
وَلَمْ تُصَدَّ عَنْهَا، وَسَمِعُوا وَأَطَاعُوا فَلَا تَتَعَرَّضْ لِأَحَدٍ
مِنْهُمْ، وَامْضِ إِلَى الْمُلْحِدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنْ صَدُّوكَ عَنِ
الْمَدِينَةِ فَادْعُهُمْ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ فَاقْبَلْ
مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ،
وَإِذَا ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ فَأَبِحْهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ اكْفُفْ عَنِ النَّاسِ،
وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ لِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ: إِذَا ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ
فَإِنْ كَانَ قُتِلَ مِنْبَنِي أُمَيَّةَ أَحَدٌ فَجَرِّدِ السَّيْفَ، وَاقْتُلِ
الْمُقْبِلَ وَالْمُدْبِرَ، وَأَجْهِزْ عَلَى الْجَرِيحِ وَانْهَبْهَا ثَلَاثًا،
وَانْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَاكْفُفْ عَنْهُ وَاسْتَوْصِ بِهِ
خَيْرًا، وَأَدْنِ مَجْلِسَهُ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَيْءٍ مِمَّا
دَخَلُوا فِيهِ. وَأَمَرَهُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى
مَكَّةَ لِحِصَارِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَالَ لَهُ: إِنْ حَدَثَ بِكَ أَمْرٌ
فَعَلَى النَّاسِ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ السَّكُونِيُّ.
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ كَتَبَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ أَنْ يَسِيرَ
إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَيُحَاصِرَهُ بِمَكَّةَ، فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ:
وَاللَّهِ لَا أَجْمَعُهُمَا لِلْفَاسِقِ أَبَدًا، أَقْتُلُ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَغْزُو الْبَيْتَ الْحَرَامَ ؟ !
وَقَدْ كَانَتْ أُمُّهُ مَرْجَانَةُ قَالَتْ لَهُ حِينَ قَتَلَ الْحُسَيْنَ:
وَيْحَكَ ! مَاذَا صَنَعْتَ ؟ ! وَمَاذَا رَكِبْتَ ؟ !
قَالُوا: وَقَدْ بَلَغَ يَزِيدَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ:
يَزِيدُ الْقُرُودِ، شَارِبُ الْخَمْرِ.
فَلَمَّا جَهَّزَ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ وَاسْتَعْرَضَ الْجَيْشَ بِدِمَشْقَ،
جَعَلَ يَقُولُ:
أَبْلِغْ
أَبَا بَكْرٍ إِذَا الْجَيْشُ سَرَى وَأَشْرَفَ الْجَيْشُ عَلَى وَادِي الْقُرَى
أَجَمْعَ سَكْرَانٍ مِنَ الْقَوْمِ تَرَى
يَا عَجَبًا مِنْ مُلْحِدٍ يَا عَجَبَا مُخَادِعٌ لِلدِّينِ يَقْفُو بِالْفِرَى
وَفِي رِوَايَةٍ:
أَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ إِذَا الْأَمْرُ انْبَرَى وَنَزَلَ الْجَيْشُ عَلَى وَادِي
الْقُرَى
عِشْرُونَ أَلْفًا بَيْنَ كَهْلٍ وَفَتَى أَجَمْعَ سَكْرَانٍ مِنَ الْقَوْمِ تَرَى
قَالُوا: وَسَارَ مُسْلِمٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا اجْتَهَدَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي حِصَارِ بَنِي
أُمَيَّةَ، وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ أَوْ
لَتُعْطُونَا مَوْثِقًا أَنْ لَا تَدُلُّوا عَلَيْنَا أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ
الشَّامِيِّينَ، وَلَا تُمَالِئُوهُمْ عَلَيْنَا. فَأَعْطَوْهُمُ الْعُهُودَ
بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْجَيْشُ تَلَقَّاهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ، فَجَعَلَ
مُسْلِمٌ يَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ، فَلَا يُخْبِرُهُ أَحَدٌ فَانْحَصَرَ
لِذَلِكَ، وَجَاءَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ
تُرِيدُ النَّصْرَ فَانْزِلْ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ فِي الْحَرَّةِ، فَإِذَا
خَرَجُوا إِلَيْكَ كَانَتِ الشَّمْسُ فِي أَقْفِيَتِكُمْ وَفِي وُجُوهِهِمْ،
فَادْعُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ
وَقَاتِلْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ ; إِذْ خَالَفُوا
الْإِمَامَ، وَخَرَجُوا مِنَ الطَّاعَةِ. فَشَكَرَهُ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ عَلَى
ذَلِكَ، وَامْتَثَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، فَنَزَلَ شَرْقِيَّ
الْمَدِينَةِ
فِي الْحَرَّةِ، وَدَعَا أَهْلَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَوْنَ
إِلَّا الْمُحَارَبَةَ وَالْمُقَاتَلَةَ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ قَالَ لَهُمْ
فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ - وَهُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ
بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ - قَالَ لَهُمْ: يَا
أَهْلَ الْمَدِينَةِ، مَضَتِ الثَّلَاثُ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ
لِي: إِنَّكُمْ أَصْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَإِنَّهُ يَكْرَهُ إِرَاقَةَ
دِمَائِكُمْ، وَإِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُؤَجِّلَكُمْ ثَلَاثًا، فَقَدْ مَضَتْ
فَمَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ ؟ أَتُسَالِمُونَ أَمْ تُحَارِبُونَ ؟ فَقَالُوا: بَلْ
نُحَارِبُ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، بَلْ سَالِمُوا وَنَجْعَلُ جَدَّنَا
وَقُوَّتَنَا عَلَى هَذَا الْمُلْحِدِ. يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ. فَقَالُوا
لَهُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، لَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمَا مَكَّنَّاكَ مِنْهُ،
أَنَحْنُ نَذَرُكُمْ تَذْهَبُونَ فَتُلْحِدُونَ فِي بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ؟ !
ثُمَّ تَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ، وَقَدْ كَانُوا اتَّخِذُوا خَنْدَقًا بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ وَجَعَلُوا جَيْشَهُمْ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ،
عَلَى كُلِّ رُبْعٍ أَمِيرٌ، وَجَعَلُوا أَجَلَّ الْأَرْبَاعِ الرُّبُعَ الَّذِي
فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ مِنَ السَّادَاتِ وَالْأَعْيَانِ، مِنْهُمْ ; عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَبَنُونَ لَهُ سَبْعَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلُ، وَأَخُوهُ لِأُمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ
شَمَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ مَرْوَانُ
بْنُ الْحَكَمِ وَهُوَ مُجَدَّلٌ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، فَكَمْ مِنْ
سَارِيَةٍ قَدْ رَأَيْتُكَ تُطِيلُ عِنْدَهَا الْقِيَامَ وَالسُّجُودَ.
ثُمَّ أَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ السَّلَفُ: مُسْرِفُ
بْنُ عُقْبَةَ. قَبَّحَهُ
اللَّهُ
الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا أَمَرَهُ يَزِيدُ لَا جَزَاهُ اللَّهُ
خَيْرًا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَشْرَافِهَا وَقُرَّائِهَا، وَانْتَهَبَ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً مِنْهَا، وَوَقَعَ شَرٌّ عَظِيمٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ، عَلَى
مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا
مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَقَدْ كَانَ صَدِيقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ،
وَلَكِنْ أَسْمَعَهُ فِي يَزِيدَ كَلَامًا غَلِيظًا، فَنَقَمَ عَلَيْهِ
بِسَبَبِهِ.
وَاسْتَدْعَى بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَجَاءَ يَمْشِي بَيْنَ مَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ وَابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، لِيَأْخُذَ لَهُ بِهِمَا عِنْدَهُ
أَمَانًا، وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّ يَزِيدَ قَدْ أَوْصَاهُ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ
بَيْنَ يَدَيْهِ اسْتَدْعَى مَرْوَانُ بِشَرَابٍ - وَقَدْ كَانَ مُسْلِمُ بْنُ
عُقْبَةَ قَدْ حَمَلَ مَعَهُ مِنَ الشَّامِ ثَلْجًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَ
يُشَابُ لَهُ بِشَرَابِهِ - فَلَمَّا جِيءَ بِالشَّرَابِ، شَرِبَ مَرْوَانُ
قَلِيلًا، ثُمَّ أَعْطَى الْبَاقِيَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ لِيَأْخُذَ لَهُ
بِذَلِكَ أَمَانًا، وَكَانَ مَرْوَانُ مُوَادًّا لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ،
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ قَدْ أَخَذَ الْإِنَاءَ فِي
يَدِهِ قَالَ لَهُ: لَا تَشْرَبْ مِنْ شَرَابِنَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّمَا
جِئْتَ مَعَ هَذَيْنَ لِتَأْمَنَ بِهِمَا. فَارْتَعَدَتْ يَدُ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ وَجَعَلَ لَا يَضَعُ الْإِنَاءَ مِنْ يَدِهِ وَلَا يَشْرَبُهُ، ثُمَّ
قَالَ لَهُ: لَوْلَا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكَ لَضَرَبْتُ
عُنُقَكَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَشَرَبَ فَاشْرَبْ، وَإِنْ شِئْتَ
دَعَوْنَا لَكَ بِغَيْرِهَا. فَقَالَ: هَذِهِ الَّتِي فِي كَفِّي أُرِيدُ.
فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ لَهُ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ إِلَيَّ، هَاهُنَا.
فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكَ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ شَغَلُونِي عَنْكَ. ثُمَّ
قَالَ: لَعَلَّ أَهْلَكَ فَزِعُوا. قَالَ: إِي وَاللَّهِ. فَأَمَرَ بِدَابَّتِهِ
فَأُسْرِجَتْ، ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَيْهَا حَتَّى رَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ
مُكَرَّمًا، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - وَلَمْ
يَكُنْ خَرَجَ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ - فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ ظَهَرَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ قُلْتَ: أَنَا كُنْتُ مَعَكُمْ. وَإِنْ ظَهَرَ أَهْلُ
الشَّامِ
قُلْتَ: أَنَا ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَنُتِفَتْ
لِحْيَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَأَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثًا،
يَقْتُلُونَ النَّاسَ، وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ. فَأَرْسَلَتْ سُعْدَى بِنْتُ
عَوْفٍ الْمُرِّيَّةُ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ تَقُولُ: أَنَا بِنْتُ
عَمِّكَ، فَمُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضُوا لِإِبِلٍ لَنَا بِمَكَانِ
كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ لَا تَبْدَءُوا إِلَّا بِإِبِلِهَا.
وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: أَنَا مَوْلَاتُكَ، وَابْنِي فِي الْأُسَارَى.
فَقَالَ: عَجِّلُوهُ لَهَا. فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَقَالَ: أَعْطُوهَا رَأْسَهُ،
أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ لَا تُقْتَلِي حَتَّى تَتَكَلَّمِي فِي ابْنِكِ ؟
وَوَقَعُوا عَلَى النِّسَاءِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ حَبِلَتْ أَلْفُ امْرَأَةٍ فِي
تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ أَبِي قُرَّةَ قَالَ: قَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ:
وَلَدَتْ أَلْفُ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْحَرَّةِ مِنْ
غَيْرِ زَوْجٍ.
وَقَدِ اخْتَفَى جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، وَخَرَجَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَلَجَأَ إِلَى غَارٍ فِي
جَبَلٍ، فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُ
انْتَضَيْتُ سَيْفِي فَقَصَدَنِي، فَلَمَّا رَآنِي صَمَّمَ عَلَى قَتْلِي،
فَشِمْتُ سَيْفِي، ثُمَّ قُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [
الْمَائِدَةِ: 29 ].
فَلَمَّا
رَأَى ذَلِكَ قَالَ: مَنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ: أَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ
قَالَ: صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قُلْتُ:
نَعَمَ. فَمَضَى وَتَرَكَنِي.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَجِيءَ إِلَى مُسْلِمٍ بِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
فَقَالَ لَهُ: بَايِعْ. فَقَالَ: أُبَايِعُ عَلَى سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَشَهِدَ رَجُلٌ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، فَخَلَّى
سَبِيلَهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ وَأَبِي
إِسْحَاقَ التَّمِيمِيِّ قَالَا: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَوْمَ
الْحَرَّةِ صَاحَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: بِعُثْمَانَ
وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
قَالَ
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: سَأَلْتُ
الزُّهْرِيَّ: كَمْ كَانَ الْقَتْلَى يَوْمَ الْحَرَّةِ ؟ قَالَ: سَبْعُمِائَةٌ
مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَوُجُوهِ
الْمَوَالِي، وَمِمَّنْ لَا يُعْرَفُ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَغَيْرِهِمْ عَشَرَةُ
آلَافٍ. قَالَ: وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَانْتَهَبُوا الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ
سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ عَوْفٍ قَالَ:
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الْعَائِذَ، وَيَرَوْنَ الْأَمْرَ شُورَى. وَجَاءَ
الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْلَةَ
مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ، مَعَ سَعِيدٍ مَوْلَى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ،
فَحَزِنُوا حُزْنًا شَدِيدًا، وَتَأَهَّبُوا لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ رُوِيَتْ قِصَّةُ الْحَرَّةِ عَلَى غَيْرِ مَا
رَوَاهُ أَبُو مِخْنَفٍ فَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، ثَنَا أَبِي،
سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ، ثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ قَالَ: سَمِعْتُ
أَشْيَاخَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُحَدِّثُونَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَتْهُ
الْوَفَاةُ دَعَا ابْنَهُ يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ: إِنْ لَكَ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ يَوْمًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَارْمِهِمْ بِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ
فَإِنَّهُ رَجُلٌ قَدْ عَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ. فَلَمَّا هَلَكَ مُعَاوِيَةُ وَفَدَ
إِلَيْهِ وَفْدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ - وَكَانَ شَرِيفًا فَاضِلًا
سَيِّدًا عَابِدًا - مَعَهُ ثَمَانِيَةُ بَنِينَ لَهُ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى بَنِيهِ، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ سِوَى
كِسْوَتِهِمْ وَحُمْلَانِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَنْظَلَةَ أَتَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ
عِنْدِ رَجُلٍ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا بَنِي هَؤُلَاءِ
لَجَاهَدْتُهُ بِهِمْ. قَالُوا: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ أَعْطَاكَ وَأَحْذَاكَ وَأَكْرَمَكَ. قَالَ: قَدْ فَعَلَ، وَمَا قَبِلْتُ مِنْهُ إِلَّا لِأَتَقَوَّى بِهِ. فَحَضَّ النَّاسَ فَبَايَعُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ، وَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى كُلِّ مَاءٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ فَصَبُّوا فِيهِ زِقًّا مِنْ قَطِرَانٍ وَعَوَّرُوهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى جَيْشِ الشَّامِ السَّمَاءَ مِدْرَارًا، فَلَمْ يَسْتَقُوا بِدَلْوٍ حَتَّى وَرَدُوا الْمَدِينَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ وَهَيْئَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ الشَّامِ هَابُوهُمْ وَكَرِهُوا قِتَالَهُمْ، وَمُسْلِمٌ شَدِيدُ الْوَجَعِ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي قِتَالِهِمْ إِذْ سَمِعُوا التَّكْبِيرَ مِنْ خَلْفِهِمْ فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ، وَأَقْحَمَ عَلَيْهِمْ بَنُو حَارِثَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَهُمْ عَلَى الْجَدَدِ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَكَانَ مَنْ أُصِيبَ فِي الْخَنْدَقِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ النَّاسِ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ،
وَهُزِمَ
النَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْجِدَارِ يَغُطُّ
نَوْمًا، فَنَبَّهَهُ ابْنُهُ، فَلَمَّا فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وَرَأَى مَا صَنَعَ
النَّاسُ، أَمَرَ أَكْبَرَ بَنِيهِ فَتَقَدَّمَ حَتَّى قُتِلَ، فَدَخَلَ مُسْلِمُ
بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ، فَدَعَا النَّاسَ لِلْبَيْعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ
خَوَلٌ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، يَحْكُمُ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
وَأَهْلِيهِمْ مَا شَاءَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ مِنْ
" تَارِيخِهِ " مِنْ كِتَابِ الْمُجَالَسَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ
الْمَالِكِيِّ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْيَشْكُرِيُّ، ثَنَا
الزِّيَادِيُّ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ ( ح ) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَارِثِ، عَنِ الْمَدَائِنِيِّ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَهْلُ الْحَرَّةِ هَتَفَ
هَاتِفٌ بِمَكَّةَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ مَسَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَابْنُ
الزُّبَيْرِ جَالِسٌ يَسْمَعُ:
قُتِلَ الْخِيَارُ بَنُو الْخِيَا رِ ذَوُو الْمَهَابَةِ وَالسَّمَاحِ
وَالصَّائِمُونَ الْقَائِمَو نَ الْقَانِتُونَ أُولُو الصَّلَاحِ
الْمُهْتَدُونَ الْمُتَّقُو نَ السَّابِقُونَ إِلَى الْفَلَاحِ
مَاذَا بِوَاقِمَ وَالْبَقِيعِ مِنَ الْجَحَاجِحَةِ الصِّبَاحِ
وَبِقَاعُ يَثْرِبَ وَيْحَهُنَّ مِنَ النَّوَادِبِ وَالصِّيَاحِ
فَقَالَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ لِأَصْحَابِهِ: يَا هَؤُلَاءِ، قُتِلَ أَصْحَابُكُمْ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقَدْ أَخْطَأَ يَزِيدُ خَطَأً فَاحِشًا فِي قَوْلِهِ لِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ
أَنْ يُبِيحَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ، فَإِنَّهُ
وَقَعَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ فِي
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوَصَفُ، مِمَّا لَا
يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ أَرَادَ بِإِرْسَالِ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ تَوْطِيدَ سُلْطَانِهِ
وَمُلْكِهِ، وَدَوَامَ أَيَّامِهِ، فَعَاقَبَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ،
فَقَصَمَهُ اللَّهُ قَاصِمُ الْجَبَابِرَةِ، وَأَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ
مُقْتَدِرٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ
حُرَيْثٍ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا الْجُعَيْدُ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا يَكِيدُ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ
".
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ
الْمَدَنِيِّ - وَاسْمُهُ
دِينَارٌ
- عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إِلَّا
أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ " أَوْ: " ذَوْبَ
الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ ".
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ، عَنْ
سَعْدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ أَذَابَهُ
اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ
خُصَيْفَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ
خَلَّادٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ظُلْمًا أَخَافَهُ اللَّهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ
غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ
خَلَّادٍ
مِنْ بِلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، أَخْبَرَهُ، فَذَكَرَهُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ
الْحُمَيْديُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
خُصَيْفَةَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ
عَرَبِيٍّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي
مَرْيَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ خَلَّادٍ، وَكَانَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ،
عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَخَافَهُ اللَّهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ".
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْهَيْثَمِ، ثَنَا
أَبِي، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، ثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ
الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَيْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَا:خَرَجْنَا
مَعَ
أَبِينَا يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ فَقَالَ: تَعِسَ مَنْ أَخَافَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْنَا: يَا أَبَتِ،
وَهَلْ أَحَدٌ يُخِيفُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ !
فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" مَنْ أَخَافَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ
هَذَيْنَ ". وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى جَنْبَيْهِ قَالَ الدِّارَقُطْنِيُّ:
تَفَرَّدَ بِهِ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ لَفْظًا وَإِسْنَادًا. وَقَدِ
اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّرْخِيصِ فِي
لَعْنَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
اخْتَارَهَا الْخَلَّالُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَالْقَاضِي أَبُو
يَعْلَى، وَابْنُهُ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ، وَانْتَصَرَ لِذَلِكَ الشَّيْخُ
أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ وَجَوَّزَ لَعْنَهُ،
وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ آخَرُونَ - وَصَنَّفُوا فِيهِ أَيْضًا - لِئَلَّا يُجْعَلَ
لَعْنُهُ وَسِيلَةً إِلَى أَبِيهِ أَوْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَمَلُوا مَا
صَدَرَ عَنْهُ مِنْ سُوءِ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى أَنَّهُ تَأَوَّلَ وَأَخْطَأَ،
وَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ مَعَ ذَلِكَ إِمَامًا فَاسِقًا، وَالْإِمَامُ إِذَا
فَسَقَ لَا يُعْزَلُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ،
بَلْ وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِثَارَةِ
الْفِتْنَةِ، وَوُقُوعِ الْهَرْجِ، كَمَا جَرَى.
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ
لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،
وَمَا
جَرَى عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْحَرَّةِ مِنْ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ وَجَيْشِهِ،
فَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّهُ الْإِمَامُ،
وَقَدْ خَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ غَيْرَهُ، فَلَهُ
قِتَالُهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ، وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، كَمَا أَنْذَرَهُمْ
بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
" مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ
فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ". وَأَمَّا مَا يُورِدُونَهُ عَنْهُ مِنَ
الشِّعْرِ فِي ذَلِكَ، وَاسْتِشْهَادِهِ بِشِعْرِ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِي وَقْعَةِ
أُحُدٍ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقَعِ الْأَسَلْ
حِينَ حَكَّتْ بِقُبَاءٍ بَرْكَهَا وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الْأَشَلْ
قَدْ قَتَلْنَا الضِّعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ
فَاعْتَدَلْ
وَقَدْ زَادَ بَعْضُ الرَّوَافِضِ فِيهَا فَقَالَ:
لَعِبَتْ هَاشِمُ بِالْمُلْكِ فَلَا مَلَكٌ جَاءَ وَلَا وَحْيٌ نَزَلَ
فَهَذَا إِنْ قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَلَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَهُ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
مَنْ وَضَعَهُ عَلَيْهِ لِيُشَنِّعَ عَلَيْهِ بِهِ وَعَلَى مُلُوكِ
الْمُسْلِمِينَ، وَسَنَذْكُرُ تَرْجَمَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَرِيبًا،
وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ، وَمَا قِيلَ فِيهِ، وَمَا كَانَ يُعَانِيهِ مِنَ
الْأَفْعَالِ وَالْقَبَائِحِ وَالْأَقْوَالِ، فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، فَإِنَّهُ
لَمْ يُمْهَلْ بَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ وَقَتْلِ الْحُسَيْنِ إِلَّا يَسِيرًا
حَتَّى قَصَمَهُ اللَّهُ الَّذِي قَصَمَ الْجَبَابِرَةَ قَبْلَهُ
وَبَعْدَهُ،
إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلْقٌ مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ
مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي وَقْعَةِ الْحَرَّةِ مِمَّا يَطُولُ
ذِكْرُهُمْ ; فَمِنْ مَشَاهِيرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَنْظَلَةَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، الَّذِي بَايَعَهُ أَهْلُ الْحَرَّةِ،
وَمَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
فَفِيهَا فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا سَارَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ - بَعْدَ
فَرَاغِهِ مِنْ حَرْبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - إِلَى مَكَّةَ قَاصِدًا قِتَالَ
ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَنِ الْتَفَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى مُخَالَفَةِ
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ،
فَلَمَّا بَلَغَ ثَنِيَّةَ هَرْشَى بَعَثَ إِلَى رُءُوسِ الْأَجْنَادِ
فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَهِدَ إِلَيَّ إِنْ حَدَثَ
بِي حَدَثُ الْمَوْتِ أَنْ أَسْتَخْلِفَ عَلَيْكَمْ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ
السَّكُونِيَّ، وَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ لِي مَا فَعَلْتُ. ثُمَّ دَعَا
بِهِ فَقَالَ: انْظُرْ يَابْنَ بَرْدَعَةِ الْحِمَارِ فَاحْفَظْ مَا أُوصِيكَ
بِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُ إِذَا وَصَلَ مَكَّةَ أَنْ يُنَاجِزَ ابْنَ الزُّبَيْرِ
قَبْلَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَعْمَلْ عَمَلًا قَطُّ
بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ قَتْلِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَلَا أَرْجَى
عِنْدِي فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ دَخَلْتُ النَّارَ بَعْدَ ذَلِكَ إِنِّي
لَشَقِيٌّ. ثُمَّ مَاتَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَدُفِنَ بِالْمُشَلَّلِ. فِيمَا
قَالَهُ
الْوَاقِدِيُّ.
وَسَارَ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِالْجَيْشِ نَحْوَ مَكَّةَ، فَانْتَهَى إِلَيْهَا
لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ فِيمَا قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَقِيلَ:
لِسَبْعٍ مَضَيْنَ مِنْهُ. وَقَدْ تَلَاحَقَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ جَمَاعَاتٌ
مِمَّنْ بَقِيَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَانْضَافَ إِلَيْهِ أَيْضًا
نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ
أَهْلِهَا ; لِيَمْنَعُوا الْبَيْتَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَنَزَلَ حُصَيْنُ بْنُ
نُمَيْرٍ ظَاهِرَ مَكَّةَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي أَهْلِ
مَكَّةَ وَمَنِ الْتَفَّ مَعَهُ، فَاقْتَتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ قِتَالًا
شَدِيدًا، وَتَبَارَزَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَحَمَلَ أَهْلُ الشَّامِ
حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْكَشَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَعَثَرَتْ بَغْلَةُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِهِ، فَكَرَّ عَلَيْهِ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ
وَمُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَطَائِفَةٌ، فَقَاتَلُوا دُونَهُ
حَتَّى قُتِلُوا جَمِيعًا، وَصَابَرَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ حَتَّى اللَّيْلِ،
فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا فِي بَقِيَّةِ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ
وَصَفَرًا بِكَمَالِهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ ثَالِثُ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، نَصَبُوا الْمَجَانِيقَ عَلَى
الْكَعْبَةِ، وَرَمَوْهَا حَتَّى بِالنَّارِ، فَاحْتَرَقَ جِدَارُ الْبَيْتِ فِي
يَوْمِ السَّبْتِ - هَكَذَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ - وَهُمْ يَقُولُونَ:
خَطَّارَةٌ
مِثْلُ الْفَنِيقِ الْمُزْبِدِ نَرْمِي بِهَا أَعْوَادَ هَذَا الْمَسْجِدِ
وَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ حَوْطَةَ السَّدُوسِيُّ يَقُولُ:
كَيْفَ تَرَى صَنِيعَ أُمِّ فَرْوَهْ تَأْخُذُهُمْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَهْ
وَأُمُّ فَرْوَةَ اسْمُ الْمَنْجَنِيقِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا احْتَرَقَتْ ; لِأَنَّ
أَهْلَ الْمَسْجِدِ جَعَلُوا يُوقِدُونَ النَّارَ وَهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ،
فَعَلِقَتِ النَّارُ فِي بَعْضِ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَسَرَتْ إِلَى
أَخْشَابِهَا وَسُقُوفِهَا فَاحْتَرَقَتْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا احْتَرَقَتْ لِأَنَّ
ابْنَ الزُّبَيْرِ سَمِعَ التَّكْبِيرَ عَلَى بَعْضِ جِبَالِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ
ظَلْمَاءَ، فَظَنَّ أَنَّهُمْ أَهْلُ الشَّامِ، فَرُفِعَتْ نَارٌ عَلَى رُمْحٍ
لِيَنْظُرُوا مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَلَى الْجَبَلِ، فَأَطَارَتِ الرِّيحُ
شَرَرَةً مِنْ رَأَسِ الرُّمْحِ إِلَى مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ
وَالْأَسْوَدِ مِنَ الْكَعْبَةِ، فَعَلِقَتْ فِي أَسْتَارِهَا وَأَخْشَابِهَا،
فَاحْتَرَقَتْ وَاسْوَدَّ الرُّكْنُ، وَانْصَدَعَ فِي ثَلَاثَةِ أَمْكِنَةٍ
مِنْهُ.
وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ إِلَى مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَجَاءَ النَّاسَ
نَعْيُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ
ابْنُ خَمْسٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَكَانَتْ
وِلَايَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَسِتَّةً أَوْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، فَحِينَئِذٍ
خَمَدَتِ الْحَرْبُ وَطَفِئَتْ نَارُ الْفِتْنَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ مَكَثُوا
يُحَاصِرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
وَيُذْكَرُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ
عَلِمَ
بِمَوْتِ يَزِيدَ قَبْلَ أَهْلِ الشَّامِ، فَنَادَى فِيهِمْ: يَا أَهْلَ الشَّامِ،
قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ طَاغِيَتَكُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَدْخُلَ
فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى
شَامِهِ فَلْيَرْجِعْ. فَلَمْ يُصَدِّقِ الشَّامِيُّونَ أَهْلَ مَكَّةَ فِيمَا
أَخْبَرُوهُمْ بِهِ، حَتَّى جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْمُنَقَّعِ
بِالْخَبَرِ الْيَقِينِ. وَيُذْكَرُ أَنَّ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ دَعَاهُ ابْنُ
الزُّبَيْرِ لِيُحَدِّثَهُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَاجْتَمَعَا حَتَّى اخْتَلَفَتْ
رُءُوسُ فَرَسَيْهِمَا، وَجَعَلَتْ فَرَسُ حُصَيْنٍ تَنْفِرُ وَيَكُفُّهَا،
فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْحَمَامَ تَحْتَ
رِجْلَيْ فَرَسِي تَأْكُلُ مِنَ الرَّوَثِ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَطَأَ حَمَامَ
الْحَرَمِ. فَقَالَ لَهُ: تَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ تَقْتُلُ الْمُسْلِمِينَ ؟ !
فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَطُفْ بِالْكَعْبَةِ ثُمَّ نَرْجِعُ
إِلَى بِلَادِنَا. فَأَذِنَ لَهُمْ فَطَافُوا.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ حُصَيْنًا وَابْنَ الزُّبَيْرِ اتَّعَدَا لَيْلَةً
أَنْ يَجْتَمِعَا، فَاجْتَمَعَا بِظَاهِرِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: إِنْ
كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ هَلَكَ فَأَنْتَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ
بَعْدَهُ، فَهَلُمَّ فَارْحَلْ مَعِي إِلَى الشَّامِ، فَوَاللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ
عَلَيْكَ اثَنَانِ.
فَيُقَالُ:
إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَثِقْ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي
الْمَقَالِ، فَنَفَرَ مِنْهُ ابْنُ نُمَيْرٍ، وَقَالَ: أَنَا أَدْعُوهُ إِلَى
الْخِلَافَةِ، وَهُوَ يُغْلِظُ لِي فِي الْمَقَالِ ؟ ! ثُمَّ كَرَّ بِالْجَيْشِ
رَاجِعًا إِلَى الشَّامِ، وَقَالَ: أَعِدُهُ بِالْمُلْكِ وَيَتَوَاعَدُنِي
بِالْقَتْلِ ؟ ! ثُمَّ نَدِمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ
مِنَ الْغِلْظَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: أَمَّا الشَّامُ فَلَسْتُ
آتِيهِ، وَلَكِنْ خُذْ لِيَ الْبَيْعَةَ عَلَى مَنْ هُنَاكَ، فَإِنِّي
أُؤَمِّنُكُمْ وَأَعْدِلُ فِيكُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ مَنْ
يَبْتَغِيهَا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ بِالشَّامِ لَكَثِيرٌ. فَرَجَعَ
فَاجْتَازَ بِالْمَدِينَةِ، فَطَمِعَ فِيهِ أَهْلُهَا وَأَهَانُوهُمْ إِهَانَةً
بَالِغَةً، وَأَكْرَمَهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَأَهْدَى لِحُصَيْنِ بْنِ
نُمَيْرٍ قَتًّا وَعَلَفًا، وَارْتَحَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ مَعَ الْجَيْشِ إِلَى
الشَّامِ، فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَقَدِ اسْتُخْلِفَ بِدِمَشْقَ مُعَاوِيَةُ بْنُ
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ وَصِيَّةٍ مِنْ أَبِيهِ لَهُ بِذَلِكَ. وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
هُوَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ
أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو خَالِدٍ
الْأُمَوِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ
بِالْمَاطِرُونِ، وَقِيلَ: بِبَيْتِ رَأْسٍ. وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي
حَيَاةِ أَبِيهِ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ
الْعَهْدِ
مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فِي النِّصْفِ مِنْ
رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، فَاسْتَمَرَّ مُتَوَلِّيًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي
الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَأُمُّهُ
مَيْسُونُ بِنْتُ بَحْدَلِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ دُلْجَةَ بْنِ قُنَافَةَ بْنِ
عَدِيِّ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ حَارِثَةَ الْكَلْبِيِّ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي
الدِّينِ ". وَحَدِيثًا آخَرَ فِي الْوُضُوءِ. وَعَنْهُ ابْنُهُ خَالِدٌ
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ
الدِّمَشْقِيُّ فِي الطَّبَقَةِ الَّتِي تَلِي الصَّحَابَةَ، وَهِيَ الْعُلْيَا،
وَقَالَ: لَهُ أَحَادِيثُ. وَكَانَ كَثِيرَ اللَّحْمِ، عَظِيمَ الْجِسْمِ، كَثِيرَ
الشَّعْرِ، جَمِيلًا طَوِيلًا، ضَخْمَ الْهَامَةِ، مُخَدَّدَ الْأَصَابِعِ
غَلِيظَهَا، مُجَدَّرًا.
وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ طَلَّقَ أُمَّهُ وَهِيَ حَامِلٌ بِهِ، فَرَأَتْ فِي
الْمَنَامِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ قُبُلِهَا قَمَرٌ، فَقَصَّتْ رُؤْيَاهَا عَلَى
أُمِّهَا فَقَالَتْ: إِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ لَتَلِدِنَّ مَنْ يُبَايَعُ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ. وَجَلَسَتْ أُمُّهُ مَيْسُونُ يَوْمًا تُمَشِّطُهُ وَهُوَ صَبِيٌّ
صَغِيرٌ، وَأَبُوهُ مُعَاوِيَةُ مَعَ زَوْجَتِهِ الْحَظِيَّةِ عِنْدَهُ فِي
الْمَنْظَرَةِ، وَهِيَ فَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ
مَشْطِهِ نَظَرَتْ إِلَيْهِ، فَأَعْجَبَهَا فَقَبَّلَتْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ،
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ عِنْدَ ذَلِكَ:
إِذَا
مَاتَ لَمْ تُفْلِحْ مُزَيْنَةُ بَعْدَهُ فَنُوطِي عَلَيْهِ يَا مُزَيْنُ
التَّمَائِمَا
وَانْطَلَقَ يَزِيدُ يَمْشِي وَفَاخِتَةُ تُتْبِعُهُ بَصَرَهَا، ثُمَّ قَالَتْ:
لَعَنَ اللَّهُ سَوَادَ سَاقَيْ أُمِّكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَا وَاللَّهِ
إِنَّهُ لَخَيْرٌ مِنِ ابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ وَلَدُهُ مِنْهَا، وَكَانَ
أَحْمَقَ - فَقَالَتْ فَاخِتَةُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّكَ تُؤْثِرُ هَذَا
عَلَيْهِ. فَقَالَ: سَوْفَ أُبَيِّنُ لَكِ ذَلِكَ حَتَّى تَعْرِفِيهِ قَبْلَ أَنْ
تَقُومِي مِنْ مَجْلِسِكِ هَذَا. ثُمَّ اسْتَدْعَى بِابْنِهَا عَبْدِ اللَّهِ
فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُعْطِيَكَ كُلَّ مَا تَسْأَلُنِي فِي
هَذَا الْمَجْلِسِ. فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْتَرِيَ لِي كَلْبًا فَارِهًا
وَحِمَارًا. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَنْتَ حِمَارٌ وَيُشْتَرَى لَكَ حِمَارٌ ؟ !
قُمْ فَاخْرُجْ. ثُمَّ قَالَ لِأُمِّهِ: كَيْفَ رَأَيْتِ ؟ ثُمَّ اسْتَدْعَى
بِيَزِيدَ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُعْطِيَكَ كُلَّ مَا تَسْأَلُنِي
فِي مَجْلِسِكَ هَذَا، فَسَلْنِي مَا بَدَا لَكَ. فَخَرَّ يَزِيدُ سَاجِدًا، ثُمَّ
قَالَ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَلَّغَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَأَرَاهُ فِي هَذَا الرَّأْيِ، حَاجَتِي أَنْ
تَعْقِدَ لِيَ الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِكَ، وَتُوَلِّيَنِي الْعَامَ صَائِفَةَ
الْمُسْلِمِينَ، وَتَأْذَنَ لِي فِي الْحَجِّ إِذَا رَجَعْتَ، وَتُوَلِّيَنِي الْمَوْسِمَ،
وَتَزِيدَ أَهْلَ الشَّامِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ لِكُلِّ رَجُلٍ، وَتَجْعَلَ ذَلِكَ
بِشَفَاعَتِي، وَتَفْرِضَ لِأَيْتَامِ بَنِي جُمَحٍ، وَأَيْتَامِ بَنِي سَهْمٍ،
وَأَيْتَامِ بَنِي عَدِيٍّ. فَقَالَ: مَا لَكَ وَلِأَيْتَامِ بَنِي عَدِيٍّ ؟
فَقَالَ: لِأَنَّهُمْ حَالَفُونِي وَانْتَقَلُوا إِلَى دَارِي. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَقَبَّلَ وَجْهَهُ. ثُمَّ قَالَ
لِابْنَةِ قَرَظَةَ: كَيْفَ رَأَيْتِ ؟ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
أَوْصِهِ بِي فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. فَفَعَلَ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ
يَزِيدَ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُوهُ: سَلْنِي
حَاجَتَكَ.
قَالَ لَهُ يَزِيدُ: أَعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَكَ
مِنْهَا. قَالَ: وَكَيْفَ ؟ قَالَ: لِأَنِّي وَجَدْتُ فِي الْأَثَرِ أَنَّهُ مَنْ
تَقَلَّدَ أَمْرَ الْأُمَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى
النَّارِ، فَاعْهَدْ إِلَيَّ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِكَ. فَفَعَلَ.
وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: رَأَى مُعَاوِيَةُ ابْنَهُ يَزِيدَ يَضْرِبُ غُلَامًا لَهُ،
فَقَالَ لَهُ: سَوْأَةً لَكَ، أَتُضْرِبُ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ
عَلَيْكَ ؟ ! وَاللَّهِ لَقَدْ مَنَعَتْنِي الْقَدْرَةُ مِنْ ذَوِي الْإِحَنِ،
وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ عَفَا لَمَنْ قَدَرَ.
قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَبَا مَسْعُودٍ يَضْرِبُ غُلَامًا لَهُ،
فَقَالَ لَهُ: " اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقَدْرُ عَلَيْكَ مِنْكَ
عَلَيْهِ ".
قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَقَدِمَ زِيَادٌ بِأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ وَبِسَفْطٍ مَمْلُوءٍ
جَوْهَرًا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَسُرَّ بِذَلِكَ مُعَاوِيَةُ، فَقَامَ زِيَادٌ
فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، ثُمَّ افْتَخَرَ بِمَا يَفْعَلُهُ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ مِنْ
تَمْهِيدِ الْمَمَالِكِ لِمُعَاوِيَةَ، فَقَامَ يَزِيدُ فَقَالَ: إِنْ تَفْعَلْ
ذَلِكَ يَا زِيَادُ فَنَحْنُ نَقَلْنَاكَ مِنْ وَلَاءِ ثَقِيفٍ إِلَى قُرَيْشٍ،
وَمِنَ الْقَلَمِ إِلَى الْمَنَابِرِ، وَمِنْ زِيَادِ بْنِ عُبَيْدٍ إِلَى حَرْبِ
بْنِ أُمَيَّةَ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: اجْلِسْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ وَغَيْرِهِ قَالَ: غَضِبَ مُعَاوِيَةُ عَلَى
ابْنِهِ يَزِيدَ فَهَجَرَهُ،
فَقَالَ
لَهُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْلَادُنَا ثِمَارُ
قُلُوبِنَا، وَعِمَادُ ظُهُورِنَا، وَنَحْنُ لَهُمْ سَمَاءٌ ظَلِيلَةٌ وَأَرْضٌ
ذَلِيلَةٌ، إِنْ غَضِبُوا فَأَرْضِهِمْ، وَإِنْ طَلَبُوا فَأَعْطِهِمْ، وَلَا
تَكُنْ عَلَيْهِمْ ثِقْلًا فَيَمَلُّوا حَيَاتَكَ وَيَتَمَنَّوْا مَوْتَكَ.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لِلَّهِ دَرُّكَ يَا أَبَا بَحْرٍ، يَا غُلَامُ، ائْتِ
يَزِيدَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَ لَكَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِائَةِ ثَوْبٍ. فَقَالَ
يَزِيدُ: مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: الْأَحْنَفُ. فَقَالَ
يَزِيدُ: لَا جَرَمَ، لَأُقَاسِمَنَّهُ. فَبَعَثَ إِلَى الْأَحْنَفِ بِخَمْسِينَ
أَلْفًا وَخَمْسِينَ ثَوْبًا.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَابِيُّ،
ثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ يَزِيدُ فِي حَدَاثَتِهِ
صَاحِبَ شَرَابٍ يَأْخُذُ مَأْخَذَ الْأَحْدَاثِ، فَأَحَسَّ مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ،
فَأَحَبَّ أَنْ يَعِظَهُ فِي رِفْقٍ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مَا أَقْدَرَكَ عَلَى
أَنْ تَصِيرَ إِلَى حَاجَتِكَ مِنْ غَيْرِ تَهَتُّكٍ يَذْهَبُ بِمُرُوءَتِكَ
وَقَدْرِكَ. ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي مُنْشِدُكَ أَبْيَاتًا، فَتَأَدَّبْ
بِهَا وَاحْفَظْهَا. فَأَنْشَدَهُ:
انْصَبْ نَهَارًا فِي طِلَابِ الْعُلَا وَاصْبِرْ عَلَى هَجْرِ الْحَبِيبِ
الْقَرِيبِ
حَتَّى إِذَا اللَّيْلُ أَتَى بِالدُّجَى وَاكْتَحَلَتْ بِالْغُمْضِ عَيْنُ
الرَّقِيبِ
فَبَاشِرِ اللَّيْلَ بِمَا تَشْتَهِي فَإِنَّمَا اللَّيْلُ نَهَارُ الْأَرِيبِ
كَمْ فَاسِقٍ تَحْسَبُهُ نَاسِكًا قَدْ بَاشَرَ اللَّيْلَ بِأَمْرٍ عَجِيبٍ
غَطَّى عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَسْتَارَهُ فَبَاتَ فِي أَمْنٍ وَعَيْشٍ خَصِيبٍ
وَلَذَّةُ
الْأَحْمَقِ مَكْشُوفَةٌ يَشْفَى بِهَا كُلُّ عَدُوٍّ غَرِيبِ
قُلْتُ: وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " مَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ
هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ وَالْمَدَائِنِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
وَفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ ابْنَهُ يَزِيدَ أَنْ يَأْتِيَهُ
فَيُعَزِّيَهُ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
رَحَّبَ بِهِ وَأَكْرَمَهُ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ
أَنْ يَرْفَعَ مَجْلِسَهُ، فَأَبَى وَقَالَ: إِنَّمَا أَجْلِسُ مَجْلِسَ
الْمُعَزِّي لَا الْمُهَنِّي. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَسَنَ، فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ
أَبَا مُحَمَّدٍ أَوْسَعَ الرَّحْمَةِ وَأَفْسَحَهَا، وَأَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ
وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ، وَعَوَّضَكَ مِنْ مُصَابِكَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ ثَوَابًا
وَخَيْرٌ عُقْبَى. فَلَمَّا نَهَضَ يَزِيدُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
إِذَا ذَهَبَ بَنُو حَرْبٍ ذَهَبَ حُلَمَاءُ النَّاسِ. ثُمَّ أَنْشَدَ
مُتَمَثِّلًا:
مَغَاضٍ عَنِ الْعَوْرَاءِ لَا يَنْطِقُونَهَا وَأَهْلُ وِرَاثَاتِ الْحُلُومِ
الْأَوَائِلِ
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي سَنَةِ
تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، فِي قَوْلِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ. وَقَالَ خَلِيفَةُ
بْنُ خَيَّاطٍ: سَنَةَ خَمْسِينَ. ثُمَّ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو مَدِينَةَ
قَيْصَرَ
مَغْفُورٌ لَهُمْ. وَهُوَ الْجَيْشُ الثَّانِي الَّذِينَ رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ عِنْدَ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ
مِلْحَانَ، مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ
يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: " أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ " يَعْنِي
مِنَ الْجَيْشِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ
الْبَحْرِ، فَكَانَ أَمِيرَ الْأُولَى أَبُوهُ مُعَاوِيَةُ. حِينَ غَزَا قُبْرُسَ،
فَفَتَحَهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَيَّامَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،
وَكَانَتْ مَعَهُمْ أُمُّ حَرَامٍ، فَمَاتَتَ هُنَالِكَ بِقُبْرُسَ، ثُمَّ كَانَ
أَمِيرَ الْجَيْشِ الثَّانِي ابْنُهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ تُدْرِكْ
أُمُّ حَرَامٍ جَيْشَ يَزِيدَ هَذَا. وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ دَلَائِلَ
النُّبُوَّةِ. كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ هَاهُنَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ
مُحَاضِرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ ". الْحَدِيثَ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَفِيقٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَهُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ
زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: الْقَرْنُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، فَبُعِثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَرْنٍ فَكَانَ آخِرَهُ
مَوْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ
أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: ثُمَّ حَجَّ بِالنَّاسِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي
سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، ثَنَا رِشْدِينُ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ
قَالَ لِيَزِيدَ ابْنِهِ: كَيْفَ تُرَاكَ فَاعِلًا إِنْ وُلِّيتَ ؟ قَالَ:
يُمْتِعُ اللَّهُ بِكَ. قَالَ: لَتُخْبِرَنِّي. قَالَ: كُنْتُ وَاللَّهِ يَا
أَبَهْ عَامِلًا فِيهِمْ عَمَلَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
سُبْحَانَ اللَّهِ ! يَا سُبْحَانَ اللَّهِ ! ! وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ لَقَدْ
جَهَدْتُ عَلَى سِيرَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَمَا أَطَقْتُهَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبَى
سَبْرَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: قَالَ
مُعَاوِيَةُ لِيَزِيدَ وَهُوَ يُوصِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: يَا يَزِيدُ، اتَّقِ
اللَّهَ فَقَدْ وَطَّأْتُ لَكَ هَذَا الْأَمْرَ، وَوُلِّيتَ مِنْ ذَلِكَ مَا
وُلِّيتَ، فَإِنْ يَكُ خَيْرًا فَأَنَا أَسْعَدُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ
شَقِيتَ بِهِ، فَارْفُقْ بِالنَّاسِ، وَأَغْمِضْ عَمَّا بَلَغَكَ مِنْ قَوْلٍ
تُؤْذَى بِهِ وَتُنْتَقَصُ بِهِ، وَطَأْ عَلَيْهِ يَهْنِكَ عَيْشُكَ، وَتَصْلُحُ
لَكَ رَعِيَّتُكَ، وَإِيَّاكَ وَالْمُنَاقَشَةَ وَحَمْلَ الْغَضَبِ، فَإِنَّكَ
تُهْلِكُ نَفْسَكَ وَرَعِيَّتَكَ، وَإِيَّاكَ وَجَفْوَةَ أَهْلِ الشَّرَفِ،
وَاسْتِهَانَتَهُمْ، وَالتَّكَبُّرَ عَلَيْهِمْ، لِنْ لَهُمْ لِينًا بِحَيْثُ لَا
يَرَوْنَ
مِنْكَ
ضَعْفًا وَلَا خَوَرًا، وَأَوْطِئْهُمْ فِرَاشَكَ، وَقَرِّبْهُمْ إِلَيْكَ،
وَأَدْنِهِمْ مِنْكَ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَكَ حَقَّكَ، وَلَا تُهِنْهُمْ
وَلَا تَسْتَخِفَّ بِحَقِّهِمْ فَيُهِينُوكَ وَيَسْتَخِفُّوا بِحَقِّكَ وَيَقَعُوا
فِيكَ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَمْرًا فَادْعُ أَهْلَ السِّنِّ وَالتَّجْرِبَةِ مِنْ
أَهْلِ الْخَيْرِ مِنَ الْمَشَايِخِ وَأَهْلِ التَّقْوَى، فَشَاوِرْهُمْ وَلَا
تُخَالِفْهُمْ، وَإِيَّاكَ وَالِاسْتِبْدَادَ بِرَأْيِكَ ; فَإِنَّ الرَّأْيَ
لَيْسَ فِي صَدْرٍ وَاحِدٍ، وَصَدِّقْ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ إِذَا حَمَلَكَ عَلَى
مَا تَعْرِفُ، ثُمَّ أَطِعْهُ فِيمَا أَشَارَ بِهِ، وَاخْزُنْ ذَلِكَ عَنْ
نِسَائِكَ وَخَدَمِكَ، وَشَمِّرْ إِزَارَكَ، وَتَعَاهَدْ جُنْدَكَ، وَأَصْلِحْ
نَفْسَكَ يَصْلُحْ لَكَ النَّاسُ، لَا تَدَعْ لَهُمْ فِيكَ مَقَالًا ; فَإِنَّ
النَّاسَ نُزَّاعٌ إِلَى الشَّرِّ، وَاحْضُرِ الصَّلَاةَ، فَإِنَّكَ إِذَا
فَعَلْتَ مَا أُوصِيكَ بِهِ عَرَفَ النَّاسُ لَكَ حَقَّكَ، وَعَظُمَتْ
مَمْلَكَتُكَ، وَعَظُمَتْ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَاعْرِفْ شَرَفَ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ ; فَإِنَّهُمْ أَصْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ، وَاحْفَظْ لِأَهْلِ
الشَّامِ شَرَفَهُمْ ; فَإِنَّهُمْ أَنْصَارُكَ وَحُمَاتُكَ وَجُنْدُكَ الَّذِينَ
بِهِمْ تَصُولُ، وَتَنْتَصِرُ عَلَى أَعْدَائِكَ، وَتَصِلُ إِلَى أَهْلِ
طَاعَتِكَ، وَاكْتُبْ إِلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ بِكِتَابٍ تَعِدُهُمْ فِيهِ
مِنْكَ الْمَعْرُوفَ ; فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَشِّطُ آمَالُهُمْ، وَإِنْ وَفَدَ
عَلَيْكَ وَافِدٌ مِنَ الْكُوَرِ كُلِّهَا فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ وَأَكْرِمْهُمْ ;
فَإِنَّهُمْ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ، وَلَا تَسْمَعَنَّ قَوْلَ قَاذِفٍ وَلَا مَاحِلٍ
; فَإِنِّي رَأَيْتُهُمْ وُزَرَاءَ سُوءٍ.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِيَزِيدَ: إِنَّ لِي خَلِيلًا مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَأَكْرِمْهُ. قَالَ: وَمَنْ هُوَ ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ جَعْفَرٍ فَلَمَّا وَفَدَ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ عَلَى يَزِيدَ أَضْعَفَ
جَائِزَتَهُ الَّتِي كَانَ مُعَاوِيَةُ يُعْطِيهِ إِيَّاهَا، وَكَانَتْ
جَائِزَتُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ سِتَّمِائَةِ
أَلْفٍ،
فَأَعْطَاهُ يَزِيدُ أَلْفَ أَلْفٍ، فَقَالَ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي.
فَأَعْطَاهُ أَلْفَ أَلْفٍ أُخْرَى. فَقَالَ لَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ: وَاللَّهِ لَا
أَجْمَعُ أَبَوَيَّ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ. وَلَمَّا خَرَجَ ابْنُ جَعْفَرٍ مِنْ
عِنْدِ يَزِيدَ - وَقَدْ أَعْطَاهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ - رَأْي عَلَى بَابِ يَزِيدَ
بَخَاتِيَّ مُبَرِّكَاتٍ، قَدْ قَدِمَ عَلَيْهَا هَدِيَّةٌ مِنْ خُرَاسَانَ،
فَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى يَزِيدَ، فَسَأَلَهُ مِنْهَا ثَلَاثَ
بَخَاتِيَّ لِيَرْكَبَ عَلَيْهَا إِلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِذَا وَفَدَ
إِلَى الشَّامِ عَلَى يَزِيدَ. فَقَالَ يَزِيدُ لِلْحَاجِبِ: مَا هَذِهِ
الْبَخَاتِيُّ الَّتِي عَلَى الْبَابِ ؟ - وَلَمْ يَكُنْ شَعَرَ بِهَا - فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذِهِ أَرْبَعُمِائَةِ بُخْتِيَّةٍ جَاءَتْنَا مِنْ
خُرَاسَانَ تَحْمِلُ أَنْوَاعَ الْأَلْطَافِ - وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْوَاعٌ مِنَ
الْأَمْوَالِ كُلِّهَا - فَقَالَ: اصْرِفْهَا إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ بِمَا
عَلَيْهَا. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ يَقُولُ: أَتَلُومُونَنِي عَلَى
حُسْنِ الرَّأْيِ فِي هَذَا ؟ ! يَعْنِي يَزِيدَ.
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ فِيهِ خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ مِنَ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ
وَالْفَصَاحَةِ وَالشِّعْرِ وَالشَّجَاعَةِ وَحُسْنِ الرَّأْيِ فِي الْمُلْكِ،
وَكَانَ ذَا جَمَالٍ، حَسَنَ الْمُعَاشَرَةِ وَكَانَ فِيهِ أَيْضًا إِقْبَالٌ
عَلَى الشَّهَوَاتِ وَتَرْكُ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثَنَا
حَيْوَةُ، حَدَّثَنِي بَشِيرُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّ
الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ
يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" يَكُونُ خَلْفٌ مِنْ بَعْدِ سِتِّينَ سَنَةً أَضَاعُوا الصَّلَاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، ثُمَّ يَكُونُ خَلْفٌ
يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ
ثَلَاثَةٌ ; مُؤْمِنٌ وَمَنَافِقٌ وَفَاجِرٌ ".
قَالَ
بَشِيرٌ: فَقُلْتُ لِلْوَلِيدِ: مَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ؟ قَالَ: الْمَنَافقُ
كَافِرٌ بِهِ، وَالْفَاجِرُ يَتَأَكَّلُ بِهِ، وَالْمُؤْمِنُ يُؤْمِنُ بِهِ.
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا
الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، ثَنَا كَامِلٌ أَبُو الْعَلَاءِ، سَمِعْتُ أَبَا
صَالِحٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ سَنَةِ سَبْعِينَ،
وَمِنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ ".
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ:
لَسْتَ مِنَّا وَلَيْسَ خَالُكَ مِنَّا يَا مُضَيِّعَ الصَّلَاةِ لِلشَّهَوَاتِ
قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الشِّعْرَ لِمُوسَى بْنِ يَسَارٍ،
وَيُعْرَفُ بِمُوسَى شَهَوَاتٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
أَنَّهُ سَمِعَ جَارِيَةً لَهُ تُغَنِّي بِهَذَا الْبَيْتِ فَضَرَبَهَا، وَقَالَ:
قُولِي:
أَنْتَ مِنَّا وَلَيْسَ خَالُكَ مِنَّا يَا مُضَيِّعَ الصَّلَاةِ لِلشَّهَوَاتِ
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا
يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا
يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ حَتَّى يَثْلَمَهُ رَجُلٌ مِنْ
بَنِي أُمَيَّةَ ".
وَحَدَّثَنَا الْحَكَمُ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ،
عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ
أَبِي
عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا
يَزَالُ أَمْرُ أُمَّتِي قَائِمًا بِالْقِسْطِ حَتَّى يَثْلَمَهُ رَجُلٌ مِنْ
بَنِي أُمَيَّةَ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ ". وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ
مَكْحُولٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، بَلْ مُعْضَلٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي
ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمًا
بِالْقِسْطِ حَتَّى يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَثْلَمُهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ ". ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا بَيْنَ
مَكْحُولٍ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا
مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي
الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي ذَرٍّ
بِالشَّامِ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ يُغَيِّرُ سُنَّتِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
".
وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ
الْمَجِيدِ، عَنْ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا مُهَاجِرُ بْنُ أَبِي مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي
أَبُو الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنِي أَبُو مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، فَذَكَرَ
نَحْوَهُ، وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ فِي غَزَاةٍ،
عَلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَاغْتَصَبَ يَزِيدُ مِنْ رِجْلٍ
جَارِيَةً، فَاسْتَعَانَ الرَّجُلُ بِأَبِي ذَرٍّ عَلَى يَزِيدَ
أَنْ
يَرُدَّهَا عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ أَبُو ذَرٍّ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ،
فَتَلَكَّأَ، فَذَكَرَ أَبُو ذَرٍّ لَهُ الْحَدِيثَ فَرَدَّهَا، وَقَالَ يَزِيدُ
لِأَبِي ذَرٍّ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ أَهُوَ أَنَا ؟ قَالَ: لَا. وَكَذَا رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ " وَأَبُو يَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَالْحَدِيثُ
مَعْلُولٌ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَدِمَ الشَّامَ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ. قَالَ: وَقَدْ مَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ زَمَنَ عُمَرَ،
فَوَلَّى مَكَانَهُ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ مَعِينٍ: أَسَمِعَ أَبُو
الْعَالِيَةِ مِنْ أَبِي ذَرٍّ ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي
مُسْلِمٍ عَنْهُ. قُلْتُ: فَمَنْ أَبُو مُسْلِمٍ هَذَا ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَحَادِيثَ فِي ذَمِّ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
كُلُّهَا مَوْضُوعَةٌ، لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا، وَأَجْوَدُ مَا وَرَدَ مَا
ذَكَرْنَاهُ ; عَلَى ضَعْفِ أَسَانِيدِهِ وَانْقِطَاعِ بَعْضِهِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: مَا أَفْسَدَ أَمْرَ النَّاسِ إِلَّا
اثَنَانِ ; عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَوْمَ أَشَارَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بِرَفْعِ
الْمَصَاحِفِ يَوْمَ صِفِّينَ، فَحُمِلَتْ عَلَى رُءُوسِ الْأَسِنَّةِ، فَحَكَمَ
الْخَوَارِجُ، وَقَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَلَا يَزَالُ هَذَا
التَّحْكِيمُ إِلَى
يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَالْآخَرُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ; فَإِنَّهُ كَانَ عَامِلَ
مُعَاوِيَةَ عَلَى الْكُوفَةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: إِذَا
قَرَأْتَ كِتَابِي فَأَقْبِلْ مَعْزُولًا. فَأَبْطَأَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي
الْقُدُومِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا أَبْطَأَكَ
عَنِّي ؟ قَالَ: أَمْرٌ كُنْتُ أُوَطِّئُهُ وَأُهَيِّئُهُ. قَالَ: وَمَا هُوَ ؟
قَالَ: الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ مِنْ بَعْدِكَ. قَالَ: وَقَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ ؟
قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ. فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ
مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ: وَضَعْتُ رِجْلَ
مُعَاوِيَةَ فِي غَرْزِ غَيٍّ لَا يَزَالُ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ
الْحَسَنُ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَايَعَ هَؤُلَاءِ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَوْلَا
ذَلِكَ لَكَانَتْ شُورَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قِيلَ لَهُ: نَنْشُدُكَ اللَّهَ فِيمَنْ نَسْتَخْلِفُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا ابْنِي وَأَبْنَاؤُهُمْ
وَابْنِي أَحَقُّ.
قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ مِسْكِينٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ شَبِيبٍ
عَنْ غَرْقَدَةَ، عَنِ الْمُسْتَظِلِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
يَقُولُ: قَدْ عَلِمْتُ وَرَبِّ الْكَعْبةِ مَتَى تَهْلِكُ الْعَرَبُ ; إِذَا
سَاسَهُمْ مَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْجَاهِلِيَّةَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَدَمٌ فِي
الْإِسْلَامِ.
قُلْتُ: يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَكْثَرُ مَا نُقِمَ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ
شُرْبُ الْخَمْرِ وَإِتْيَانُ بَعْضِ الْفَوَاحِشِ، فَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ
فَإِنَّهُ - كَمَا قَالَ جَدُّهُ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ - لَمْ يَأْمُرْ
بِذَلِكَ، وَلَمْ يَسُؤْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا
لَمْ أَفْعَلْ مَعَهُ مَا
فَعَلَهُ
ابْنُ مَرْجَانَةَ. يَعْنِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، وَقَالَ لِلرُّسُلِ
الَّذِينَ جَاءُوا بِرَأْسِهِ: قَدْ كَانَ يَكْفِيكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ دُونَ
هَذَا. وَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا، وَأَكْرَمَ آلَ بَيْتِ الْحُسَيْنِ، وَرَدَّ
عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا فُقِدَ لَهُمْ وَأَضْعَافَهُ، وَرَدَّهُمْ إِلَى
الْمَدِينَةِ فِي تَجَمُّلٍ وَأُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ نَاحَ أَهْلُهُ فِي
مَنْزِلِهِ عَلَى الْحُسَيْنِ مَعَ آلِهِ - حِينَ كَانُوا عِنْدَهُمْ - ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ فَرِحَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ أَوَّلَ مَا بَلَغَهُ، ثُمَّ
نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: إِنَّ يُونُسَ
بْنَ حَبِيبٍ الْجَرْمِيَّ حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ ابْنُ زِيَادٍ
الْحُسَيْنَ وَبَنِي أَبِيهِ، بَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى يَزِيدَ، فَسُرَّ
بِقَتْلِهِمْ أَوَّلًا، وَحَسُنَتْ بِذَلِكَ مَنْزِلَةُ ابْنِ زِيَادٍ عِنْدَهُ،
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى نَدِمَ، فَكَانَ يَقُولُ: وَمَا كَانَ
عَلَيَّ لَوِ احْتَمَلْتُ الْأَذَى وَأَنْزَلْتُهُ فِي دَارِي وَحَكَّمْتُهُ
فِيمَا يُرِيدُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ وَكَفٌ وَوَهْنٌ فِي
سُلْطَانِي ; حِفْظًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَرِعَايَةً لِحَقِّهِ وَقَرَابَتِهِ. ثُمَّ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ
مَرْجَانَةَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ وَاضْطَرَّهُ، وَقَدْ كَانَ سَأَلَهُ أَنْ
يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ أَوْ يَأْتِيَنِي أَوْ يَكُونَ بِثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ
الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَبَى
عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ، فَبَغَّضَنِي بِقَتْلِهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَزَرَعَ لِي
فِي قُلُوبِهِمُ الْعَدَاوَةَ، فَأَبْغَضَنِي الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ بِمَا
اسْتَعْظَمَ النَّاسُ مِنْ قَتْلِي حُسَيْنًا، مَا لِي وَلِابْنِ مَرْجَانَةَ،
لَعَنَهُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا
خَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْ طَاعَتِهِ وَخَلَعُوهُ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِمُ
ابْنَ مُطِيعٍ وَابْنَ حَنْظَلَةَ لَمْ يَذْكُرُوا عَنْهُ - وَهُمْ أَشَدُّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لَهُ - إِلَّا مَا ذَكَرُوهُ عَنْهُ مِنْ شُرْبِهِ الْخَمْرَ
وَإِتْيَانِهِ بَعْضَ الْقَاذُورَاتِ، لَمْ يَتَّهِمُوهُ بِزَنْدَقَةٍ كَمَا
يَقْذِفُهُ بِذَلِكَ بَعْضُ الرَّوَافِضِ، بَلْ قَدْ كَانَ فَاسِقًا، وَالْفَاسِقُ
لَا يَجُوزُ خَلْعُهُ ; لِمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ
وَوُقُوعِ الْهَرْجِ، كَمَا وَقَعَ زَمَنَ الْحَرَّةِ، فَإِنَّهُ بَعَثَ
إِلَيْهِمْ مَنْ يَرُدُّهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، وَأَنْظَرَهُمْ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، فَلَمَّا لَمْ يَرْجِعُوا قَاتَلَهُمْ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذَا
كِفَايَةٌ، وَلَكِنَّهُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي أَمْرِهِ أَمِيرَ الْحَرْبِ أَنْ
يُبِيحَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَطَأٌ
كَبِيرٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتُ أَهْلِ
بَيْتِ النُّبُوَّةِ مِمَّنْ لَمْ يَنْقُضِ الْعَهْدَ، وَلَا بَايَعَ أَحَدًا
بَعْدَ بَيْعَتِهِ لِيَزِيدَ ; كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنِي صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ
قَالَ: لَمَّا خَلَعَ النَّاسُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ
بَنِيهِ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا
بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ الْغَادِرَ
يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ
". وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ - إِلَّا أَنْ
يَكُونَ
الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ - أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ
وَرَسُولِهُ ثُمَّ يَنْكُثُ بَيْعَتَهُ، فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ
يَزِيدَ، وَلَا يُشْرِفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَيَكُونَ
الصَّيْلَمُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ صَخْرِ بْنِ
جُوَيْرِيَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَيْفٍ
الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، فَذَكَرَهُ مِثْلَهُ.
قَالَ: وَمَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ وَأَصْحَابُهُ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ فَأَرَادُوهُ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ، فَأَبَى، فَقَالَ ابْنُ
مُطِيعٍ: إِنَّ يَزِيدَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَيَتَعَدَّى
حُكْمَ الْكِتَابِ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ مَا تَذْكُرُونَ، وَقَدْ
حَضَرْتُهُ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَرَأَيْتُهُ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَاةِ،
مُتَحَرِّيًا لِلْخَيْرِ، يَسْأَلُ عَنِ الْفِقْهِ، مُلَازِمًا لِلسُّنَّةِ.
قَالُوا: فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ تَصَنُّعًا لَكَ. فَقَالَ: وَمَا الَّذِي
خَافَ مِنِّي أَوْ رَجَا حَتَّى يُظْهِرَ إِلَيَّ الْخُشُوعَ ؟ ! أَفَأَطْلَعَكُمْ
عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ؟ فَلَئِنْ كَانَ أَطْلَعَكُمْ عَلَى
ذَلِكَ إِنَّكُمْ لَشُرَكَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَطْلَعَكُمْ فَمَا يَحِلُّ
لَكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا بِمَا لَمْ تَعْلَمُوا. قَالُوا: إِنَّهُ عِنْدَنَا
لَحَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَأَيْنَاهُ. فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أَبَى اللَّهُ
ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ [ الزُّخْرُفِ: 86 ]. وَلَسْتُ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي شَيْءٍ. قَالُوا:
فَلَعَلَّكَ تَكْرَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْأَمْرَ غَيْرُكَ، فَنَحْنُ نُوَلِّيكَ
أَمْرَنَا. قَالَ: مَا أَسْتَحِلُّ الْقِتَالَ عَلَى مَا تُرِيدُونَنِي
عَلَيْهِ
تَابِعًا وَلَا مَتْبُوعًا. قَالُوا: فَقَدْ قَاتَلْتَ مَعَ أَبِيكَ. قَالَ
جِيئُونِي بِمِثْلِ أَبِي أُقَاتِلُ عَلَى مِثْلِ مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ.
فَقَالُوا: فَمُرِ ابْنَيْكَ أَبَا هَاشِمٍ وَالْقَاسِمَ بِالْقِتَالِ مَعَنَا.
قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُمَا قَاتَلْتُ. قَالُوا: فَقُمْ مَعَنَا مَقَامًا تَحُضُّ
النَّاسَ فِيهِ عَلَى الْقِتَالِ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! آمُرُ النَّاسَ
بِمَا لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَرْضَاهُ ؟ ! إِذَا مَا نَصَحْتُ لِلَّهِ فِي
عِبَادِهِ. قَالُوا: إِذًا نُكْرِهُكَ. قَالَ: إِذًا آمُرُ النَّاسَ بِتَقْوَى
اللَّهِ، وَأَلَّا يُرْضُوا الْمَخْلُوقَ بِسَخَطِ الْخَالِقِ. وَخَرَجَ إِلَى
مَكَّةَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، ثَنَا
ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ دَخَلَ وَهُوَ مَعَهُ عَلَى ابْنِ مُطِيعٍ، فَلَمَّا دَخَلَ
عَلَيْهِ قَالَ: مَرْحَبًا بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ضَعُوا لَهُ وِسَادَةً.
فَقَالَ: إِنَّمَا جِئْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ نَزَعَ يَدًا
مِنْ طَاعَةٍ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ
مَاتَ مُفَارِقَ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ، وَتَابَعَهُ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ. وَقَدْ رَوَاهُ
اللَّيْثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ
وَلَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيَّامَ الْحَرَّةِ، وَلَمَّا قَدِمَ
مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ أَكْرَمَ أَبِي وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ،
وَأَعْطَاهُ كِتَابَ أَمَانٍ.
وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ، أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بَعَثَ رَوْحَ بْنَ
زِنْبَاعٍ إِلَى يَزِيدَ بِبِشَارَةِ
الْحَرَّةِ،
فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا وَقَعَ قَالَ: وَاقَوْمَاهُ. ثُمَّ دَعَا الضَّحَّاكَ
بْنَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ فَقَالَ لَهُ: تَرَى مَا لَقِيَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ،
فَمَا الرَّأْيُ الَّذِي يُجْبِرُهُمْ ؟ قَالَ: الطَّعَامُ وَالْأَعْطِيَةُ.
فَأَمَرَ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ أَعْطِيَتَهُ.
وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ كَذَبَةُ الرَّوَافِضِ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ شَمِتَ
بِهِمْ وَشَفَى بِقَتْلِهِمْ، وَأَنَّهُ أَنْشَدَ - إِمَّا ذِكْرًا وَإِمَّا
أَثَرًا - شِعْرَ ابْنِ الزِّبَعْرَى الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ بْنِ بَسَّامٍ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ، سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ
هَارُونَ الرَّشِيدَ يُنْشِدُ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ:
إِنَّهَا بَيْنَ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ حِينَ تَنْمِي وَبَيْنَ عَبْدِ مَنَافِ
وَلَهَا فِي الْمُطَيَّبِينَ جُدُودٌ ثُمَّ نَالَتْ مَكَارِمَ الْأَخْلَافِ
بِنْتُ عَمِّ النَّبِيِّ أَكْرَمُ مَنْ يَمْ شِي بِنَعْلٍ عَلَى التُّرَابِ
وَحَافِي
لَنْ تَرَاهَا عَلَى التَّبَذُّلِ وَالْغِلْ ظَةِ إِلَّا كَدُرَّةِ الْأَصْدَافِ
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: أَنْشَدَنِي عَمِّي مُصَعَبٌ لِيَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ:
آبَ هَذَا الْهَمُّ فَاكْتَنَعَا وَأَمَرَّ النَّوْمُ فَامْتَنَعَا
رَاعِيًا لِلنَّجْمِ أَرْقُبُهُ فَإِذَا مَا كَوْكَبٌ طَلَعَا
حَامَ
حَتَّى إِنَّنِي لَأَرَى أَنَّهُ بِالْغَوْرِ قَدْ وَقَعَا
وَلَهَا بِالْمَاطِرُونِ إِذَا أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا
نُزْهَةٌ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ نَزَلَتْ مِنْ جِلَّقَ بِيَعَا
فِي قِبَابٍ وَسْطَ دَسْكَرَةٍ حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
وَقَائِلَةٍ لِي حِينَ شَبَّهْتُ وَجْهَهَا بِبَدْرِ الدُّجَى يَوْمًا وَقَدْ
ضَاقَ مَنْهَجِي
تُشَبِّهُنِي بِالْبَدْرِ هَذَا تَنَاقُصٌ بِقَدْرِي وَلَكِنْ لَسْتُ أَوَّلَ مَنْ
هُجِي
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْبَدْرَ عِنْدَ كَمَالِهِ إِذَا بَلَغَ التَّشْبِيهَ عَادَ
كَدُمْلُجِ
فَلَا فَخْرَ إِنْ شَبَّهْتَ بِالْبَدْرِ مَبْسَمِي وَبِالسِّحْرِ أَجْفَانِي
وَبِاللَّيْلِ مَدْعَجِي
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجَزَرِيِّ قَالَ:
كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ جَارِيَةٌ
مُغَنِّيَةٌ
يُقَالُ لَهَا: سَلَّامَةُ. مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَجْهًا، وَأَتَمِّهِنَّ
عَقْلًا وَأَحْسَنِهِنَّ حَدِيثًا، قَدْ قَرَأَتِ الْقُرْآنَ، وَرَوَتِ الشِّعْرَ
وَقَالَتْهُ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ وَالْأَحْوَصُ بْنُ
مُحَمَّدٍ يَجْلِسَانِ إِلَيْهَا، فَعَلِقَتِ الْأَحْوَصَ، وَصَدَّتْ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، فَتَرَحَّلَ ابْنُ حَسَّانَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
فَامْتَدَحَهُ، وَدَلَّهُ عَلَى سَلَّامَةَ وَجَمَالِهَا وَحُسْنِهَا
وَفَصَاحَتِهَا، وَقَالَ: لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَأَنْ تَكُونَ مِنْ سُمَّارِكَ. فَأَرْسَلَ يَزِيدُ، فَاشْتُرِيَتْ لَهُ،
وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ، فَوَقَعَتْ مِنْهُ مَوْقِعًا عَظِيمًا، وَفَضَّلَهَا عَلَى
جَمِيعِ مَنْ عِنْدَهُ، وَرَجَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَرَّ
بِالْأَحْوَصِ، فَوَجَدَهُ مَهْمُومًا، فَأَرَادَ أَنْ يَزِيدَهُ إِلَى مَا بِهِ
فَقَالَ:
يَا مُبْتَلًى بِالْحُبِّ مَفْدُوحَا لَاقَى مِنَ الْحُبِّ تَبَارِيحَا
أَفْحَمَهُ الْحُبُّ فَمَا يَنْثَنِي إِلَّا بِكَأْسِ الْحُبِّ مَصْبُوحَا
وَصَارَ مَا يُعْجِبُهُ مُغْلَقًا عَنْهُ وَمَا يَكْرَهُ مَفْتُوحَا
قَدْ حَازَهَا مَنْ أَصْبَحَتْ عِنْدَهُ يَنَالُ مِنْهَا الشَّمَّ وَالرِّيحَا
خَلِيفَةُ اللَّهِ فَسَلِّ الْهَوَى وَعَزِّ قَلْبًا مِنْكَ مَجْرُوحَا
قَالَ: فَأَمْسَكَ الْأَحْوَصُ عَنْ جَوَابِهِ، ثُمَّ غَلَبَهُ وَجْدُهُ
عَلَيْهَا، فَرَحَلَ إِلَى يَزِيدَ، فَامْتَدَحَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ
أَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، فَدَسَّتْ إِلَيْهِ سَلَّامَةُ
خَادِمًا، وَأَعْطَتْهُ مَالًا عَلَى أَنْ يُدْخِلَهُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَ
الْخَادِمُ يَزِيدَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: امْضِ لِرِسَالَتِهَا. فَفَعَلَ وَأَدْخَلَ
الْأَحْوَصَ عَلَيْهَا، وَجَلَسَ يَزِيدُ فِي مَكَانٍ يَرَاهُمَا وَلَا
يَرَيَانِهِ،
فَلَمَّا بَصُرَتِ الْجَارِيَةُ بِالْأَحْوَصِ بَكَتْ إِلَيْهِ وَبَكَى إِلَيْهَا،
وَأَمَرَتْ فَأُلْقِيَ لَهُ كُرْسِيٌّ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا يَشْكُو إِلَى صَاحِبِهِ شِدَّةَ الشَّوْقِ، فَلَمْ يَزَالَا
يَتَحَدَّثَانِ إِلَى السَّحَرِ، وَيَزِيدُ يَسْمَعُ كَلَامَهُمَا مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا رِيبَةٌ، حَتَّى إِذَا هَمَّ الْأَحْوَصُ بِالْخُرُوجِ
قَالَ:
أَمْسَى فُؤَادِيَ فِي هَمٍّ وَبَلْبَالِ مِنْ حُبِّ مَنْ لَمْ أَزَلْ مِنْهُ
عَلَى بَالِ
فَقَالَتْ:
صَحَا الْمُحِبُّونَ بَعْدَ النَّأْيِ إِذْ يَئِسُوا وَقَدْ يَئِسْتُ وَمَا
أَصْحُو عَلَى حَالِ
فَقَالَ:
مَنْ كَانَ يَسْلُو بِيَأْسٍ عَنْ أَخِي ثِقَةٍ فَعَنْكِ سَلَّامَ مَا أَمْسَيْتُ
بِالسَّالِي
فَقَالَتْ:
وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَا أَنْسَاكَ يَا شَجَنِي حَتَّى تُفَارِقَ مِنِّي الرُّوحُ
أَوْصَالِي
فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا خَابَ مَنْ أَمْسَى وَأَنْتِ لَهُ يَا قُرَّةَ الْعَيْنِ فِي أَهْلٍ
وَفِي مَالِ
قَالَ: ثُمَّ وَدَّعَهَا وَخَرَجَ، فَأَخَذَهُ يَزِيدُ، وَدَعَا بِهَا فَقَالَ:
أَخْبِرَانِي عَمَّا كَانَ فِي لَيْلَتِكُمَا وَاصْدُقَانِي. فَأَخْبَرَاهُ
وَأَنْشَدَاهُ مَا قَالَا، فَلَمْ يَخْرِمَا حَرْفًا، وَلَا غَيَّرَا شَيْئًا
مِمَّا سَمِعَهُ. فَقَالَ لَهَا يَزِيدُ: أَتُحِبِّينَهُ ؟ قَالَتْ: إِي وَاللَّهِ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ:
حُبًّا شَدِيدًا جَرَى كَالرُّوحِ فِي جَسَدِي فَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الرُّوحِ
وَالْجَسَدِ
فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّهَا ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ:
حُبًّا شَدِيدًا تَلِيدًا غَيْرَ مُطَّرِفٍ بَيْنَ الْجَوَانِحِ مِثْلَ النَّارِ
يَضْطَرِمُ
فَقَالَ
يَزِيدُ: إِنَّكُمَا لَتَصِفَانِ حُبًّا شَدِيدًا، خُذْهَا يَا أَحْوَصُ فَهِيَ
لَكَ. وَوَصَلَهُ صِلَةً سَنِيَّةً. فَرَجَعَ بِهَا الْأَحْوَصُ إِلَى الْحِجَازِ
وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يَزِيدَ كَانَ قَدِ اشْتَهَرَ بِالْمَعَازِفِ وَشُرْبِ
الْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ وَالصَّيْدِ وَاتِّخَاذِ الْغِلْمَانِ وَالْقِيَانِ
وَالْكِلَابِ وَالنِّطَاحِ بَيْنَ الْكِبَاشِ وَالدِّبَابِ وَالْقُرُودِ، وَمَا
مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يُصْبِحُ فِيهِ مَخْمُورًا، وَكَانَ يَشُدُّ الْقِرْدَ عَلَى
فَرَسٍ مُسَرَّجَةٍ بِحِبَالٍ وَيَسُوقُ بِهِ، وَيُلْبِسُ الْقِرْدَ قَلَانِسَ
الذَّهَبِ، وَكَذَلِكَ الْغِلْمَانُ، وَكَانَ يُسَابِقُ بَيْنَ الْخَيْلِ، وَكَانَ
إِذَا مَاتَ الْقِرْدُ حَزِنَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ حَمَلَ
قِرْدَةً وَجَعَلَ يُنَقِّزُهَا فَعَضَّتْهُ. وَذَكَرُوا عَنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي مَذْعُورٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ قَالَ: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: اللَّهُمَّ
لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا لَمْ أُحِبُّهُ، وَلَمْ أُرِدْهُ، وَاحْكُمْ بَيْنِي
وَبَيْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: آمَنْتُ
بِاللَّهِ الْعَظِيمِ.
مَاتَ يَزِيدُ بِحُوَّارِينَ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْخَمِيسِ لِلنِّصْفِ مِنْهُ. سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فِي مُنْتَصَفِ رَجَبٍ
سَنَةَ سِتِّينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ - وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ.
وَقِيلَ: سَبْعٍ - وَعِشْرِينَ. وَمَعَ هَذَا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سِنِّهِ
وَمَبْلَغِ أَيَّامِهِ فِي الْإِمَارَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَإِذَا
تَأَمَّلْتَ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ مِنْ هَذِهِ التَّحْدِيدَاتِ انْزَاحَ عَنْكَ
الْإِشْكَالُ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَاوَزَ
الْأَرْبَعِينَ حِينَ مَاتَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حُمِلَ إِلَى دِمَشْقَ
وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ،
وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الْبَابِ الصَّغِيرِ، وَفِي أَيَّامِهِ وُسِّعَ النَّهْرُ
الْمُسَمَّى بِيَزِيدَ، فِي ذَيْلِ جَبَلِ قَاسِيُونَ، وَكَانَ جَدْوَلًا
صَغِيرًا، فَوَسَّعَهُ أَضْعَافَ مَا كَانَ يَجْرِي فِيهِ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْمُظَفَّرِ الْعَبْدِيُّ قَاضِي
الْبَحْرَيْنِ مِنْ لَفْظِهِ وَكَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ قَالَ: رَأَيْتُ يَزِيدَ
بْنَ مُعَاوِيَةَ فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ قَتَلْتَ الْحُسَيْنَ ؟
فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ: لَهُ: هَلْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ،
وَأَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ. قُلْتُ: فَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مُعَاوِيَةَ يَحْمِلُ يَزِيدَ
فَقَالَ: " رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَحْمِلُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ
النَّارِ " ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهُوَ
كَمَا قَالَ، فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمْ يُولَدْ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا وُلِدَ بَعْدَ
الْعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ:
ذِكْرُ أَوْلَادِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَعَدَدِهِمْ
فَمِنْهُمْ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُكَنَّى أَبَا لَيْلَى،
وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ:
إِنِّي
أَرَى فِتْنَةً قَدْ حَانَ أَوَّلُهَا وَالْمُلْكُ بَعْدَ أَبِي لَيْلَى لِمَنْ
غَلَبَا
وَخَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، يُكَنَّى أَبَا هَاشِمٍ، كَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَصَابَ
عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ. وَأَبُو سُفْيَانَ، وَأُمُّهُمْ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ أَبِي
هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا
بَعْدَ يَزِيدَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا
الشَّاعِرُ:
انْعَمِي أُمَّ خَالِدٍ رُبَّ سَاعٍ لِقَاعِدٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، وَيُقَالُ لَهُ: الْأُسْوَارُ. وَكَانَ مِنْ
أَرَمَى الْعَرَبِ، وَأُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ
وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ:
زَعَمَ النَّاسُ أَنَّ خَيْرَ قُرَيْشٍ كُلِّهِمْ حِينَ يُذْكَرُ الْأُسْوَارُ
وَعَبْدُ اللَّهِ الْأَصْغَرُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُتْبَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ،
وَالرَّبِيعُ، وَمُحَمَّدٌ، لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ شَتَّى.
إِمَارَةُ
مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيُقَالُ: أَبُو يَزِيدَ. وَيُقَالُ: أَبُو لَيْلَى
الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ. وَأُمُّهُ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ
عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، بُويِعَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَكَانَ وَلِيَّ
عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا نَاسِكًا، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ. قِيلَ:
إِنَّهُ مَكَثَ فِي الْمُلْكِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: عِشْرِينَ يَوْمًا.
وَقِيلَ: شَهْرَيْنِ. وَقِيلَ: شَهْرًا وَنِصْفَ شَهْرٍ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ وَقِيلَ: وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَكَانَ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ مَرِيضًا، لَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، وَكَانَ
الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَيَسُدُّ الْأُمُورَ.
وَمَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ هَذَا عَنْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيلَ:
ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: تِسْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: عِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ
سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّمَا عَاشَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ خَالِدٌ،
وَقِيلَ: عُثْمَانُ بْنُ عَنْبَسَةَ. وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. وَهَذَا
هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّهُ أَوْصَى إِلَيْهِ
بِذَلِكَ،
وَشَهِدَ دَفْنَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَكَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ بَعْدَهُ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ
لِمَرْوَانَ بِالشَّامِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ.
وَلِمَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قِيلَ لَهُ: أَلَا تُوصِي ؟ فَقَالَ: لَا
أَتَزَوَّدُ مَرَارَتَهَا وَأَتْرُكُ حَلَاوَتَهَا لِبَنِي أُمَيَّةَ. وَكَانَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ، أَبْيَضَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ، كَثِيرَ الشَّعْرِ، كَبِيرَ
الْعَيْنَيْنِ، جَعْدَ الشَّعْرِ، أَقْنَى الْأَنْفِ، مُدَوَّرَ الرَّأْسِ،
جَمِيلَ الْوَجْهِ دَقِيقَهُ، حَسَنَ الْجِسْمِ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَخَالِدٌ
إِخْوَةٌ، وَكَانُوا مِنْ صَالِحِي الْقَوْمِ. وَقَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ،
وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ:
تَلَقَّاهَا يَزِيدٌ عَنْ أَبِيهِ فَدُونَكَهَا مُعَاوِي عَنْ يَزِيدَا
أَدِيرُوهَا بَنِي حَرْبٍ عَلَيْكُمْ
وَلَا تَرْمُوا بِهَا الْغَرَضَ الْبَعِيدَا
وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ هَذَا نَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةُ
جَامِعَةٌ. ذَاتَ يَوْمٍ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: يَا
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ وَأَنَا ضَعِيفٌ عَنْهُ،
فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُهَا لِرَجُلٍ قَوِيٍّ، كَمَا تَرَكَهَا الصِّدِّيقُ
لِعُمَرَ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ مِنْكُمْ كَمَا
تَرَكَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ،
وَقَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ أَمْرَكُمْ، فَوَلُّوا عَلَيْكُمْ مَنْ يَصْلُحُ لَكُمْ.
ثُمَّ نَزَلَ
وَدَخَلَ
مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ سُقِيَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ طُعِنَ.
وَقَدْ حَضَرَ مَرْوَانُ دَفْنَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَالَ مَرْوَانُ:
أَتَدْرُونَ مَنْ دَفَنْتُمْ ؟ قَالُوا: نَعَمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ. فَقَالَ
مَرْوَانُ: هُوَ أَبُو لَيْلَى الَّذِي قَالَ فِيهِ أَزْنَمُ الْفَزَارِيُّ:
إِنِّي أَرَى فِتْنَةً تَغْلِي مَرَاجِلُهَا وَالْمُلْكُ بَعْدَ أَبِي لَيْلَى
لِمَنْ غَلَبَا
قَالُوا: كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ. وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا لَيْلَى تُوُفِّيَ
عَنْ غَيْرِ عَهْدٍ مِنْهُ إِلَى أَحَدٍ فَتَغَلَّبَ عَلَى الْحِجَازِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا مَرْوَانُ بْنُ
الْحَكَمِ، وَبَايَعَ أَهْلُ خُرَاسَانَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ حَتَّى يَتَوَلَّى
عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةٌ، فَسَارَ فِيهِمْ سَلْمٌ سِيرَةً حَسَنَةً أَحَبُّوهُ
عَلَيْهَا، ثُمَّ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَخَرَجَ الْقُرَّاءُ
وَالْخَوَارِجُ بِالْبَصْرَةِ، وَعَلَيْهِمْ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَطَرَدُوا
عَنْهُمْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ - بَعْدَ مَا كَانُوا بَايَعُوهُ
عَلَيْهِمْ - حَتَّى يَصِيرَ لِلنَّاسِ إِمَامٌ، فَذَهَبَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ
فُصُولٍ يَطُولُ ذَكَرُهَا، وَقَدْ بَايَعُوا بَعْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الْمَعْرُوفَ بِبَبَّةَ، وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي
سُفْيَانَ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى شُرْطَةِ الْبَصْرَةِ هِمْيَانَ بْنَ عَدِيٍّ
السَّدُوسِيَّ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَقَدْ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَبَايَعْتُ أَقْوَامًا وَفَيْتُ بِعَهْدِهِمْ وَبَبَّةُ قَدْ بَايَعْتُهُ غَيْرَ
نَادِمِ
فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ لَزِمَ بَيْتَهُ، فَكَتَبَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِهِمْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ كَانَ مَا سَنَذْكُرُهُ. وَخَرَجَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ بِالْيَمَامَةِ، وَخَرَجَ بَنُو مَاحُوزَ فِي الْأَهْوَازِ وَفَارِسَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ قَرِيبًا. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
إِمَارَةُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَعِنْدَ ابْنِ حَزْمٍ وَطَائِفَةٍ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ آنَذَاكَ
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ أَقْلَعَ الْجَيْشُ عَنْ مَكَّةَ،
وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاصِرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ عَائِذٌ
بِالْبَيْتِ، مَعَ أَمِيرِهِمْ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ السَّكُونِيِّ وَرَجَعُوا
عَنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ بِالْحِجَازِ وَمَا وَالَاهَا، وَبَايَعَهُ النَّاسُ بَعْدَ يَزِيدَ
بَيْعَةً عَامَّةً هُنَاكَ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَخَاهُ عُبَيْدَةَ
بْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَمَرَهُ بِإِجْلَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ عَنِ الْمَدِينَةِ،
فَأَجْلَاهُمْ فَرَحَلُوا إِلَى الشَّامِ، وَفِيهِمْ مَرْوَانُ وَابْنُهُ عَبْدُ
الْمَلِكِ، ثُمَّ بَعَثَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ
حُرُوبٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَفِتَنٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا، غَيْرَ
أَنَّهُمْ فِي أَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَقَامُوا عَلَيْهِمْ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعَةِ أُمَرَاءَ مِنْ بَيْنِهِمْ، ثُمَّ اضْطَرَبَتْ أُمُورُهُمْ، ثُمَّ
بَعَثُوا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ يَجْلِبُونَهُ إِلَى
أَنْفُسِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ.
وَبَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى الْخَرَاجِ، وَاسْتَوْثَقَ لَهُ الْمِصْرَانِ جَمِيعًا، وَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مِصْرَ فَبَايَعُوهُ. وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَحْدَمٍ، وَأَطَاعَتْ لَهُ الْجَزِيرَةُ. وَبَعَثَ عَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَبَعَثَ إِلَى الْيَمَنِ فَبَايَعُوهُ، وَإِلَى خُرَاسَانَ فَبَايَعُوهُ، وَإِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ بِالشَّامِ فَبَايَعَ، وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ دِمَشْقَ وَأَعْمَالَهَا مِنْ بِلَادِ الْأُرْدُنِّ لَمْ يُبَايِعُوهُ ; لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ لَمَّا رَجَعَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ قَدِ الْتَفَّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يُدَافِعُونَ عَنْهُ ; مِنْهُمْ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبَاضٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ فِي الْخِلَافَةِ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: إِنَّكُمْ قَدْ أَخْطَأْتُمْ ; لِأَنَّكُمْ قَاتَلْتُمْ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَمْ تَعْلَمُوا رَأْيَهُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَكَانُوا يَنْتَقِصُونَ عُثْمَانَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَسَأَلُوهُ عَنْ عُثْمَانَ، فَأَجَابَهُمْ فِيهِ بِمَا يَسُوءُهُمْ، وَذَكَرَ لَهُمْ مَا كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالسِّيرَةِ الْحَسَنَةِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَفَرُوا عَنْهُ، وَفَارَقُوهُ، وَقَصَدُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، فَتَفَرَّقُوا فِيهَا بِأَبْدَانِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ
وَمَسَالِكِهِمُ
الْمُخْتَلِفَةِ الْمُنْتَشِرَةِ، الَّتِي لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ ;
لِأَنَّهَا مُفَرَّعَةٌ عَلَى الْجَهْلِ وَقُوَّةِ النُّفُوسِ، وَالِاعْتِقَادِ
الْفَاسِدِ، وَمَعَ هَذَا اسْتَحْوَذُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ
وَالْكُوَرِ، حَتَّى انْتُزِعَتْ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ
فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ لَمَّا رَجَعَ مِنْ أَرْضِ
الْحِجَازِ، وَارْتَحَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى
الشَّامِ، وَانْتَقَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ،
اجْتَمَعُوا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ كَانَ عَزَمَ عَلَى أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ
الزُّبَيْرِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ بَايَعَ أَهْلُهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَلَى
أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ وَيُقِيمَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى تَجْتَمِعَ أُمَّةُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّحَّاكُ يُرِيدُ أَنْ
يُبَايِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ بَايَعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ النُّعْمَانُ
بْنُ بَشِيرٍ بِحِمْصَ، وَبَايَعَ لَهُ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ
بِقِنَّسْرِينَ، وَبَايَعَ لَهُ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ بِفِلَسْطِينَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا
رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ، فَلَمْ يَزَلْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
زِيَادٍ وَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، حَتَّى
ثَنَوْهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَحَذَّرُوهُ مِنْ دُخُولِ سُلْطَانِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
وَمُلْكِهِ إِلَى
الشَّامِ
وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ شَيْخُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا
الْأَمْرِ. وَالْتَفَّ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي
أُمَيَّةَ وَمَعَ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَوَافَقَهُمْ، وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا فَاتَ
شَيْءٌ. وَكَتَبَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ إِلَى
الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ يَثْنِيهِ عَنِ الْمُبَايَعَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ،
وَيُعَرِّفُهُ أَيَادِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عِنْدَهُ وَإِحْسَانَهُمْ إِلَيْهِ،
وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ، وَقَدْ بَايَعَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ أَهْلَ
الْأُرْدُنِّ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ خَالِدِ
بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَبَعَثَ إِلَى الضَّحَّاكِ بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُ
أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَهُ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى
الْمِنْبَرِ، وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: نَاغِضَةُ بْنُ
كُرَيْبٍ الطَّابِخِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَنِي كَلْبٍ. وَقَالَ لَهُ: إِنْ
لَمْ يَقْرَأْهُ هُوَ عَلَى النَّاسِ فَاقْرَأْهُ أَنْتَ. وَأَعْطَاهُ نُسْخَةً
بِهِ، فَسَارَ إِلَى الضَّحَّاكِ، فَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ، فَلَمْ
يَقْبَلْ، فَقَامَ نَاغِضَةُ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، فَصَدَّقَهُ جَمَاعَةٌ
مِنْ أُمَرَاءِ النَّاسِ، وَكَذَّبَهُ آخَرُونَ، وَثَارَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ
بَيْنَ النَّاسِ، فَقَامَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ - وَهُوَ شَابٌّ
حَدَثٌ - عَلَى دَرَجَتَيْنِ مِنَ الْمِنْبَرِ، فَسَكَّنَ النَّاسَ، وَنَزَلَ
الضَّحَّاكُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، وَأَمَرَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ
بِأُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَّقُوا نَاغِضَةَ أَنْ يُسْجَنُوا، فَثَارَتْ
قَبَائِلُهُمْ، فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ السِّجْنِ، وَاضْطَرَبَ أَهْلُ دِمَشْقَ فِي
ابْنِ الزُّبَيْرِ وَبَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَوُقُوفُهُمْ
بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِبَابِ الْجَيْرُونِ، فَسُمِّيَ هَذَا الْيَوْمُ
يَوْمَ جَيْرُونَ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَقَدْ أَرَادَ النَّاسُ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ
أَبِي سُفْيَانَ عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى
عَلَيْهِمْ
فَأَبَى، وَهَلَكَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي، ثُمَّ إِنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ
صَعِدَ مِنْبَرَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَخَطَبَهُمْ بِهِ، وَنَالَ مِنْ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَامَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ بَنِي كَلْبٍ، فَضَرَبَهُ بِعَصًا
كَانَتْ مَعَهُ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ مُتَقَلِّدِي سُيُوفَهُمْ، فَقَامَ بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ، فَاقْتَتَلُوا فِي الْمَسْجِدِ قِتَالًا شَدِيدًا ; فَقَيْسٌ وَمَنْ
لَفَّ لَفِيفَهَا يَدْعُونَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَيَنْصُرُونَ الضَّحَّاكَ
بْنَ قَيْسٍ، وَبَنُو كَلْبٍ يَدْعُونَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَإِلَى الْبَيْعَةِ
لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَيَتَعَصَّبُونَ لِيَزِيدَ وَأَهْلِ
بَيْتِهِ، فَنَهَضَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، فَدَخَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ
وَأَغْلَقَ الْبَابَ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ
لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ، فَجَمَعَهُمْ
إِلَيْهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَفِيهِمْ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَعَمْرُو بْنُ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَخَالِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ مِمَّا كَانَ مِنْهُ، وَاتَّفَقَ
مَعَهُمْ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُمْ إِلَى حَسَّانَ بْنِ مَالِكٍ الْكَلْبِيَّ،
فَيَتَّفِقُوا عَلَى رَجُلٍ يَرْتَضُونَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لِلْإِمَارَةِ،
فَرَكِبُوا جَمِيعًا إِلَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِلَى الْجَابِيَةِ
لِقَصْدِ حَسَّانَ، إِذْ جَاءَ ثَوْرُ بْنُ مَعْنِ بْنِ الْأَخْنَسِ فِي قَوْمِهِ
قَيْسٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ دَعَوْتَنَا إِلَى بَيْعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
فَأَجَبْنَاكَ، وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى هَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَخْلِفَ
ابْنَ أُخْتِهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ:
فَمَا الرَّأْيُ ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ نُظْهِرَ مَا كُنَّا نُسِرُّ، وَأَنْ
نَدْعُوَ إِلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَنُقَاتِلُ عَلَيْهَا. فَمَالَ
الضَّحَّاكُ بِمَنْ مَعَهُ، فَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ فَأَقَامَ بِهَا بِمَنْ
مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ قَيْسٍ وَمَنْ لَفَّ لَفِيفَهَا، وَبَعَثَ إِلَى
أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، وَبَايَعَ النَّاسَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَتَبَ
بِذَلِكَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ،
فَذَكَرَهُ
ابْنُ الزُّبَيْرِ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَشَكَرَهُ عَلَى صَنِيعِهِ، وَكَتَبَ
إِلَيْهِ بِنِيَابَةِ الشَّامِ، وَقِيلَ: بَلْ بَايَعَ النَّاسَ لِنَفْسِهِ
بِالْخِلَافَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّهُ إِنَّمَا دَعَا إِلَى بَيْعَةِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ حَسَّنَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ أَنْ
يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَكْرٌ مِنْهُ بِهِ، فَدَعَا الضَّحَّاكُ إِلَى
نَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَنَقَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالُوا:
دَعَوْتَنَا إِلَى الْبَيْعَةِ لِرَجُلٍ فَبَايَعْنَاهُ، ثُمَّ خَلَعْتَهُ مِنْ
غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا عُذْرٍ، وَدَعَوْتَ إِلَى نَفْسِكَ ! فَرَجَعَ إِلَى
الْبَيْعَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَسَقَطَ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ
الَّذِي أَرَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ.
وَكَانَ اجْتِمَاعُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِهِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ
بِمَرْوَانَ وَتَحْسِينِهِ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ فَارَقَهُ
لِيَخْدَعَ لَهُ الضَّحَّاكَ، فَنَزَلَ عِنْدَهُ بِدِمَشْقَ، وَجَعَلَ يَرْكَبُ
إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، ثُمَّ أَشَارَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَى الضَّحَّاكِ أَنْ
يَخْرُجَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَيَدْعُوَ بِالْجُيُوشِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ
أَمْكَنَ لَهُ، فَرَكِبَ الضَّحَّاكُ إِلَى مَرْجِ رَاهِطٍ، فَنَزَلَ بِمَنْ
مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اجْتَمَعَتْ بَنُو أُمَيَّةَ وَمَنْ
تَبِعَهَا بِالْأُرْدُنِّ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ هُنَالِكَ مِنْ قَوْمِ
حَسَّانَ بْنِ مَالِكٍ مِنْ بَنِي كَلْبٍ.
وَلَمَّا رَأَى مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ مَا انْتَظَمَ مِنَ الْبَيْعَةِ لِابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَمَا اسْتَوْسَقَ لَهُ مِنَ الْمُلْكِ، عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ
إِلَيْهِ لِيُبَايِعَهُ وَلِيَأْخُذَ مِنْهُ أَمَانًا لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَسَارَ
حَتَّى بَلَغَ أَذْرِعَاتٍ فَلَقِيَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مُقْبِلًا
مِنَ الْعِرَاقِ، فَصَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهَجَّنَ رَأْيَهُ، وَاجْتَمَعَ
إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَابْنُ
زِيَادٍ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ وَخَلْقٌ، فَقَالُوا لِمَرْوَانَ: أَنْتَ كَبِيرُ
قُرَيْشٍ وَرَئِيسُهَا، وَخَالِدُ بْنُ يَزِيدَ غُلَامٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ كَهْلٌ، وَإِنَّمَا يُقْرَعُ الْحَدِيدُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَلَا
تُبَارِهِ بِهَذَا الْغُلَامِ، وَارْمِ بْنحْرِكَ فِي نَحْرِهِ، وَنَحْنُ
نُبَايِعُكَ، ابْسُطْ يَدَكَ. فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعُوهُ
بِالْجَابِيَةِ
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ.
فَلَمَّا تَمَهَّدَ لَهُ الْأَمْرُ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ نَحْوَ الضَّحَّاكِ بْنِ
قَيْسٍ، فَالْتَقَيَا بِمَرْجِ رَاهِطٍ، فَغَلَبَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ،
وَقَتَلَهُ وَقَتَلَ مِنْ قَيْسٍ مَقْتَلَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، عَلَى مَا
سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. فَإِنَّ الْوَاقِدِيَّ
وَغَيْرَهُ قَالُوا: إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ
أَوَّلِ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ.
وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ وَغَيْرِهِ قَالُوا:
إِنَّمَا كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْوَاقِدِيُّ، وَالْمَدَائِنِيُّ، وَأَبُو
سُلَيْمَانَ بْنُ زَبْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَتْ وَقْعَةُ
مَرْجِ رَاهِطٍ لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقْعَةُ
مَرْجِ رَاهِطٍ وَمَقْتَلُ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْفِهْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّحَّاكَ كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ
أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ يُصَلَّى عَنْهُ إِذَا اشْتَغَلَ أَوْ غَابَ، وَيُقِيمُ
الْحُدُودَ، وَيَسُدُّ الْأُمُورَ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ قَامَ بِأَعْبَاءِ
بَيْعَةِ يَزِيدَ ابْنِهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بَايَعَ النَّاسَ
لِمُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بَايَعَهُ
أَهْلُ دِمَشْقَ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ، فَلَمَّا اتَّسَعَتِ
الْبَيْعَةُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ عَزَمَ عَلَى الْمُبَايَعَةِ لَهُ، فَخَطَبَ
النَّاسَ يَوْمًا وَتَكَلَّمَ فِي يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَذَمَّهُ، فَقَامَتْ
فِتْنَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، حَتَّى اقْتَتَلَ النَّاسُ فِيهِ
بِالسُّيُوفِ، فَسَكَنَ النَّاسُ، ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ مِنَ
الْخَضْرَاءِ، وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ
عَلَى أَنْ يَرْكَبُوا إِلَى حَسَّانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ وَهُوَ
بِالْأُرْدُنِّ، فَيَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ عَلَى مَنْ يَرَاهُ أَهْلًا
لِلْإِمَارَةِ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ حِسَانُ يُرِيدُ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ
أُخْتِهِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَيَزِيدُ ابْنُ مَيْسُونَ، وَمَيْسُونُ بِنْتُ
بَحْدَلٍ، فَلَمَّا رَكِبَ الضَّحَّاكُ مَعَهُمُ انْخَذَلَ بِأَكْثَرِ الْجَيْشِ،
فَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ، فَامْتَنَعَ بِهَا، وَبَعَثَ إِلَى أُمَرَاءِ
الْأَجْنَادِ، فَبَايَعَهُمْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَارَ بَنُو أُمَيَّةَ
وَمَعَهُمْ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، وَخَالِدٌ وَعَبْدُ
اللَّهِ ابْنَا يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، حَتَّى اجْتَمَعُوا بِحَسَّانَ بْنِ
مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ بِالْجَابِيَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةً طَائِلَةً
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، فَعَزَمَ مَرْوَانُ عَلَى
الرَّحِيلِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ لِيُبَايِعَهُ، وَيَأْخُذَ أَمَانًا مِنْهُ
لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَمَرَ
بِإِجْلَائِهِمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَذَرِعَاتٍ، فَلَقِيَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مُقْبِلًا مِنَ الْعِرَاقِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ، وَمَعَهُ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَحَسَّنُوا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ ; فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ الَّذِي قَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَخَلَعَ ثَلَاثَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ، فَلَمْ يَزَالُوا بِمَرْوَانَ حَتَّى أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ: وَأَنَا أَذْهَبُ لَكَ إِلَى الضَّحَّاكِ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَخْدَعُهُ لَكَ وَأَخْذُلُ أَمْرَهُ. فَسَارَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ يَرْكَبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَيُظْهِرُ لَهُ الْوُدَّ وَالنَّصِيحَةَ وَالْمَحَبَّةَ، ثُمَّ حَسَّنَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ، وَيَخْلَعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّكَ أَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنْهُ ; لِأَنَّكَ لَمْ تَزَلْ فِي الطَّاعَةِ مَشْهُورًا بِالْأَمَانَةِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ خَارِجٌ عَنِ النَّاسِ. فَدَعَا الضَّحَّاكُ النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَصْعَدْ مَعَهُ، فَرَجَعَ إِلَى الدَّعْوَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَكِنِ انْحَطَّ بِهَا عِنْدَ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: إِنَّ مَنْ يَطْلُبُ مَا تَطْلُبُ لَا يَنْزِلُ الْمُدُنَ وَالْحُصُونَ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ الصَّحْرَاءَ، وَيَدْعُو بِالْجُنُودِ. فَبَرَزَ الضَّحَّاكُ إِلَى مَرْجِ رَاهِطٍ فَنَزَلَهُ، وَأَقَامَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِدِمَشْقَ وَمَرْوَانُ وَبَنُو أُمَيَّةَ بِتَدْمُرَ، وَخَالِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ عِنْدَ خَالِهِمْ حَسَّانَ بِالْجَابِيَةِ، فَكَتَبَ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى مَرْوَانَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُظْهِرَ دَعْوَتَهُ، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَتَزَوَّجَ بِأُمِّ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَعَظُمَ أَمْرُهُ
وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَسَارَ إِلَى مَرْجِ رَاهِطٍ نَحْوَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَرَكِبَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَأَخُوهُ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ مَعَ مَرْوَانَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَبِدِمَشْقَ مِنْ جِهَتِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي النِّمْسِ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَامِلَ الضَّحَّاكِ مِنْهَا، وَهُوَ يَمُدُّ مَرْوَانَ بِالسِّلَاحِ وَالرِّجَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَيُقَالُ: كَانَ نَائِبَهُ عَلَى دِمَشْقَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ - وَجَعَلَ مَرْوَانُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَبَعَثَ الضَّحَّاكُ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، فَأَمَدَّهُ النُّعْمَانُ بِأَهْلِ حِمْصَ عَلَيْهِمْ شُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَرَكِبَ إِلَيْهِ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ فِي أَهْلِ قِنَّسْرِينَ، فَكَانَ الضَّحَّاكُ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، عَلَى مَيْمَنَتِهِ زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو الْعُقَيْلِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ زَكَرِيَّا بْنُ شَمِرٍ الْهِلَالِيُّ، فَتَصَافُّوا، وَتَقَاتَلُوا بِالْمَرْجِ عِشْرِينَ يَوْمًا، يَلْتَقُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَيَقْتَتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ أَشَارَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مَرْوَانَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْمُوَادَعَةِ خَدِيعَةً ; فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ عَلَى الْحَقِّ، وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ. فَنُودِيَ فِي النَّاسِ بِذَلِكَ، ثُمَّ غَدَرَ أَصْحَابُ مَرْوَانَ، فَمَالُوا يَقْتُلُونَهُمْ قَتْلًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ أَصْحَابُ الضَّحَّاكِ صَبْرًا بَلِيغًا، فَقُتِلَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ فِي الْمَعْرَكَةِ، قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: زُحْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. مِنْ بَنِي كَلْبٍ، طَعَنَهُ بِحَرْبَةٍ، فَأَنْفَذَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ. وَصَبَرَ
مَرْوَانُ
وَأَصْحَابُهُ صَبْرًا شَدِيدًا حَتَّى فَرَّ أُولَئِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَنَادَى: لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ. ثُمَّ جِيءَ بِرَأْسِ الضَّحَّاكِ، وَيُقَالُ:
إِنَّ أَوَّلَ مَنْ بَشَّرَهُ بِقَتْلِهِ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ.
وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ الشَّامِ بِيَدِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ
بَكَى عَلَى نَفْسِهِ يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ، فَقَالَ: أَبَعْدَ مَا كَبِرْتُ
وَضَعُفْتُ صِرْتُ إِلَى أَنْ أَقْتُلَ النَّاسَ بِالسُّيُوفِ عَلَى الْمُلْكِ ؟ !
قُلْتُ: وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ فِي الْمُلْكِ إِلَّا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ عَلَى
مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَدْ كَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ الْأَكْبَرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ وَائِلَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ
فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، أَبُو أُنَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، أَحَدَ الصَّحَابَةِ عَلَى
الصَّحِيحِ، وَقَدْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ عِدَّةً، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
التَّابِعَيْنِ، وَهُوَ أَخُو فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَكَانَتْ أَكْبَرُ مِنْهُ
بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ عَمَّهُ. حَكَاهُ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ
مِنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
وُلِدَ الضَّحَّاكُ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِسَنَتَيْنِ.
وَقَدْ
شَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ وَسَكَنَهَا وَلَهُ بِهَا دَارٌ عِنْدَ حَجَرِ الذَّهَبِ،
مِمَّا يَلِي نَهْرَ بَرَدَى، وَكَانَ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ يَوْمَ صِفِّينَ مَعَ
مُعَاوِيَةَ. وَلَمَّا أَخَذَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ اسْتَنَابَهُ بِهَا فِي
سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ " أَنَّ الضَّحَّاكَ
قَرَأَ سُورَةَ " ص " فِي الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ بِالْكُوفَةِ، فَسَجَدَ
فِيهَا فَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلْقَمَةُ وَأَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي
السُّجُودِ.
ثُمَّ اسْتَنَابَهُ مُعَاوِيَةُ عِنْدَهُ عَلَى دِمَشْقَ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ
حَتَّى مَاتَ مُعَاوِيَةُ، وَتَوَلَّى ابْنُهُ يَزِيدُ، ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ
مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ ثُمَّ صَارَ أَمْرُهُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ
الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ كَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ حِينَ مَاتَ
يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ
السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، فِتَنًا كَقِطَعِ الدُّخَانِ،
يَمُوتُ فِيهَا قَلْبُ الرَّجُلِ كَمَا يَمُوتُ بَدَنُهُ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ
مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ
أَقْوَامٌ خَلَاقَهُمْ وَدِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ ".
وَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ قَدْ مَاتَ، وَأَنْتُمْ إِخْوَانُنَا وَأَشِقَّاؤُنَا
فَلَا تَسْبِقُونَا حَتَّى نَخْتَارَ لِأَنْفُسِنَا.
وَقَدْ
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، عَنِ
الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
بُوَيْهِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: دَخَلَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى
مُعَاوِيَةَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
تَطَاوَلَتْ لِلضَّحَّاكِ حَتَّى رَدَدْتُهُ إِلَى حَسَبٍ فِي قَوْمِهِ
مُتَقَاصِرِ
فَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَدْ عَلِمَ قَوْمُنَا أَنَّنَا أَحْلَاسُ الْخَيْلِ.
فَقَالَ: صَدَقْتَ، أَنْتُمْ أَحْلَاسُهَا وَنَحْنُ فُرْسَانُهَا. يُرِيدُ:
أَنْتُمْ رَاضَةٌ وَسَاسَةٌ، وَنَحْنُ الْفُرْسَانُ. وَأَرَى أَصْلَهُ مِنَ
الْحِلْسِ، وَهُوَ كِسَاءٌ يَكُونُ تَحْتَ الْبَرْدَعَةِ، أَيْ يَلْزَمُ
ظُهُورَهَا، كَمَا يَلْزَمُ الْحِلْسُ ظَهْرَ الْبَعِيرِ.
وَرَوَى أَيْضًا أَنَّ مُؤَذِّنَ دِمَشْقَ قَالَ لِلضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ:
وَاللَّهِ أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ
الضَّحَّاكُ: وَلَكِنِّي وَاللَّهِ أُبْغِضُكَ فِي اللَّهِ. قَالَ: وَلِمَ ؟
أَصْلَحَكَ اللَّهُ. قَالَ: لِأَنَّكَ تَتَرَاءَى فِي أَذَانِكَ، وَتَأْخُذُ
أَجْرًا عَلَى تَعْلِيمِكَ.
قُتِلَ الضَّحَّاكُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَذَلِكَ
لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. قَالَهُ اللَّيْثُ
بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالْوَاقِدِيُّ، وَابْنُ زَبْرٍ،
وَالْمَدَائِنِيُّ.
وَفِيهَا قُتِلَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ
وَأُمُّهُ عَمْرَةُ بِنْتُ
رَوَاحَةَ،
وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ
لِلْأَنْصَارِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ،
فَأَتَتْ بِهِ أُمُّهُ تَحْمِلُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ وَبَشَّرَهَا بِأَنَّهُ يَعِيشُ حَمِيدًا، وَيُقْتَلُ
شَهِيدًا، وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَعَاشَ فِي خَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَوَلِيَ
نِيَابَةَ الْكُوفَةِ لِمُعَاوِيَةَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ سَكَنَ الشَّامَ،
وَوَلِيَ قَضَاءَهَا بَعْدَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَفَضَالَةُ بَعْدَ أَبِي
الدَّرْدَاءِ. وَنَابَ بِحِمْصَ لِمُعَاوِيَةَ، وَهُوَ الَّذِي رَدَّ آلَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِأَمْرِ يَزِيدَ
لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى يَزِيدَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ
وَقَالَ: عَامِلْهُمْ بِمَا كَانَ يُعَامِلُهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رَآهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. فَرَقَّ لَهُمْ
يَزِيدُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَكْرَمَهُمْ، وَأَمَرَ بِإِكْرَامِهِمْ، ثُمَّ
لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ رَاهِطٍ وَقُتْلُ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ،
وَكَانَ النُّعْمَانُ قَدْ أَمَدَّهُ بِأَهْلِ حِمْصَ عَدَا عَلَيْهِ أَهِلُ
حِمْصَ فَقَتَلُوهُ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: يَيْرِينُ. قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ: خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ الْكَلَاعِيُّ. وَقِيلَ: خَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ. وَهُوَ
جَدُّ خَالِدِ بْنِ خَلِيٍّ، وَقَدْ رَثَتْهُ ابْنَتُهُ حُمَيْدَةُ بِنْتُ
النُّعْمَانِ فَقَالَتْ:
لَيْتَ ابْنَ مُرْنَةَ وَابْنَهُ كَانُوا لِقَتْلِكَ وَاقِيَةْ وَبَنِي أُمَيَّةَ
كُلَّهُمْ
لَمْ تَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةْ جَاءَ الْبَرِيدُ بِقَتْلِهِ
يَا لَلْكِلَابِ الْعَاوِيَةْ يَسْتَفْتِحُونَ بِرَأْسِهِ
دَارَتْ عَلَيْهِمْ ثَانِيَةْ فَلْأَبْكِيَنَّ مُسِرَّةً
وَلَأَبْكِيَنَّ عَلَانِيَةْ
وَلَأَبْكِيَنَّكَ
مَا حَيِيتُ
مَعَ السِّبَاعِ الْعَادِيَةْ
وَقِيلَ: إِنَّ أَعْشَى هَمْدَانَ قَدِمَ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَهُوَ
عَلَى حِمْصَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: مَا أَقْدَمَكَ ؟ قَالَ:
لِتَصِلَنِي وَتَحْفَظَ قَرَابَتِي وَتَقْضِيَ دَيْنِي. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
عِنْدِي، وَلَكِنِّي سَائِلُهُمْ لَكَ شَيْئًا. ثُمَّ قَامَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ،
ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ حِمْصَ، إِنَّ هَذَا ابْنُ عَمِّكُمْ مِنَ الْعِرَاقِ،
وَهُوَ يَسْتَرْفِدُكُمْ شَيْئًا فَمَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالُوا: احْتَكِمْ فِي
أَمْوَالِنَا. فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: قَدْ حَكَمْنَا مِنْ أَمْوَالِنَا،
كُلُّ رَجُلٍ دِينَارَيْنِ - وَكَانُوا فِي الدِّيوَانِ عِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ -
فَعَجَّلَهَا لَهُ النُّعْمَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، فَلَمَّا خَرَجَتْ أَعْطِيَاتُهُمْ أَسْقَطَ مِنْ عَطَاءِ كُلِّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ دِينَارَيْنِ.
وَمِنْ كَلَامِ النُّعْمَانِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَوْلُهُ: إِنَّ الْهَلَكَةَ
كُلَّ الْهَلَكَةِ أَنْ تَعْمَلَ بِالسَّيِّئَاتِ فِي زَمَانِ الْبَلَاءِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي رَوَاحَةَ يَزِيدَ بْنِ أَيْهَمَ، عَنِ
الْهَيْثَمِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ عَلَى
الْمِنْبَرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ:
"
إِنَّ لِلشَّيْطَانِ مَصَالِيَ وَفُخُوخًا، وَإِنَّ مِنْ مَصَالِيهِ وَفُخُوخِهِ
الْبَطَرَ بِنِعَمِ اللَّهِ، وَالْفَخْرَ بِعَطَاءِ اللَّهِ، وَالْكِبْرَ عَلَى
عِبَادِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعَ الْهَوَى فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ ".
وَمِنْ أَحَادِيثِهِ الصِّحَاحِ الْحِسَانِ مَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ،
وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا
يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ فَقَدِ
اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي
الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ،
أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ تَعَالَى
مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا
سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا
وَهِيَ الْقَلْبُ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: كَانَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ عَلَى حِمْصَ عَامِلًا
لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا تَمَرْوَنَ أَهْلُ حِمْصَ خَرَجَ النُّعْمَانُ
هَارِبًا، فَاتَّبَعَهُ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ الْكَلَاعِيُّ فَقَتَلَهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ تَزَوُّجَ
امْرَأَةً جَمِيلَةً جِدًّا، فَبَعَثَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ مَيْسُونَ أَوْ
فَاخِتَةَ ; لِتَنْظُرَ إِلَيْهَا. فَلَمَّا رَأَتْهَا أَعْجَبَتْهَا جِدًّا،
ثُمَّ
رَجَعَتْ
إِلَيْهِ فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِيهَا ؟ قَالَتْ: بَدِيعَةَ الْجَمَالِ، غَيْرَ
أَنِّي رَأَيْتُ تَحْتَ سُرَّتِهَا خَالًا أَسْوَدَ، وَإِنِّي أَحْسَبُ أَنَّ
زَوْجَهَا يُقْتَلُ وَيُلْقَى رَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا. فَطَلَّقَهَا مُعَاوِيَةُ،
وَتَزَوَّجَهَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ فَلَمَّا قُتِلَ أُلْقِيَ فِي حِجْرِ
امْرَأَتِهِ هَذِهِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ زَبْرٍ: قَتَلَ بِسَلَمْيَةَ سَنَةَ سِتٍّ
وَسِتِّينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ
سِتِّينَ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، صَحَابِيٌّ
صَغِيرٌ، أَصَابَهُ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلَّى فِي
الْحِجْرِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق